لماذا تفشل جهود إحياء اللسان العربي؟

من ضمن الهُويات الرئيسة التي نعتز بالانتساب إليها .. هوية اللسان .. العربي
رغما عن كوننا جميعا لا نتحدث هذا اللسان العربي الواحد الموحد -بفتح الحاء وكسرها-
وإنما يتحدث أبناء كل بلد -وبلدة- لغة/ لهجة خاصة بها، تتفق مع العربية الفصيحة في قدر وتخالفها في “أقدار”
سواء على مستوى القواعد أو دلالات المفردات أو التركيبات.

وفي داخل كل بلد عربي تجد دوما تياراً يحاول التمسك باللسان العربي الفصيح ويدعو لنشره وتعليمه واستخدامه.
إلا أن الملاحظ أن أكثر أتباع هذا التيار لا يعلمون اللسان العربي باعتباره لسانا “متداولا” مستخدما، وإنما يدرسونه -بدون أن ينتبهوا- باعتباره لسانا “غريبا”، ناهيك عن أسلوب التدريس والقائم على تحفيظ القواعد .. وليس على الممارسة والاستخدام!
وأنبه على استخدامي مصطلح “الغربة” وليس: “الأجنبية” مع اللسان العربي، وذلك لأن اللسان الذي يُلقن لمتعلمي العربية هو لسان غريب على
مستوى: التاريخ والمحتوى (الثقافة)

فعندما تتعلم العربية عليك أن تغوص في التاريخ وأن تعرف أحوال وأفعال ووقائع أفراد عاشوا في أزمنة سابقة -يفصلنا عنها ما يزيد عن الألف عام)
وعلينا أن نتعرف على ثقافة وطبيعة تلك البلاد، والتي تمتلك ثقافة وطبيعة مخالفة لطبيعتنا!
ثم نجد أن “جل” هذا غير مفيد لنا في حياتنا وواقعنا
(ربما نعم مفيد في الجانب الديني ليس أكثر)

وداخل هذا التيار المطالب بنشر وتعميم العربية، يوجد تيار صغير ينادي بتحديث وتطوير طرق تعليم العربية، واعتماد الطرق “الغربية”، والتي تعتمد أسلوب الممارسة في تدريس اللغة.
ويقينا فإن هذا الأسلوب أفضل من سابقه في تعليم اللغة العربية، إذ ينزع عنها كثير من وجوه الجفاف
إلا أنه لم -ولن- يفلح في نزع سمت الغربة عنها!

إن المشكلة الكبرى التي يواجهها تيار إحياء العربية -وليس تطوير التعليم- أنه يظن أن الإحياء من الممكن أن يحدث بشكل “صناعي” في فصول مدرسية مغلقة! عن طريق التعليم والتلقين!
وكذلك يظنون أنه من الممكن أن يحدث الإحياء في طرقات وردهات المجامع اللغوية المختلفة، والتي تُعنى بتخليق مفردات جديدة .. وإلقائها إلى “الأمة”!!

إن أول خطوة في طريق الإحياء -في منظوري- هي تداول اللغة .. إعادتها إلى مجالها “الطبيعي” وهو:
الحياة/ الشارع/ المجتمع
والتي عُزلت عنه منذ قرون! بل وأصبحت العربية رمز للتقعر والتحجر .. بينما أصبحت اللغات الأجنبية -وخاصة الإنجليزية – رمزا للحداثة والتطور .. وهي لغة سوق العلم والعمل!

والسؤال هنا:
كيف نعيد العربية إلى الحياة؟!
فأقول:
من الصعب العسير – إن لم يكن من المستحيل- أن نقوم بتغيير اللغة الدارجة أو استبدالها -فهذا مما يحتاج لقرون-
ولكن من الممكن تغيير “الذائقة” اللغوية للمتميزين في فئات الأمة المختلفة.
ثم يقومون هم أنفسهم بتوليد مفردات وتعبيرات وتركيبات جديدة مستقاة من الثقافتين .. التراثية والواقعية.. يستخدمونها بين أقرانهم من أبناء البلد
والذين سيقومون هم كذلك باستخدامها .. ثم يتم تداولها .. بدلا من: ثكلتك أمك!
ثم يعود اللغويون إلى دورهم الرئيس وهو التجميع .. والتأطير والتقعيد .. وليس الإنشاء!
وهكذا تنشأ “قواعد” جديدة للسان العربي .. تُضاف إلى تلك الموجودة بالفعل .. ولا تستبدلها
وبهذا تُضرب جسور تقرب اللسان العربي بأبنائه

وبالإضافة إلى توليد أوزان وتركيبات وقواعد جديدة فإننا بحاجة إلى “عملنة” العربية

وأوضح فأقول:
إننا بحاجة إلى انتقاء أفراد متميزين من كل مجالات العمل، سواء المهندسين والأطباء والفلاحين و”الميكانيكية” والتقنيين والمبرمجين والبائعين والنجارين والحدادين والخبازين … الخ
ثم نسقيهم العربية -من فترات زمنية مختلفة- عن طريق السماع والقراءة والنقاش والكتابة والتعبير
حتى تتكون لديهم سليقة عربية جيدة .. تُمكنهم فيما بعد من “اختراع” مفردات جديدة .. تسد من ناحية فجوة المفردات الأجنبية السائدة في المجتمعات العربية
فتكون مزاحمة لها لفترة .. ثم تكون بديلا لها في فترة لاحقة
وتُنشأ لجديد الأحوال والآلات مفردات منسجمة مع الذائقة العامة للمجتمع -ونابعة كذلك من العربية-
وبهذا يبدأ الشعور بقوة اللسان العربية وقدرته بالعودة إلى أفراد المجتمع
فيبدأ التراجع في استخدام المفردات الأجنبية

وبهذين المسارين تكون العربية قد عادت إلى مسارها الطبيعي كلغة “حياة” .. يولدها أبناؤها .. ويؤطرها علماؤها
لغة تنمو لتواكب الواقع المستجد .. وكذلك لتوجه
لغة نبصر بها حياتنا والعالم .. وليس لغة معزولة محنطة في “تابوت” التاريخ.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

بين: الله العظيم .. والعقل

من المعلوم أن “العقل” لا يدرك ذاته ..ولا يعقلهاوكذلك هو لا يعلم كيف يعمل .. …