نواصل حديثنا بإذن الله وعونه عن تهذيب النفوس , وسيكون حديثنا بإذن الله تعالى وعونه عن الإيثار , ذلك الخلق الذي اختفى أو كاد من مجتمعاتنا , فما هو الإيثار ؟
الإيثار كما يفهمه كل منا هو تقديم الغير على النفس في أي مجال من المجالات. وكما نعلم فإن هذا من أصعب ما يكون على النفس البشرية ,
فمن الممكن أن يضحي المرء بنفسه أو بماله من أجل مبدأ أو فكرة يؤمن بها ويتحرك من أجلها , أما أن يقدم الإنسان غيره على نفسه فهذا مما تستثقله الناس وخاصة إذا كان هذا الغير مما لا قرابة للإنسان به .
أما إذا كان هناك صلة قرابة فنجد هذا الإيثار موجودا بطريقة طبيعة بين الأقارب ,
ونجد أعلى درجات الإيثار هذه بين الوالدين والأبناء , فنجد أن الأب أو الأم يهمه أول ما يهمه أن يشبع ويفرح أولاده أما هو أو هي فيأتون بعد ذلك ,
وهذا مما غرسه الله تعالى في الإنسان حيث أنه جعل الوالدين سببا للإحسان وطريقا موصلا له وفي هذا يقول الله تعالى في كتابه الكريم ” وبالوالدين إحسانا “
ونرجوا القارئ أن يقرأ فهمنا لهذه الآية في منتدى نظرات في آي القرآن حيث نقدم فيها فهما مخالفا للمألوف تماما – فإذا بعدت درجة القرابة قلت درجة الإيثار واختلفت من فرد إلى آخر حسب علاقته بهذا الفرد ,
فنجد أن إيثار الأبناء إلى الآباء هو غالبا أعلى من إيثار الأخوة إلى بعضهم بعضا , ثم يأتي بعد ذلك في الغالب إيثار الأصدقاء المخلصين إلى بعضهم .
ولكن ليس هذا من البدهيات أو مما أُلف , فقد يؤثر الإنسان على نفسه في المواقف والأشياء الصغيرات أما إذا جدت ساعة الجد وحان وقت الفصل نجد أنه يقول ” نفسي نفسي” , وهذا هو غالب حال البشر ،
فالإنسان لا يقدم غيره على نفسه إلا لحب شديد له أو لإيمان بأجر هو أعظم من هذه المنفعة المقدمة , وعلى الرغم من هذا وذاك فإنا لا نجد إلا قليلا من الحالات الفردية التي يضرب بها المثل وتحكى كقصص صعبة المنال عسيرة التنفيذ .
ولكن لما كنا والحمد لله أصحاب أفضل تأصيل ديني فكري “ القرآن ” فإنا وجدنا أن هذا القرآن قد نجح في أن يجعل خلق الإيثار هذا ليس حادثا فرديا في حياة بعض الأفراد وإنما أصبح هو الأعم الغالب في مجتمع بأكمله وهو مجتمع المدينة المنورة دار هجرة النبي الكريم ,
وكل هذا بفضل الله وببركة الرسول الكريم , ونجد أن القرآن قد خلد هذا الحديث العظيم الذي لم يتكرر في تاريخ البشرية وذلك بالآية التي جاءت في سورة الحشر :
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر : 9]
فهؤلاء قوم يتنازل المرء منهم طواعية عن نصف ماله وأزواجه من أجل من ؟
من أجل أخ له في الله
, أخ تغرب من أجل نصرة دين الله عزوجل
, أخ أحبه ولم يبغضه
, لذلك آثره على نفسه بفضل ذلك الرباط العظيم وهو الإسلام الرباني الكريم .
والناظر في الآية يجد أنها جمعت أسس الإيثار مباشرة وإشارة , فنجد أن الآية ذكرت أن هؤلاء كانوا يحبون إخوانهم وكما قلنا فإن الإيثار لا يكون إلا لسببين هذا أحدهما , ثم ذكرت تعريضا المانع الرئيس للإيثار بالمال وهو الشح , حيث أن الشح هو الذي يمنع الإنسان الإنفاق في سبيل الله عزوجل ومن أجل مساعدة إخوانه .
والأمثلة على الإيثار كثيرة في تاريخنا الإسلامي نذكر منها ما خلده الله عزوجل بقوله ” وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً [الإنسان : 8] “
ومن ينظر في السنة وفي تاريخ الصحابة والتابعين سيجد عجبا ولن نذكر من هذه المواقف إلا موقفا واحدا فقط وهو موقف الصديق مع النبي الكريم في ساعة الهجرة ,
فلقد وجدنا أن الصديق كان يمشي تارة بجوار النبي يمينا وتارة شمالا وتارة خلفه وتارة أمامه , وأنت تعرف عزيزي القارئ لم ! وعندما أرادا أن يدخلا الغار , تقدم الصديق ودخل قبل الرسول الكريم وكذلك تعرف لم فعل الصديق هذا !! فحقا لقد كان صديقا صاحب نبي !
لذا فإنا نذكرك أخي في الله بأن الوصول إلى هذه المرتبة أمر ليس باليسير , فإنك ستجد الكثير ممن ينفقون عروض أموالهم وأوقاتهم أما حين يجد الجد فقليل أن تجد أصحاب الأيد الممدودة , لذا فحاول أن تكون ممن يؤثرون على أنفسهم, وأعلم أن هذه معركة طويلة الأمد والنفس, فابدأها وجاهد نفسك وتذكر وعد الله للمؤثرين وتذكر أفعال الصحابة واعزم وستصل بإذن الله تعالى .
شاهد أيضاً
نقد رفض التعقل
من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …