الوطء في المحيض! والشبهة المختلقة!!

حديثنا اليوم بإذن الله وعونه عن حكم من أحكام الكتاب العزيز! ولقد اكتسب هذا الأمر شهرة كبيرا, بسبب الفهم الخاطئ للآية, والذي به حُكم على فعل النبي الكريم بمخالفة الكتاب العزيز, وحُكم عليه وعلى أزواجه المطهرات بالشهوانية! وعلى النقيض تماما وجدنا من رد الروايات بحجة مخالفتها للكتاب العزيز!

لذا نتوقف مع هذه الآية لنبصر كيف أخطأ المفسرون تفسير الآية, ومن ثم أوجدوا مطعنا للطاعنين في النبي نفسه أو في الروايات المنقولة عنه!
والحكم الذي سيدور حوله حديثنا هو علاقة الرجل بزوجه في أثناء فترة الحيض! والذي حصره المفسرون والفقهاء في العلاقة الجنسية! ولأن الآية التالية لآيتنا متعلقة بها, فسنوردها ونتحدث عنها كذلك:

“وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة : 222-223]”

وقبل أن نتناول هاتين الآيتين وننظرَ أقوال المفسرين, نتوقف مع الروايات الواردة عن النبي الكريم والتي يشكك فيها فريق ويتخذها آخرُ مطعنا:
“روى الإمام البخاري عن الأسود عن عائشة قالت: كنت أغتسل أنا والنبي في إناء واحد, كلانا جنب, وكان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف فأغسله وأنا حائض ….
وكذلك عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضا فأراد رسول الله أن يباشرها, أمرها أن تتزر في فور حيضتها ثم يباشرها.
كما روى الإمام مسلم عن ميمونة زوج النبي (ص): كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضطجع معي وأنا حائض وبيني وبينه ثوب”
ومن أمثال هذه الروايات كثير, ونتوقف لنتساءل:

بغض النظر عن الآية (لأنها ليست كما يقولون) ما العيب الحرج في أن يباشر الإنسان زوجه في حال الحيض مباشرة خارجية؟!
العجب كل العجب أن يرى فريق أن هذا الفعل –بغض النظر عن فاعله- يثير الاشمئزاز! وأعجب, هل اختلفت المرأة في حيضها عنها في غير حيضها؟
إن الجسد واحد, والاختلاف كله في الفرج! وهو متجنب! فكيف يُشمأز منها؟!
وفريق آخر يرى أن هذا الفعل انسياق من النبي الكريم مع شهواته! فكيف يكون للنبي الكريم هذا العدد من النساء, وعلى الرغم من ذلك يترك الطاهرة ويباشر الحائض؟ فلم لا يضاجع الطاهرة, أو يترك الحائض أصلا؟!

ونرد على هؤلاء المثاليين قائلين: إن فعل النبي الكريم هذا هو قمة الرجولة –وليس الفحولة- من محمد الإنسان النبي!
فلقد كان النبي الكريم متزوجا من تسع نساء, وكان لكل واحدة منهن يوما, أي أن النبي الكريم كان يبيت عند كل واحدة منها ثلاث مرات في الشهر فقط!

فإذا كان بجانب النبي الكريم كل يوم امرأة مختلفة, إلا أن الوضع مختلف بالنسبة للمرأة, فبجانبها رجل كل تسعة أيام!
أي إنه إذا كانت المرأة حائضا فهذا يعني أنه سيمر عليها 17 يوما بدون ممارسة جنسية!! والمرأة بحاجة إلى من يشعرها بأنوثتها! فالمرأة تشعر بأنوثتها من خلال جسدها, فهي تعلم أنها إنسان جسد! ولله در الرافعي عندما قال: “لقد قضت الطبيعة!! أن تكون المرأة سعادة للآخرين!!”

فإذا لم يلتفت الرجل إلى هذا الجسد ويتغزل ويعبث فيه أحبطت المرأة أيما إحباط! وإني لأجزم –من خلال نظري وتحليلي لنفسية العظماء- أن الأمر كان بالنسبة للنبي الكريم من “الواجبات” التي يؤديها بالدرجة الأولى من أجل إسعاد الآخرين, ثم تأتي نفسه في الدرجة التالية, (ولا نقول أنه لم يكن يتلذذ, وإنما الدافع الأول هو إسعاد الطرف الآخر!)

لذا فعلينا أن نصحح منظورنا للمسألة, وهي أنه كان لكل زوج من أزواج النبي يوم كل تسعة أيام, ومن غير المقبول أن يضاجع النبي امرأة أخرى غير صاحبة اليوم, كما أنه إذا كان من السهل على النبي الكريم ترك مضاجعة الحائض, إلا أن هذا كان سيزيد من سوء الحالة النفسية التي تمر بها أصلا!

إن المرأة تشعر بالقلق والتوتر في هذه الأيام, لإحساسها أنها فاقدة لأهم أسلحتها “أنوثتها”, والواجب على الزوج في هذه الأيام أن يكثر من مداعبة زوجه والاهتمام بها, حتى لا تشعر أنه مفارق لها أو راغب عنها!

وفي مثل حال النبي الكريم (حيث هناك يوم لكل زوجة) من المستحب الممارسة الخارجية إرواءً لشهوة المرأة وإرضاء لها وإطفاء لنار غيرتها من ضرارئها, اللاتي يقدمن للرجل ما لا تستطيع هي أن تقدمه هي في مثل هذه الأيام.


وفي ختام حديثنا وقبل تناولنا للآية نقول:
إن الحديث عن الجنس باعتباره دنسا وقذرا ليس من دين الله في شيء, وإنما هو من احتياجاتنا الرئيسة, كما أنه من نعم الله على عباده, وعلى كلٍ منا أن يتنعم بها في الحلال, فلنكف عن تلك النظرة المسيحية الصبغة للجنس, وعن تصورنا أن التدين يعني قتل رغبات الجسد!

تحليل الآية:
بعد أن عرضنا لموقف المثاليين من الجنس! ننتقل لنتناول الآية, لنُري القارئ الكريم, كيف أن الانحراف عن النص القرآني هو منبت كل طعن ومستند كل طاعن! ونبدأ تناولنا للآية بعرض أقوال المفسرين فيها, معلقين عليها, ثم نبدأ تحليل الآية بعد ذلك, ونعرض هنا ما قاله الإمام الفخر الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب, حيث قال:

“رُوي أن اليهود والمجوس كانوا يبالغون في التباعد عن المرأة حال حيضها، والنصارى كانوا يجامعونهن، ولا يبالون بالحيض، (وينكر النصارى هذا القول ويرون أنهم في هذا الحكم تابعون لشريعة موسى! وأنهم أيضا يستقذرون هذا الفعل –عمرو-)

وأن أهل الجاهلية كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها، ولم يشاربوها ، ولم يجالسوها على فرش ولم يساكنوها في بيت كفعل اليهود والمجوس. فلما نزلت هذه الآية أخذ المسلمون بظاهر الآية فأخرجوهن من بيوتهن (وهذا من عجيب القول, فلو أُخذ بظاهر الآية –تبعا لفهم المفسرين للظاهر!- لخرج الرجال من البيوت وتركوا النساء فيها! –عمرو-)
فقال ناس من الأعراب : يا رسول الله البرد شديد، والثياب قليلة ، فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت، وإن استأثرناها هلكت الحيض، فقال عليه الصلاة والسلام : ” إنما أمرتكم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن، ولم آمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم” ” اهـ
وهذا الفعل من اليهود والمجوس يدل على أنها مما كان في الكتب السابقة, وأنهم كذلك أخطأوا تطبيق الآية!!

ونستكمل ما قاله الإمام الفخر الرازي:
“اعلم أن أكثر المفسرين من الأدباء زعموا أن المراد بالمحيض ههنا الحيض، وعندي أنه ليس كذلك ، إذ لو كان المراد بالمحيض ههنا الحيض لكان قوله: { فاعتزلوا النساء فِي المحيض} معناه: فاعتزلوا النساء في الحيض، ويكون المراد فاعتزلوا النساء في زمان الحيض، فيكون ظاهره مانعاً من الاستمتاع بها فيما فوق السرة ودون الركبة. (هنا بدأ الانحراف عن النص, وسنرى ذلك جليا في تناولنا للآية –عمرو-)

ولما كان هذا المنع غير ثابت لزم القول بتطرق النسخ أو التخصيص إلى الآية ، ومعلوم أن ذلك خلاف الأصل أما إذا حملنا المحيض على موضع الحيض كان معنى الآية : فاعتزلوا النساء في موضع الحيض، ويكون المعنى : فاعتزلوا موضع الحيض من النساء ، وعلى هذا التقدير لا يتطرق إلى الآية نسخ ولا تخصيص ، (……..)

واعلم أن الأذى في اللغة ما يكره من كل شيء وقوله : { فاعتزلوا النساء فِي المحيض } الاعتزال التنحي عن الشيء ، قدّم ذكر العلة وهو الأذى ، ثم رتب الحكم عليه ، وهو وجوب الإعتزال.

فإن قيل : ليس الأذى إلا الدم وهو حاصل وقت الاستحاضة مع أن اعتزال المرأة في الاستحاضة غير واجب فقد انتقضت هذه العلة .
قلنا : العلة غير منقوضة لأن دم الحيض دم فاسد يتولد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من طريق الرحم ، ولو احتبست تلك الفضلة لمرضت المرأة ، فذلك الدم جار مجرى البول والغائط ، فكان أذى وقذر ، أما دم الاستحاضة فليس كذلك ، بل هو دم صالح يسيل من عروق تنفجر في عمق الرحم فلا يكون أذى ، هذا ما عندي في هذا الباب ، وهو قاعدة طيبة ، وبتقريرها يتلخص ظاهر القرآن من الطعن والله أعلم بمراده . (…………)

أما قوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ الله } فاعلم أن قوله : { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ } أي ولا تجامعوهن ، يقال قرب الرجل امرأته إذا جامعها ، وهذا كالتأكيد لقوله تعالى : { فاعتزلوا النساء فِي المحيض } (وبسبب الانحراف الأول, كان لا بد أن يقع الانحراف الثاني هنا فيُعطف الشيء على نفسه!! –

ويمكن أيضاً حملها على فائدة جليلة جديدة وهي أن يكون قوله : { فاعتزلوا النساء فِي المحيض } نهياً عن المباشرة في موضع الدم وقوله : { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ } يكون نهياً عن الالتذاذ بما يقرب من ذلك الموضع . (…………)

اختلفوا في المراد بقوله تعالى : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } وفيه وجوه الأول : وهو قول ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وعكرمة : فأتوهن في المأتي فإنه هو الذي أمر الله به ، ولا تؤتوهن في غير المأتي ،
: { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } أي في حيث أمركم الله ، كقوله : { إِذَا نُودِىَ للصلاة مِنْ يَوْمِ الجُمعة } [ الجمعة : 9 ] أي في يوم الجمعة .
الثاني : قال الأصم والزجاج : أي فأتوهن من حيث يحل لكم غشيانهن ، وذلك بأن لا يكن صائمات ، ولا معتكفات ، ولا محرمات.

الثالث: وهو قول محمد بن الحنفية فأتوهن من قبل الحلال دون الفجور، والأقرب هو القول الأول لأن لفظة { حَيْثُ } حقيقة في المكان مجاز في غيره.” اهـ

وبعد أن قدمنا للقارئ نماذج من أقوال المفسرين في الآية, نبدأ تحليلها ليعرف أين حدث الانحراف عن النص, ونبدأ بسم الله وعليه الاتكال:

تبدأ الآية بالتعريف بأن ما فيها هو رد على سؤال طُرح على النبي الكريم, ولقد جاء الفعل “يسألونك” ثلاث عشرة مرة في القرآن الكريم, منها مرتان عن مسئول واحد وهو: الساعة أيان مرساها, فيكون المسئول عنه اثنا عشر مسئولا!

إذا نظرنا في هذه الآية وجدنا أن المسئول عنه هو: المحيض:
“وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ”, فما هو المحيض؟
اختلف المفسرون في المحيض, فقالوا أنه الحيض (وليس كذلك لأن الغياب ليس مثل المغيب!!) أو موضع الحيض أو زمان الحيض!
والمعنى الذي يمكن قبوله للمحيض هو أن يكون شيئا يمكن اعتزال النساء فيه!, لا أنه هو الذي يُعتزل من النساء!! فلقد قال الرب بعد ذلك: “فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ”, والذي جعله الإمام الفخر الرازي بمعنى: ” فاعتزلوا موضع الحيض من النساء”, ليجعل القول بأن المحيض هو موضع الحيض هو القول الصحيح!

كما يجب أن يكون “أذى”, ولا يمكن أن يكون زمان نزول الدم أذى! فما هو المحيض إذا؟

الذي نقول به –والله أعلى وأعلم- أن المحيض هو (عملية, فعل) نزول الدم نفسه, فلقد كان السؤال عن نزول الدم على المرأة, لماذا تحيض المرأة؟!

فجاء الرد من الله العليم: “قُلْ هُوَ أَذًى”, أي أن ما ينزل من المرأة هو أذى موجود بداخلها, فلو لم ينزل لضر الجسم, لذا فإن الجسم يقوم بإخراجه, كما يقوم بإخراج الفضلات! فالبويضة التي تنزل كل شهر, استعدادا لاستقبال المني لتكون طفلا, عندما لا تُلقح تفسد, وتصبح أذى ومن ثم وجب إخراجها!

وتكرار كلمة المحيض في الآية دليلٌ على ما نقول, فلقد قال الله: “وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ”, ولم يقل: فاعتزلوا النساء فيه! وذلك لأن الحديث عن المحيض, وهو غير الأذى! ولو كان المراد من المحيض هو الدم, كما يرى كثير من الفقهاء والمفسرين, لما كان هناك فارق كبير ولا حاجة إلى التكرار! أي أنه يجب اعتزال النساء في أثناء هذه العملية!

وهذا الأذى لا ينحصر تأثيره على المرأة فقط, وإنما يتعداه إلى الرجل كذلك –في حالة معينة- لذلك ترتب عليه حكمان قادمان! وهما قوله تعالى:
” فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ”

والمشكلة الكبرى التي وقع فيها عامة المفسرين أنهم جعلوا الأمر والنهي بمعنى واحد! فعدم القرب هو بمعنى الاعتزال, ولذلك رأينا الإمام الفخر الرازي يبرر ورود النهي “ولا تقربوهن” بأنه توكيد أو للطيفة!! أما نحن فنفهم أن هذا الحكم غير ذاك, فهذا أمر بشيء وذاك نهي عن آخر!!

وفهمهم المعوج هذا نابع من صرفهم معنى اعتزال النساء إلى المعنى الجنسي! كما أنهم لم يعطوا معنى دقيقا للاعتزال, لذا كان لزاما أن يحدث هذا الخطأ!

ونبدأ أولا بتحديد معنى الاعتزال, فنقول:
إذا نظرنا في المعاجم اللغوية مثل لسان العرب, وجدناه يقول:
“عَزَلَ الشيءَ يَعْزِلُه عَزْلاً وعَزَّلَهُ فاعْتَزَلَ وانْعَزَلَ وتَعَزَّلَ: نَحَّاه جانِباً فَتَنَحَّى.
وقوله تعالى: إِنَّهُم عن السَّمْع لَمَعْزولون؛ معناه أَنَّهم لَمَّا رُمُوا بالنجوم مُنِعوا من السَّمْع. واعْتَزَلَ الشيءَ وتَعَزَّلَه، ويتعديان بعَنْ: تَنَحَّى عنه. ……….. والعُزْلةُ الانْعِزال نفسُه، يقال: العُزْلةُ عِبادة. وكُنْتُ بمَعْزِلٍ عن كذا وكذا أَي كُنْتُ بموْضع عُزْلةٍ منه. واعْتَزَلْتُ القومَ أَي فارَقْتهم وتَنَحَّيت عنهم؛ …….. ” اهـ

ولا حرج في القول بأن الاعتزال بمعنى التنحي! ولكن الإشكال كل الإشكال في فهمه بمعنى المفارقة! فلم يستعمله الله عزوجل في كتابه أبدا مشيرا إلى المفارقة! فعندما أراد الحديث عن المفارقة قال:
“فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً [الطلاق : 2]
وعندما أراد الحديث عن قطع العلائق تماما مع عدم المفارقة المكانية استعمل “الاجتناب”: “وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ [الزمر : 17]”

أما المعتزل فيكون مختلطا بمن اعتزله, إلا أن تعامله معه يقل جدا وينحصر في أشكال معينة يحتاج إليها المُعتَزِل!
ونعرض الآيات الخمس, التي جاء فيها الحديث عن الاعتزال, لنبصر كيف أن الاعتزال يكون مع الاختلاط والتعامل:
أول آية هي قول الله تعالى للمؤمنين:
“إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً [النساء : 90]”
فهؤلاء قوم لهم تعامل وعلاقة مع المسلمين, واعتزالهم هنا ليس بمعنى ذهابهم إلى مكان ما, وإنما بمعنى ترك المسلمين في حالهم! فلم يقاتلوهم وألقوا السلم, فليس للمسلمين عليهم سبيلا!

فإذا انتقلنا إلى الآية التالية وجدنا الرب العليم يقول:
“وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً [الكهف : 16]”

فكما نرى فالاعتزال كان وهم مخالطون لقومهم, إلا أنهم يتجنبون الخوض معهم في مسائل الاختلاف! وترتب على هذا الاعتزال أنهم أووا إلى الكهف!

فإذا انتقلنا إلى الآيتين التاليتين وجدنا المولى يحكي قول الخليل لقومه:
“وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً [مريم : 48-49]”

فبيّن قوله تعالى “ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله” أن اعتزاله كان مع وجوده بينهم! فبغض النظر عن أنه لو كان ترك البلدة لكان مهاجرا وليس معتزلا, فإن قوله تعالى: “وما يعبدون من دون الله” يدل على أنه كان يعيش بينهم, وإلا لما كان للحديث عن آلهتهم في بلد أخرى معنى معقول!!

ونصل إلى الآية الأخيرة, والتي لم يستطع أحد من المفسرين أن يقول فيها أن الاعتزال كان مفارقة, وقالوا بما قلنا به في معنى الاعتزال, وهي قوله تعالى:
“وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [الدخان : 21]”
فلقد قال الإمام الفخر الرازي: “فاعتزلون” أي اخلوا سبيلي لا لي ولا علي.
وقال الإمام الألوسي:
“{ وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ فاعتزلون } فكونوا بمعزل مني لا علي ولا لي ولا تتعرضوا لي بسوء, فليس ذلك جزاء من يدعوكم إلى ما فيه فلا حكم، وقيل: المعنى وإن لم تؤمنوا لي فلا موالاة بيني وبين من لا يؤمن فتنحوا واقطعوا أسباب الوصلة عني،
ففي الكلام حذف الجواب وإقامة المسبب عنه مقامه والأول أوفق بالمقام، والاعتزال عليه عبارة عن الترك وإن لم تكن مفارقة بالأبدان.” اهـ

إذا فكما رأينا فليس الاعتزال بمعنى المفارقة ولا الاجتناب والا الهجر, وإنما بمعنى ترك الإنسان وشأنه, فيكون تعامل الرجال مع النساء في هذه الفترة من باب الطلبات الرقيقة ولا تُكلف بالأعمال الكثيرة, فتُرفع الواجبات المنزلية من على المرأة في تلك الفترة (فإن شاءت فعلت وإن شاءت أجلت إلى ما بعد انقضاءها), ومن غير المقبول أن يُرفع عن المرأة في تلك الفترة كتاب الصلاة, ثم تظل ملزمة بواجباتها المنزلية!

كما أن الاعتزال ليس بمعنى ترك الجنس! ولست أدري لماذا انصرفت أذهان المفسرين إلى الجنس, عند الحديث عن اعتزال النساء!!! فكأنه لا علاقة بين الرجال والنساء إلا الفراش!!! ربما لورود الروايات التي تحدثت عن العلاقة الجنسية! ولكن الروايات الواردة كانت متعلقة بالنهي: “ولا تقربوهن”, فما الذي جعلهم يسقطونها على الاعتزال؟!!!

فإذا تركنا الاعتزال وانتقلنا إلى الحكم التالي؛ وهو قوله تعالى: “وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ”, وجدنا أنه مؤكد لما نقول في أن الاعتزال ليس بمعنى التجنب أو المفارقة, فلو كان كذلك, لما كان هناك معنى للنهي عن الجماع!! فعندما تكلم المولى عن الخمر أمرنا باجتنابها, ولم يعد لينهانا عن شربها!! فمن غير المعقول أن يُشرب ما هو بعيد عن الإنسان!! أما المعتزِل فهو غير مفارق للمعتَزَل, لذلك ورد النهي عن قرب النساء!!

وحتى لا يقول أحد أن النهي عن القرب هو بمعنى النهي عن أي شكل من أشكال الاتصال الجسدي, نُذكر بأن الله تعالى نهى عن القرب حتى الطهر, كما أن النهي متعلق ب “هو أذى”, فدل ذلك كله على أن المراد من النهي هو النكاح في الفرج, الذي يصدر منه الأذى! وما عدى ذلك فليس فيه أي إشكال!

فما الاختلاف بين المرأة الحائض وغير الحائض إذا كانت ترتدي “لباسا” يستر فرجها؟! وما الأذى الصحي الذي يلحق بالرجل, إذا اضطجع مع امرأة حائض وكانت ترتدي ما يستر فرجها؟!!

إن الله رحيم بعباده, فما الذي يفعله الرجل أو المرأة إذا اشتدت شهوة أحدهما في هذه الأيام, أو كان عائدا من سفر طويل فوجدها على هذه الحالة, أيتجه الإنسان إلى الحرام, أم أن ممارسة جزئية تؤدي الغرض؟!!

ونعود فنذكر أن المرأة قد تشعر أن الرجل قد ينفر منها بسبب دورتها, والروائح التي قد تصدر عنها, فأن يأتي الرب العليم الرحيم فيمنع الرجل من أن يقبل زوجته أو أن يأخذها في أحضانه, فإن هذا يعني أن الله تعالى يعاقب المرأة بحرمانها من الحنان في هذه الأيام!!!!!!!!!!

وإذا قلنا أنه لا بأس بقبلةٍ وأحضان, فهل من الممكن أن تكون هناك قبلة وأحضان جائزة (البريئة) وأخرى غير جائزة (المقترنة بشهوة), مع إمكانية تحول أيٌ منهما إلى النوع الآخر؟!

بداهة, هذا من غير الممكن, أما الممكن فهو أن تعطي المرأة الحب والحنان, بل وتروي شهوتك وشهوتها, مع اجتناب فرجها! وليس هذا بالعسير ولا المستحيل!

إذا وكما رأينا, فالمنهي عنه هو قرب النساء في فروجهن حتى يطهرن بانقطاع الدم, فإذا تطهرن بالغسل, فيأمرنا الله عزوجل بأن نأتيهن من حيث أمرنا سبحانه, في قوله:
” نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة : 223]”

فنأتي النساء من موضع الحرث, على أي وضع شئنا وأردنا, فالله عزوجل لا يريد أن تكون علاقتنا الجنسية بالنساء علاقة شهوانية محضة, وإنما ننظر إليهن على أنهن موضع استنبات الولد, فنحن مأمورون بإتيان النساء من أجل استمرار النسل وتواصل الجنس البشري!

فالله يحب التوابين ويحب المتطهرين, الذين يجتنبون نكاح المشركات كما يجتنبون وطء الحائضات, فحتى في العلاقة الإنسانية بين الرجل والمرأة هناك انتقاء للموطن الذي يضع الإنسان فيه بذرته, وليست المسألة شهوانية محضة. والله أعلى وأعلم.

إذا, يظهر لنا في نهاية المطاف أن طعن الطاعنين في فعل النبي واتهامه بالشهوانية, وأن طعن آخرين في الروايات الصحيحة المنقولة عن النبي راجع إلى قلة تدبر ونظر في كتاب الله, كما يظهر أن فعل النبي الكريم راجع إلى علو أخلاقه, وأنه ما ينبغي على المسلم فعله, لا الاستحياء منه!

هدانا الله وإياكم لما فيه الخير والرشاد, والسلام عليكم ورحمة الله.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

الإنسان ليس مجبرا

جاءني سؤال يقول:هل الانسان مجبر عن البحث عن حقيقة الكون والغاية من الحياة، فقد يقول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.