عينا يشرب بها المقربون!

لحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم مالك يوم الدين, وصلاة على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى من اقتدى بهدي النبيين المرسلين إلى يوم الدين, ثم أما بعد:

سأل الأخ السيف البتار سؤالا عن استعمال حرف الباء, فقال:
“اريد ان اسال عن اية
قال الله تعالى(عينا يشرب بهاالمقربون)
حيث فيها تفاسير كثيرة منها:

عينا يشرب منهاومنها: عينايروى بها, على تضمين الفعل فى بلاغة القرانومنها عينا يشربها عباد الله وهومن باب الادغام او الزيادة للباءومنها عينا يمزج بها الخمر عباد الله ومنها عينا يلتذ بها عباد اللهومنها عينا يشرب معها عباد الله تقول شربت اللبن بالعسل اى مع العسل وهو المعية
ومعلوم ان العين لايشرب بهابل منها ؟ لماذا قال بها وان الذى يشرب الماء فلما قال عينا؟
فلم يقل عينا يشربمائها عباد الله او غيرهاوهذة المعانى تدور بين اصالة الحرفوزيادتةفما هو المعنى الصحيح للاية الموافق لظاهر الاية ومقامها, ومعلومان لاتناوب بين الحروف فى القران بل كل حرف موضوع فى مكانه والا ما قال الله بهاوقال منها بل انه فى اول الاية قال من كاس
وفى الاية الاخرى قال عينا يشرب بها دليل على الاختلاف بين المعنيين للايتان
اارجو الاجابة على السؤال وتوجيههللمعنى الصحيح ثم نقد والرد على الاراء الاخرىانا بالانتظار………؟” اهـ

ونقول: ليس في الأمر أي تبديل أو غرابة, والواجب هو استعمال الباء, كما استعملها الرب العليم! والمشكلة كلها مجددا هي نزع الآية من سياقها! فلو نظرنا إليها في السياق لما ظهرت أي مشكلة!

وإذا نحن نظرنا في كتاب الله تعالى, وجدنا أن “يشرب ب” وردت في موضعين اثنين, في سورة الإنسان وفي سورة المطففين, وكلاهما عن شرب طائفة من أهل الجنة!

فإذا نظرنا في سورة الإنسان وجدنا المولى يقول:
“إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً [الإنسان : 6]”
فالأبرار يشربون من كأس, -ولا يكون الكأس في اللسان كأسا إلا إذا كان به شراب!- والشراب الموجود في الكأس شراب مركز شديد ويحتاج إلى التخفيف, ولهذا فإن مزاجه (ما يُمزج به) كان كافورا!

وهذا الشراب الممزوج بالكافور هو عين موجودة في الجنة, ولأن أصحاب الجنة يتنقلون فيها حيثما شاءوا, فأينما احتاجوا إلى الشرب فجروها تفجيرا! فيضربون الأرض فتنفجر العين بالشراب الممزوج بالكافور, فيشربون!
إذا, لأن العين هي الوسيلة التي يستطيعون بها أن يشربوا استعمل الله عزوجل الباء!

ولأن المولى يركز على العين وعلى كونها ممتدة في الجنة وأن الأبرار يفجرونها حيثما شاءوا, ذكر العين, فلولا وجودها وامتدادها لم استطاعوا الشرب! ومفهوم أن الإنسان يشرب ما يخرج من العين, ولم تهمل الآية هذه الجزئية فقالت: يفجرونها تفجيرا, أي أنهم يضربون الأرض فتخرج الشراب الممزوج بالكافور, فيوضع في الكأس فيشربون!
ولو قال الله: “من” لكان من المحتمل أن يُفهم أنهم يشربون من العين مباشرة!!

فإذا انتقلنا إلى آية المطففين, وجدنا أن العلة هي ذاتها, والتي من أجلها استعمل المولى الباء, فنجد المولى يقول:
“يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [المطففين : 28]”

فالأبرار يسقون من شراب مركز صاف, (والرحيق هو الصافي الخالص, وقيل أنه اسم من أسماء الخمر, وربما سُميت ذلك لأنها تُستخلص وتصفى من موادها الأولية, إلا أن الرحيق ليس الخمر, لأن المولى ذكر أن خمر الجنة في أنهار:
“وأنهار من خمر لذة للشاربين”, أما هذا فمختوم)

وفي نهاية هذا الشراب يجدون رائحة طيبة (ولقد اعتبر الإمام ابن فارس أن تسمية المسك بالمسك من الشواذ! لأنه رأى أن المسك “أصل واحد صحيح يدلُّ على حَبْس الشيء أو تحبُّسه. ……ومما شذَّ عنه المِسْك من الطيب. ” اهـ

ولست أدري ما الشذوذ في ذلك, فلقد سُمي بذلك لشدة تمسكه بما وُضع عليه, ولطول فترة ملازمته له, فكأنه ممسك به لا يفارقه, لذا فلا شذوذ”

وهذا الشراب الصافي المركز يُمزج بالتسنيم, فبالتسنيم يخفف البر الشراب إذا أراد! وبه يستطيع أن يشرب!
والفارق بين آية الإنسان وآية المطففين أن الشراب في الإنسان كان ممزوجا مسبقا:
” كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً” (وليست: كان, زائدة كما قال بعض المفسرين!!)
أما هنا فاستعمل الله الاسم, فلم يشر إلى زمن المزج, فقال:
“ومزاجه من تسنيم”, أي أن الممزوج به هو من تسنيم.
ولأن السنم أصل يدل على العلو والارتفاع احتار المفسرون في المراد من التسنيم, فقيل أنه الماء الجاري الظاهر على الأرض! وقيل أنه ماء جار فوقهم وفوق منازلهم!!!

والذي نراه أن التسنيم هو مثل الكافور, أي أنه عنصر نباتي, والله أعلم به, فلقد ذكره الله عزوجل منكرا: تسنيم!

وليس هذا المعنى بمستغرب, فلقد ذكر ابن منظور في لسان العرب:
“والسَّنَمة كلُّ شجرة لا تحمِل، وذلك إِذا جفَّت أَطرافُها وتغيرت.

والسَّنَمةُ رأْس شجرة من دِقِّ الشجر، يكون على رأْسها كهيئة ما يكون على رأْس القصَب، إِلاَّ أَنه ليِّن تأْكله الإِبل أَكلاً خَضْماً.
والسَّنَمُ جِماعٌ، وأَفضل السَّنَم شجرة تسمَّى الأَسْنامَة، وهي أَعظمُها سَنَمةً؛ قال الأَزهري: السَّنَمةُ تكون للنَّصِيِّ والصِّلِّيان والغَضْوَر والسَّنْط وما أَشبهها.

والسَّنَمَةُ أَيضاً: النَّوْرُ، والنَّوْرُ غير الزَّهْرَة، والفرْق بينهما أَن الزَّهْرة هي الوَرْدة الوُسْطى، وإِنما تكون السَّنَمَة للطَّريفة دون البَقْل. …….. الأَسْنامة: ضرب من الشجر، والجمع أَسْنام؛ قال لبيد: كدُخانِ نارٍ ساطعٍ أسْنامُها ابن بري: وأَسْنامٌ شجر؛ ….” اهـ
فالشراب المركز يُمزج بماء التنسيم, وبهذا يشربه الأبرار!

بهذا نكون قد بيّنا لماذا استعمل الله عزوجل الباء ولم يستعمل حرف: من, لأنه يتحدث عن الوسيلة التي يشرب (أو يستطيع أن يشرب) بها الأبرار, وليس عن المشروب نفسه, ففي آية الإنسان كان الحديث عن العين الممتدة في الجنة والتي تُفجر حيث شاء الأبرار, فبهذه المزية يستطيع البر أن يشرب!

وفي آية المطففين كان الحديث عن العين التي تخفف الشراب, فيستطيع البر بهذا المخفِف أن يشرب الشراب المركز!
هدانا الله وإياك وغفر لنا ولك والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

في توالد المفردات في البدء كان “الاسم”

في مقالين سابقين تحدثت عن نشأة “التسمية”, أي كيف تم إعطاء دوال للمدلولات, فلم تعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.