تناول اليوم قصة هي من أشهر الإسرائيليات المتعلقة بسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام وهي قصة السامري والعجل , لذا نتناول هذه القصة لنر كيف وردت في القرآن وكيف وردت في الروايات, حيث سنرى ترك نص القرآن واتباع الروايات:
والآيات المحورية في هذه الروايات هي قوله تعالى ” قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي [طه : 95 ,96] “
حيث ورد في شأن هذه القصة روايات عجيبة غريبة , تتلخص في أن موسى عليه السلام لما ذهب للقاء ربه واستبطأه قومه أخذ السامري القبضة من التراب التي كان قد أخذها من أثر حافر فرس جبريل عليه السلام – الذي كان قد رأه وعرفه وحده فقط دون باقي القوم, وقد عرف جبريل لأنه كان قد رباه في صغره !– عند عبوره البحر لكي يعبره بني إسرائيل خلفه ولا يخافوا من انطباق البحر عليهم , فأخذها وألقاها على الحلي التي كانت مع بني إسرائيل فتحولت إلى عجل من ذهب له خوار بطريقة فنية بسيطة وهي أن الهواء إذا دخل من دبره و خرج من فيه فيحدث هذا الصوت , ثم لما عاد موسى إلى قومه وجدهم يعبدون العجل فثار وغضب وألقى الألواح ……… إلخ القصة المعروفة .
و تلقى الكثير من العلماء هذه القصة كغيرها من الإسرائيليات بدون تمحيص وجعلوها التفسير المعتمد للآيات ورفضوا أي فهم آخر لها لوجود تفسير أثري للآية , ولكن لم يقبلها كل العلماء ولنا مع هذه القصة وقفة نوضح لم كانت هذه القصة باطلة :
أولا: إذا نظرنا إلى هذه الروايات من ناحية السند وجدنا أن كل هذه الروايات لم ترفع إلى النبي(ص)بل هي موقوفة على الصحابة , ولقد علق الإمام ابن كثير على أشهر هذه الروايات وهو حديث الفتون عن ابن عباس الذي يكاد يكون جامعا لقصة موسى من قبل مولده وتقتيل فرعون للمولودين الذكور إلى أن دخلوا التيه قائلا ” وهو موقوف من كلام ابن عباس وليس فيه مرفوع إلا قليل منه وكأنه تلقاه ابن عباس مما أبيح نقله من الاسرائيليات عن كعب الأحبار وغيره وسمعت شيخنا الحافظ المزي يقول ذلك أيضا ”
وهذه الروايات بعضها عن ” السدي ” وهو من هو في الوضع والتأليف , وبعضها عن محمد بن إسحاق صاحب السيرة الشهير ولكنه عنعن فيها وابن إسحاق مدلس شهير عند أهل الحديث وهو لم يصرح بالتحديث هنا .!! وباقي الروايات هي عن مجاهد وقتادة وهما ليسا صحابيين ولم يسندا ذلك إلى الصحابة أو يرفعاه إلى النبي بل حدثا بها والتابعي بالإجماع ليس بحجة .
إذا هي من ناحية السند ترجح أن تكون من الاسرائيليات وإذا نظرنا إليها من ناحية المتن وجدنا أنه يحتم أن يكون كذلك ولنرى لم كان متنها مخالفا للقرآن :
ثانيا : النقد من ناحية المتن :
بطبيعة الحال في هذه الروايات الكثير من المخالف للمعقول , لذا حاول المفسرون التوفيق بينها وبين العقل والآيات , ولكن جابهتهم الكثير من الصعاب , فبطبيعة الحال يفترض أن قوم موسى كلهم رأوا هذا الفارس يعبر الطريق بين الماء ليقتدوا به في العبور , فكيف عرف السامري أن هذا الفارس هو جبريل ؟ هل لجبريل علامة مميزة ؟
سيقال أن جبريل رباه وهو صغير , فنقول هذه الرواية أيضا مأخوذة عن أهل الكتاب , وحتى لو صحت فكيف عرفه ؟ هل لجبريل علامة مميزة كصوت أو ما شابه ؟
لا ليس له علامة مميزة فقد كان يأتي النبي ( ص) ولا يعرفه الصحابة وانظر حديث ” هذا أخوكم جبريل أتاكم يعلمكم أمور دينكم ” .
وإذا قلنا أنه عرف جبريل بشكل ما كيف عرف أن ترابه ينفذ له ما يريد ؟ فهل كل ما يخطو عليه الملائكة يصير ذا مفعول سحري ؟
ولا بد أن نلاحظ أن صاحب الأثر هو الفرس وليس جبريل عليه السلام فهل كان الفرس هو أيضا ملاكا وذا مفعول سحري أيضا ؟ ! هذا ما لا يكون ولكنها الخرافات والعقليات البدائية التي ألفت مثل هذه الأساطير .
ثم إذا كان الرسول هو جبريل عليه السلام فلم لم يوضح الرسول(ص)ذلك للصحابة ؟ فجبريل عليه السلام غير مشهور بالرسول حتى إذا ذكر الرسول عرف أنه بداهة أو أنه احتمال كبير في ذلك , فيكون تفسير الرسول بجبريل من باب التكليف بالغيب , وهو لم يذكر من أول السورة فعلام يعود التعريف في قوله ” ال رسول” وكما نعرف فإن ” ال ” لا بد أن تعود على شيء ما فتكون مذكور أو مشار إليه , فهي إما للعهد أو للجنس , فما عودها هنا ؟
ثم إن هذا التفسير يستلزم تقديرا إضافيا وهو ” من أثر حافر فرس الرسول ” , وهذا كله من باب التكلف وتحميل النص ما لا يحتمل , ومن باب التقول , فمن أين أتى هذا المفسر العبقري بهذا المحذوف في كتاب الله ؟
و الآية نفسها في غاية البساطة لو أننا فهمنا النص ذاته , لا ما يذكره ويضيفه بعض الأشخاص ثم نقع في حيرة التوفيق بين العقل والنص وبين النص والتفسير , ولكي نأول الآية لا بد أن نفهم مدلولاتها :
فنبدأ بالسؤال: من الرسول الذي ذكر في السورة ويمكن أن يعود الذكر أو العهد عليه بداهة؟
طبعا هو وبكل ببساطة سيدنا موسى عليه السلام أو هارون عليهما السلام , ولكن موسى هو الذي كان يخاطبه , فلو كان المراد موسى لقال ” فقبضت قبضة من أثرك ” ,
لذا فيمكننا أن نفهم أن المراد من الرسول هو هارون عليه السلام , [1]ويكون المراد أن موسى لما ذهب للقاء ربه , ألقى بنو اسرائيل الذهب الذي كانوا قد أخذوه من المصريين وأخذ السامري هذا الذهب وأخرج لهم بدلا منه عجلا جسدا له خوار .
قد يقول قائل : ولكن هناك آية تحدد أن العجل كان من الذهب وهي ” وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ…….. [الأعراف : 148] “ فهذا دليل على أن القول بالبدلية ليس سليما .
نقول تستعمل الحروف عامة بمعنى واحد , ولكن لا بد من النظر في السياق حتى نستطيع أن نحدد المعنى المراد تحديدا دقيقا , ففي هذه الآية على سبيل المثال نجد أن الله يقول ” و اتخذ قوم موسى ” ولم يقل وصنع أو وعمل أو وجعل , بل قال ” اتخذ ” , وانظر في قوله تعالى “ َأفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً [الكهف : 50]
, فما معنى ” من ” في هذه الآية ؟
نقول: لا يشترط أن يكون اتخذ من الشيء شيئا أن يكون بمعنى حول أو جعل وإنما قد يكون الشيء وسيلة إلى الشيء الآخر وبذلك قد أكون أتخذت منه شيئا آخرا, و بما أنه ثبت بطلان القصة الخرافية لجبريل وفرسه نجد أنه من الأولى حمل العجل ذا الخوار على عجل عادي .
وليس هذا فقط هو المبرر للقول باستعمال هذا المدلول ل ” من ” , ولكن الدافع لذلك أيضا هو تتبع القصة إلى آخرها فوجدنا أن موسى عليه السلام يقول للسامري : ” وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا ”
[1]و يمكن القول أن هارون كان موجودا معهم فيرجح أن يكون المراد هنا من الرسول هو موسى عليه السلام وهو من وضع الغائب موضع المخاطب فقد قال هذه الجملة السامري لموسى عليه السلام حكاية عما فعله عندما كان موسى غائبا فجعل المخاطب موضع الغائب كما كان الحال ساعة الفعل , ولكن هذا بعيد بعض الشيء.فهذا القول يوضح أن العجل كان عجلا عاديا وليس عجلا ذهبيا , لأنه حرق ثم نسف أي طير في الهواء وذري , و الذهب لا يحرق ولا ينسف .
وبطبيعة الحال وجد المفسرون مخرجا من هذا المأزق فقالوا استنادا إلى رواية عن قتادة ” استحال العجل إلى لحم ودم ” وكثير من اللف والدوران حتى يتم التوفيق بين الروايات والآيات , ولكن يمكننا الاستعاضة عن كل هذا التعقيد بالقول أن ” من ” هنا بمعنى ” الغاية أو التصيير و المآل ” وبذلك نفض هذا الإشكال بدون خوض في أمور مخالفة للعقل ويكون العجل عجلا عاديا فكلمة العجل أصل في الحيوان المعروف, و من يريد أن يخرجها عن هذا المعنى إلى معنى ” تمثال عجل ” فليأتنا بالدليل القاطع , والله أعلم .
ما معنى ” بصرت بما لم يبصوا به ” ؟
نقول : البصر إما أن يكون عيني أو قلبي عقلي , فهو رأى شيئا بقلبه أو بعينه لم يره بنو إسرائيل, ولعله رأى عجلا مما كان يعبده المصريون فخطرت في ذهنه الفكرة , أو رأى رأيا لم يره أحد منهم .
ما معنى ” القبض ” ؟
القبض كما ورد في المقاييس :
” (قبض) القاف والباء والضاد أصلٌ واحد صحيحٌ يدلُّ على شيء مأخوذٍ، وتجمُّع في شيء.
تقول: قَبَضْتُ الشَّيءَ من المال وغيرهِ قَبْضاً. ومَقْبِض السَّيف ومَقْبَضُه: حيث تَقبِضُ عليه. والقَبَض، بفتح الباء: ما جُمِعَ من الغنائم وحُصِّل. يقال: اطرَحْ هذا في القَبَض، أي في سائر ما قُبِض من المغْنَم. وأمَّا القَبْض الذي هو الإسراع، فمن هذا أيضاً، لأنَّه إذا أسرَع جَمَع نَفْسَهُ وأطرافَه. قال الله تعالى: {أوَلَمْ يَرَوْا إلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمسِكُهُنَّ} [الملك 19]، قالوا : يُسْرِعْن في الطَّيَران . وهذه اللّفظَةُ من قولهم : راعٍ قُبَضةٌ ، إذا كان لا يتفسَّح في مَرعى غَنَمه . يقال : هو قُبَضَةٌ رُفَضَةٌ ، أي يَقبِضُها حَتَّى إذا بَلَغَ المكانَ يؤُمُّه رَفَضها. ويقولون للسَّائق العنيف : قبَّاضةٌ وقابض . قال رؤبة :
قبّاضَةٌ بينَ العنيفِ واللَّبِقْ , ومن الباب: انقبَضَ عن الأمر وتقبّض ، إذا اشمأَزّ ” اهـ
إذا فالقبض ليس مرتبطا فقط بقبضة الإنسان الموجودة في يده
.
ويكون تأويل الآيات هو : لما رجع موسى إلى قومه وعلم ما حدث , سأل السامري لم فعل ما فعل ؟
فقال: بصرت بما لم يبصروا به أي عرفت ما لم يعرفوه أو رأيت ما لم يره أحد ,- ولا بد من وجود أي فهم أو فكر مع النظر حتى يسمى بصرا ” وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ [الأعراف : 198] “ – , فقبضت قبضة من أثر الرسول .
وهنا مثار الإشكال اللغوي حيث يرى البعض أن المعنى اللازم لهذه الكلمة هو ما قالوه من أنه أخذ مقدار قبضة من أثر حافر فرس الرسول , ونحن نرى أن المراد من القبض هنا هو المعنى اللغوي المألوف أي أنه جمع أشياء من أثر الرسول فنبذها أي هجرها وطرحها , فهو أخذ شيئا من أثر موسى فهجره وتركه [1] .
وطبعا لم يحدد لنا القرآن ما هو الشيء الذي نبذه السامري من أثر الرسول – ولكن هو كما نعتقد شيئا من تعاليم الدين مثل كون الله لا يرى أو لا شبيه له أو لا يتجسم – فنبذها وهجرها وكذلك سولت له نفسه .
وهذا التأويل قد يبدو بعيدا بعض الشيء لألفة الناس استعمال مدلول واحد للكلمة , مع أن الكلمة يكون لها أكثر من معنى ومدلول ويختلف مدلولها تبعا للتركيبة اللغوية التي تقع فيها . وهذا التأويل فهم مباشر للآية بعيد عن التعقيدات والافتراضات و هو تأويل لغوي معتمد على النص لم يزد فيه حرفا واحدا , والله أعلم .
أما الخوض فيما لا طائل من وراءه , مثل السؤال من هو السامري ؟
ومثل القول بأن جبريل عليه السلام هو الذي كان يربي السامري وهو صغير في مغارة , فهذه أقوال لا دليل لها في القرآن , و في نفس الوقت لا علاقة لها بالآية أو الحدث المعروض في الآية , أو الهدف الذي ذكرت من أجله الحدث , فهذا ما لا علاقة له بالتفسير أو التأويل , بل هو من حكاوي القصاصين الذين كانوا يريدون أن يستحوذوا على قلوب العوام , والله أعلم .
إذا الغاية من هذه القصة كاملة معرفة حال بني إسرائيل بعد ترك موسى لهم , وكيف خدعهم السامري هذا , و مآله وما صار إليه وتنزيه هارون عليه السلام عن الشرك والاشتراك في صنع العجل .
[1]هناك من يرى أن هذه تركيبة لغوية ذات دلالة محددة , تعطي معنى من الجملة كلها , فيكون المراد من القول ” فلان يقبض أثر فلان ” فإن المراد هو أنه يمتثل رسمه و يقتفي أثره – , فهم يأخذون المعنى على أنها تركيبة لغوية كاملة تأتي بمعنى محدد , فيكون المعنى قد كنت أتبعك و أقتدي بك فأخذت شيئا من سنتك ………. إلخ الآية .هدانا الله وغفر لنا أجمعين .