لباس المرأة. بحث جديد.

حديثنا اليوم بإذن الله وعونه عن موضوع ينظر إليه الأغلبية العظمى من المسلمين بحساسية كبيرة, لما له من ثقل ووزن كبير في نفوسهم وهو: لباس المرأة.

والذي اشتهر بين عوام المسلمين –وعلمائهم- ب: حجاب المرأة. والذي أصبح العنصر الأول والأكبر في الحكم على موقف أي امرأة من الدين, هل هي متدينة أم غير متدينة! فتبعاً لكونها محجبة أم سافرة يكون الحكم. ومن العسير الاقتناع أن امرأة لا ترتدي الحجاب تكون داخلة في “عباءة” الدين!

وقبل أن نعرض للآراء المتعلقة لهذه المسألة نتساءل: هل لهذه المسألة هذا الثقل والأهمية في دين الله حقاً؟!
الناظر في كتاب الله يجد أنها لم تُذكر إلا في موطنين اثنين فقط, وفي غيرهما لم نجد مدحاً “للمحتشمة” أو وعيدا للسافرة! وعلى الرغم من ذلك وجدنا الكثير من الكتب التي أُلفت حول “لباس/حجاب المرأة” والكثير من الندوات التي تُعقد حولها, وكذلك الوعيد الشديد من الدعاة للمرأة الغير ملتزمة للحجاب! بل وجعل الحجاب والصلاة على منزلة واحدة, وهو ما لا يمكن قبوله بأي حال.

والحق يقال أني لم أكن أرغب في العروض لهذه المسألة لأني كنت أرى أنه أُشبعت بحثاً وكتابة وأنني لن أقدم فيها الجديد, ثم سألني الأخ عبدو أن أرد على ما قاله الدكتور شحرور حول هذه المسألة, فبحثتها فخرجت منها برأي جديد قديم, وما نقدمه في السطور القادمة هو ما فتح الله به علينا

ولأن هذا الموضوع من الموضوعات الحساسة والتي لن يقتنع فيها القارئ بسهولة بأفهام أفرادٍ لمفردات كتاب الله استعنا بكتب الحديث لنؤكد المعاني التي نقول بها, (بغض النظر عن صحة الحديث من عدمه, فاستعماله بالدرجة الأولى كشاهد لغوي)

في سورتي النور والأحزاب كانت الآيات المتعلقة بلباس المرأة, وسورة النور سابقة للأحزاب في النزول, وهي كما نرى من أوائل السور التي نزلت في المدينة بعد الهجرة, وسورة الأحزاب نزلت –كما يقول العلماء- في السنة الخامسة من الهجرة, ونبدأ بالأولى في ترتيب النزول والمصحف, وهي سورة النور:

وكعادتنا في فهم وتناول آيات القرآن لن نكتفي بالآيات التي ورد فيها الحكم, وإنما نتناولها في سياقها الذي وردت فيه, فإذا نظرنا في سورة النور, وجدنا أن الله تعالى يقول:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (٢٩) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)”

والملاحظ أن المتناولين لآية “الخمار” يفصلونها عن سابقها من الآيات, فيقولون أن الآيات تتحدث عن أمر الله بغض البصر وحفظ الفرج والضرب بالخمار, -وهو ما قالت به الآيات فعلاً-, إلا أنهم ينسون أنها وردت في سياق الحديث عن “آداب الزيارة” أو آداب التعامل في البيت بين المضيف والضيف.

فالله يبين آداب الزيارة, والتي تبدأ بالاستئناس والسلام وأنه إن لم يجد الإنسان فيها أحد فلا يدخل حتى يؤذن, وكيف أن العبرة بوجود أحدٍ من عدمه في البيت, ثم بعد ذلك يأمر النبي بأن يقول للمؤمنين أن يغضوا أبصارهم ويحفظوا فروجهم, فلا يجرح البيت بنظراته ولا يكون دخوله للفاحشة, وكذلك يأمر المؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج وألا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها.

(وبداهة إذا كان هذا هو المأمور به في المنزل فمن باب أولى في خارج المنزل, فإن العادة أن تتعامل المرأة بحرية نسبية أمام ضيوفها, فإذا نهيت عن إبداء الزينة إلا الظاهرة في المنزل فأكيد أن الحال كذلك في خارجه)

ونتوقف مع قوله تعالى: “إلا ما ظهر منها”, فما هي الزينة وما المراد بم يظهر منها؟
إذا نظرنا فيما قاله الدكتور شحرور حول الزينة وجدناه يقول:
“لنضع الآن تعريفاً للزينة: فزينة المرأة في الآية (31) تقسم إلى قسمين:

القسم الأول: الزينة الظاهرة
والقسم الثاني: الزينة المخفية

ولكن ماهي زينة المرأة المقصودة هنا بحيث تنسجم مع الآية نفسها وتنسجم مع بقية الآيات الواردة في الكتاب وخاصة آيات المحارم الواردة في سورة النساء رقم 22 ورقم 23؟

فالزينة لها ثلاثة أنواع:
أ ـ زينة الأشياء: إن زينة الأشياء هي إضافة أشياء لشيء أو لمكان ما لتزيينه، مثال على ذلك الديكورات في الغرف والنجف والدهان والملابس وتسريحة الشعر للرجل والمرأة والحلي والمكياج للنساء. (……)

ب ـ زينة المواقع أو الزينة المكانية: وهذا واضح في المدن، فالبلديات في المدن تبقي على ساحات خضراء تسمى حدائق. (……)

ت ـ الزينة المكانية والشيئية معاً جاءت في قوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} الأعراف 32. وقوله: {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها} يونس 34. أي أن التطور والتقدم العلمي سيملآن الأرض بالزينة المكانية والشيئية.

فإذا كانت الزينة مكانية فجسد المرأة كله زينة والزينة هنا حتماً ليست المكياج والحلي وما شابه ذلك، وإنما هي جسد المرأة كله” اهـ

ونتوقف هنا مع هذا الاستنتاج الذي قال به الدكتور شحرور استنادا إلى قياس المرأة على الأماكن, فجعل المرأة كلها زينة, وعلى الرغم من أنه قياس غير صحيح, نتساءل: ما المانع القاطع الذي يحتم ألا يكون المراد من الزينة هو المكياج والحلي وما شابه, وإنما هو جسد المرأة فقط؟!

ليس ثمة مانع وإنما هو قياس عجيب, وبغض النظر عن القياس فإننا نجد أن القرآن عندما تحدث عن الزينة للبشر كان يتحدث عن شيء “يؤخذ” -ويمكن أن يُترك- ولم يجعل الزينة طبيعة ملازمة لهم, فنجده يقول:
” يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف : 31]”

” فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص : 79]”

وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ..[يونس : 88]
قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ [طه : 87]
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور : 60]

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ … [الحديد : 20]”

إذا وكما رأينا في كتاب الله فالزينة مع البشر شيء عارض وليس طبيعة, وهو ما نقول به, فالمرأة كلها بجميع أعضاءها ليست زينة وإنما هي … إنسان, أما الدكتور شحرور فقد أخذ بتقسيم الفقهاء والمفسرين, الذي جعل المرأة في حد ذاتها زينة, ثم أخذ يقسم تبعاً لهذا فقال:

“هذا الجسد يقسم إلى قسمين:
ـ قسم ظاهر بالخلق: لذا قال: {ولايبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} فهذا يعني أن هناك بالضرورة زينة مخفية في جسد المرأة. فالزينة الظاهرة هي ما ظهر من جسد المرأة بالخلق أي ما أظهره الله سبحانه وتعالى في خلقها كالرأس والبطن والظهر والرجلين واليدين، ونحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى خلق الرجل والمرأة عراة دون ملابس.

ـ قسم غير ظاهر بالخلق: أي أخفاه الله في بنية المرأة وتصميمها. هذا القسم المخفي هو الجيوب. والجيب جاء من “جَيَبَ” كقولنا جبت القميص أي قورت جيبه وجيبته أي جعلت له جيباً
والجيب كما نعلم هو فتحة لها طبقتان لاطبقة واحدة، لأن الأساس في “جيب” هو فعل “جوب” في اللسان العربي له أصل واحد وهو الخرق في الشيء ومراجعة الكلام “السؤال والجواب” فالجيوب في المرأة لها طبقتان أو طبقتان مع خرق وهي ما بين الثديين وتحت الثديين وتحت الإبطين والفرج والإليتين هذه كلها جيوب، فهذه الجيوب يجب على المرأة المؤمنة أن تغطيها لذا قال: {وليضربن بخمرهن على جيوبهن} .” اهـ

وتقسيم الدكتور شحرور للزينة عجيب, إلا أنه كان لزام أن يقول به, حتى يصل إلى مبتغاه, ويؤخذ عليه أنه يجب أن تستر المرأة وجهها, ففيه “جيوب” مثل الفم والأنف والعينان! إلا أنه جعل هذا من المستثنى للضرورة, واستثناءه هذا لم يقل به النص وإنما من رأسه! ولست أدري ما الحكمة في إخفاء ما تحت الثديين! وما الزينة فيما تحت الإبطين؟! (إغراء ما تحت “الباط” !!!!!!!!!!!!!!!!!!)

ونعود فنقول: لا مستند في كتاب الله لقوله بأصل الزينة, ومن ثم يسقط تقسيمه كله!

فإذا تركنا ما قاله الدكتور شحرور ونظرنا في أقوال المفسرين في الزينة وما ظهر منها, وجدنا الإمام القرطبي مثلاً يقول:
“أمر الله سبحانه وتعالى النساء بألا يبدين زينتهن للناظرين، إلا ما استثناه من الناظرين في باقي الآية حذارا من الافتتان، ثم استثنى، ما يظهر من الزينة

واختلف الناس في قدر ذلك؛ فقال ابن مسعود: ظاهر الزينة هو الثياب. وزاد ابن جبير الوجه. وقال سعيد بن جبير أيضا وعطاء والأوزاعي: الوجه والكفان والثياب. وقال ابن عباس وقتادة والمسور بن مخرمة: ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب إلى نصف الذراع والقرطة والفتخ؛ ونحو هذا فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس.

وذكر الطبري عن قتادة في معنى نصف الذراع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آخر عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى ها هنا) وقبض على نصف الذراع. قال ابن عطية: ويظهر لى بحكم ألفاظ الاية أن المرأة مأمورة بألا تبدي وأن تجتهد في الاخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه، أو إصلاح شأن ونحو ذلك.

ف ” – ما ظهر ” على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه.
قلت: هذا قول حسن، إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة وذلك في الصلاة والحج، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما. يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها: (يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا) وأشار إلى وجهه وكفيه. فهذا أقوى من جانب الاحتياط؛ ولمراعاة فساد الناس فلا تبدي المرأة من زينتها إلا ما ظهر من وجهها وكفيها، والله الموفق لا رب سواه” اهـ

وكما رأينا فالمفسرون هم من قالوا بتقسيم الزينة إلى ظاهرة وباطنة: فجعلوا الظاهر هو الثياب والباطن هو جسد المرأة (وهو ما عدّله الدكتور شحرور وجعل النوعين في جسد المرأة) ثم خرجوا –استناداً إلى روايات عن الرسول أو الصحابة وليس إلى النص نفسه- بنتيجة مفاداها أنه على المرأة إذا كان يراها أجنبي أن:

تُغطي كل جسدها أو تغطيه كله ما عدا الوجه والكفين أو حتى نصف الذراع. (ونُسب إلى أبي يوسف صاحب أبي حنيفة أنه كان يقول أن الذراع ليس من العورة)
ولم تقنع هذه الآراء سامر الإسلامبولي حول “الظاهر” من الزينة, فقال:
” [ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها] نعرض عليه معرفة فاعل (ظهر) في الجملة أين هو في واقع الحال ؟
من باب(أن لا بد لكل فعل من فاعل ضرورة) .

– هل فاعل ظهر هو (المؤمنات) في أول النص ؟
والجواب قطعاً بالنفي . ولو كان الفاعل هو المؤمنات لأتى النص بصيغة (ما أظهرن).
– هل فاعل ظهر هو الزينة ذاتها الأولى ؟
والجواب قطعاً بالنفي. ولو كان الأمر كذلك لأتى فعل (ظهر) بصيغة المضارع (تَظهر).

– ذكر بعض النحاة أن فاعل (ظهر) هو (ما) التي بمعنى الذي (اسم موصول) لتصير الصياغة [إلا الذي ظهر منها] .
ويبقى السؤال مطروحا للنقا ش والحوار أين فاعل (ظهر) على أرض الواقع ؟ لأن معرفة فاعل (ظهر) أحد مفاتيح الدخول لفهم النص .

2- الرأي الثاني وهو رأي حديث من حيث الوجود وردة فعل على قصور رأي التراث ، فحاول أصحابه ترميم الثغرات من خلال تحديد فاعل (ظهر) فقالوا : إن فاعل ظهر في الحقيقة يرجع إلى عملية خلق المرأة أصلاً وبالتالي يكون الفاعل هو الله عز وجل . ويصير النص بصيغة [إلا ما ظهر منها خلقاً] .

وقاموا بإسقاط ذلك على واقع المرأة فوصلوا إلى أن المرأة كلها زينة من رأسها إلى أخمص قدميها ويجب أن تغطي كامل زينتها ولا تظهر منها شيئاً أبداً حتى الوجه والكفين !! وقالوا : أما جملة [ما ظهر منها] فهذا راجع إلى الظهور خلقاً الذي هو طول وعرض المرأة وحجمها فهذا ما سمح الشارع بتركه دون تغطية !! .

– ورغم أن أصحاب هذا الرأي قد أصابوا في تحديد فاعل (ظهر) الذي هو الله عز وجل إلا أنهم وقعوا في مغالطة أكبر من مغالطة السلف عندما عدّوا أن الزينة الظاهرة هي أبعاد المرأة وحجمها وفاتهم أن الشرع الرباني لا يتعلق خطابه إلا بأمر ممكن التطبيق ولذلك تم استثناءه من الأمر بالتغطية مع إمكانية المرأة بتغطيته

بخلاف الرأي المذكور فإن أبعاد المرأة وحجمها ليس بمحل تكليف لانتفاء إمكانية المرأة من تغطية ذلك إلا إذا صارت تتجول ضمن سور من الغطاء يحيط بها من كل الجوانب ليسترها من أعين الناظرين . وهذا تشريع بما لا يطاق بل لا يستطاع بل هو عبث وهزل وأشبه بمن يبحث عن حكم فعل الأكل في القرآن فهذه الأمور هي تحصيل حاصل لا يتناولها الشارع في خطابه لأنها ليست بمحل تكليف أو حساب!.

3 – الرأي الثالث أحدث ولادة من غيره وهو أيضاً ردة فعل لقصور ما سبق من الآراء، وحاول أصحابه ترميم وسد الثغرات في الرأي السابق فقالوا : إن فاعل (ظهر) تُرِكَ غير معلوم لعدم تحديده في الواقع بفاعل معين ، وذلك لكثرة الفاعلين وتغيرهم حسب الظروف فجملة [ولا يبدين زينتهن] أفادت تغطية المرأة كلها من رأسها إلى أخمص قدميها . أما جملة [إلا ما ظهر منها] فتدل على عفو الشارع عن ما ينكشف من زينة المرأة رغما عنها مثل تحريك الهواء لملابسها أو أثناء ممارستها لأي عمل ترتب عليه ظهور بعض زينتها من غير قصد منها . وهذا ما قصدوه بعدم تحديد فاعل (ظهر) في النص حتى يغطي كل فاعل مستجد في حياة المرأة .

إن الرد على هذا الرأي هو الرد السابق ذاته ، فالشرع الرباني خطابه متعلق بالإمكان والمقدرة والإرادة ، ورتب على ذلك المسؤولية والحساب ، فإذا انتفت الإرادة انتفت المسؤولية والمحاسبة شرعاً إلا إذا تعلق الفعل بحقوق الناس فيجب التعويض لهم مع عدم تجريم الفاعل . لذا لا يصح أن تأخذ جملة [إلا ما ظهر منها] هذا المفهوم القهري واللاإرادي لأن العفو والصفح عن ذلك لا يحتاج إلى نص تشريعي لأنه تحصيل حاصل وهذا الأمر متعلق بالأمور الشخصية والجزئية أما إذا تعلق بأمر كلي مصيري فالشارع تناوله بالتشريع لأهميته وعدم قدرة الناس على تحديد المقصد منه واضطرابهم في السلوك نحو فتح حكم تحريم تناول لحم الميتة عند الضرورة .

لذا من الغلط الاستدلال بهذا الموضوع وقياس حكم ظهور الزينةاللاإرادي عليه . ومن الأمور التي تدل على بطلان هذا الرأي هو مجيء فعل (ظهر) بصيغة الماضي مما يدل على حدوث فعل الظهور وانتهاءه . ولو كان المقصد بجملة [إلا ما ظهر منها] ما ذكروه من فاعلين ُكثر مستجدين لوجب أن يأتي فعل (ظهر) بصيغة المضارع المبني للمجهول ويصير [إلا ما يُظْهَرُ منها].” اهـ

ونتفق مع الأخ سامر في أنه لا يمكن أن يكون المراد من “ما ظهر” ما يظهر عرضا لأن هذا عبث وتحصيل حاصل, ومن ثم نعود إلى نقطة البداية:

ما هي الزينة وما هو “ما ظهر منها”؟
نبدأ ب “ما ظهر منها”, فنجد أن أكثر المتناولين فهموه بمعنى “انكشف” أو بان! مع أن الظاهر هو عكس الباطن: ” وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ .. [الأنعام : 120]” “هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ … [الحديد : 3]”

إذا فهناك زينة ظاهرة وأخرى باطنة, والذي يمكن أن يكون له ظاهر وباطن من الزينة هو الملابس, ومن ثم فالآية تنهى عن إبداء الزينة إلا الجزء الخارجي منها (الثياب الخارجية), بينما الجزء الداخلي (الباطن) المخفي لا يُبدى إلا أمام الأصناف المذكورة في الآية.

إذا فزينة المرأة قسم ظاهر يُبدى للأضياف –والناس في الطريق- وهو الثياب الخارجية, وعلى المؤمنات عدم التحايل على هذا الأمر.

وقسم باطن يمكن أن يُبدى للأصناف المذكورة في الآية, (وهو الواقع –المقبول- في جميع أنحاء العالم, أن المرأة تتخفف من الثياب في المنزل أمام الأقارب) وحدد الرب الأقارب التي يمكن للمرأة أن تتخفف من ثيابها أمامهم, فترتدي “ملابس بيتية”.

إذا فالحديث عن إبداء الزينة لأصناف معينة هو الحديث عن ملابس أقل احتشاماً وستراً وليس حديثاً عن الجلوس عارية أو بقطعتي ملابس صغيرتين! وهنا يتساوى الزوج مع الأقارب.

وكذلك نهين عن الضرب بالأرجل ليُعلم ما يُخفين من الزينة:
” …. وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور : 31]”
والحديث عن زينة “تخفيها” المؤمنات إبطال لقول شحرور بالزينة المخفية في جسد المرأة, فالمرأة لم تخف شيئاً, وإنما هي على قوله “مخفية بالخلقة”
ومن ثم فلا محل لنسبة الإخفاء إلى المرأة, ناهيك عن كونها معلومة لكل إنسان, فكل إنسان يعلم أن للمرأة ثديين وفرج وإلية وإبط! وكما قلنا فهنا الحديث بالدرجة الأولى عن امرأة في المنزل

ومن ثم فلا علاقة للعمل أو للرقص المتعري بالآية وكذلك ليس المقصود الخلاخيل, فصوتها لا محالة مسموع طالما المرأة تمشي والفارق هو في علو الصوت أو انخفاضه- وإنما الحديث –والله أعلم- عن التكسر في المشي أو الحركة بما يظهر ما تحت الملابس –عبرها-, وإذا كان منهياً عن الضرب بالأرجل حتى لا تُعلم الزينة فهل من المعقول كشف الأرجل إلى فوق الركبة فيُنظر إليها مباشرة في الطرق أو في البيوت؟!!.

والدليل الأكبر على خطأ الدكتور شحرور في استنتاجه بالأعضاء التي يجوز للمرأة كشفها للأصناف المذكورة في الآية –وكذلك لغيرهم في الطريق- راجع إلى آية “وضع الثياب”, فالمرأة على هذا الحال تعتبر واضعة ثيابها, والله تعالى أمر أن يستأذن الذين ملكت أيماننا وكذلك الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم حين نضع ثيابنا:

“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النور : 58]”
واعتبر أن هذه عورات لنا, لا ينبغي لهم الإطلاع عليها, ومعلوم أن المرء لا يتجرد من كل ثيابه من الحر, وإنما يبقى بأقل الخفيف منها, فكيف يكون “الذين ملكت أيمانهن” من الأصناف التي يجوز لها النظر إلى المرأة وفي عين الوقت تعتبر المرأة –والرجل- الواضعة ثيابها في حالة عورة لا ينبغي الإطلاع عليها, حتى من الأولاد الصغار؟!

إن مشاهدة المرأة في هذا الوضع أمر يخدش حياءها وحياء صغارها, ومن ثم لا ينبغي لهم مشاهدتها على هذا الحال, ناهيك عن أنه يثير شهوة أي رجل, فهل من المنطقي أو المقبول أن تظهر المرأة بلباس النوم أمام ابن زوجها أو أبيه؟ فهم وإن كانوا أقارب إلا أنهم ذكور في نهاية المطاف.

إن الصنف الوحيد الذي يجوز له الظهور في هذه الحالة هو: القواعد من النساء, كما قال الرب العليم:
“وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور : 60]”

وسواء كانت القواعد من النساء هن المعوقات أو الكبيرات في السن, فنلاحظ أن الله اشترط أن لا تكون المرأة متبرجة بزينة بعد وضع الثياب, ثم يبين الله تعالى أنه من الأفضل أن يستعففن.
ومن ثم فلا مجال لقبول قول الدكتور شحرور بجواز التكشف حتى كذا وكذا, فهو مما ترفضه المرأة غير المسلمة.
وبعد أن سمح الله بإبداء الزينة الظاهرة فقط, أمر بالضرب بالخمر على الجيوب (وسنعرض ل: الخمار عند حديثنا عن: الحجاب)

والجيوب هي كما قال العلماء أنها فتحة القميص الذي يدخل منه الرأس, (وكذلك أي فتحة أو قطع في الثوب) إلا أننا وجدنا الدكتور شحرور قد قال بمعنى لا تقول به اللغة, وعلى الرغم من أنه لا يقول بالترادف, إلا أنه قبل أن تكون الفروج بمعنى الجيوب, ومن ثم جعل الفروج جيوباً!

إن المواطن التي ذكرها الدكتور شحرور يمكن اعتبارها –بقدر من التجاوز- تندرج تحت “الفروج”, فهو كما جاء في اللسان:
“الفَرْجُ: الخَلَلُ بين الشيئين (……..) والفُرْجَة والفَرْجَة: كالفَرْج؛ وقيل: الفُرْجَة الخَصاصَة بين الشيئين. ابن الأَعرابي: فَتَحات الأَصابع يقال لها التَّفارِيجُ، (…..) والفَرْجُ اسم لجمع سَوآت الرجال والنساء والفِتْيان وما حَوالَيْها، كله فَرْج، وكذلك من الدَّوابِّ ونحوها من الخَلْق.” اهـ

بينما “الجوب” يرتبط بالقطع والخرق, فنجد ابن فارس يقول في المقاييس:
“الجيم والواو والباء أصلٌ واحد، وهو خَرْقُ الشيء. يقال جُبْتُ الأرضَ جَوْبا، …” اهـ

فلو قيل “يضربن بخمرهن على فروجهن” لكان من الممكن قبول هذا القول –تجاوزاً- أما وأن الحديث عن الجيوب, فلا مكان للحديث عن أجزاء في جسم الإنسان, وإنما الحديث عن فتحة –أو فتحات- في الثوب. وهو ما قال به المفسرون واللغويون وهو ما نقول به.

إذا فالله يأمر بضرب الخمر على الجيوب حتى لا يتكشف ما تحتها أمام الأضياف (وبداهة أمام عامة الناس في الطريق), بينما تكون الزينة (الملابس) الظاهرة والباطنة للأصناف المذكورة, بينما التعري وما قارب للزوج فقط.

ومن هذه الآية يمكننا الرد على الدكتور شحرور -ومن يأخذ بقوله- فإذا كان الله لم يسمح للمرأة في البيت -أمام الأضياف- إلا بأن تبدي الثياب الخارجية, وأجاز الثياب الداخلية لأصناف معينة, فهل من الممكن الحديث عن إبداء لجل الجسم في الشارع أو على الشاطئ أو ما شابه للغرباء؟!!

إن أقصى ما يُسمح به في الطريق أن يكون الحال كما هو في البيت, إن لم يكن أشد “تحشماً”, وهو ما سنجده فعلاً في آية الأحزاب, والتي لن نكتفي فقط بعرضها وإنما سنعرض لآية الحجاب المتعلقة بأزواج النبي, لنبصر ماذا يقول الرب العليم:

“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (٥٣)

أول ما نبدأ به حديثنا عن الحجاب هو الإشارة إلى أن الحجاب ليس بلباس (ثياب) بأي حال من الأحوال, وإنما هو –كما في اللغة والقرآن- هو ساتر وحاجز, وهو المعنى الذي جاء في كل القرآن:

“وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ … [الأعراف : 46]
“وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً [الإسراء : 45]”
“فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً [مريم : 17]”
“فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [صـ : 32]”
“وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ [فصلت : 5]”
“وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ ….[الشورى : 51]”
“كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [المطففين : 15]”

وجاء بنفس المعنى في آية الأحزاب, فالله تعالى يأمر المؤمنين أن يكلموا أمهاتهم في بيوت النبي من وراء حجاب –أي أنهم هم المأمورون بالحجاب-, فلا يدخلوا عليهن حجرهن وإنما يطرقن مثلاً الجدار أو الباب أو ينادون, ويطلبون منهم ما يريدون.

وأزواج النبي كان لهن أحكام خاصة فهن مأمورات بالقرار في البيوت:
“وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى … [الأحزاب : 33]”

فينبغي لهن أن يقللن من خروجهن, وإذا خرجن فيكون التلثم (النقاب) هو السبيل لأن يخاطبن من وراء حجاب!
إذا فالحجاب حكم مخصوص بأزواج النبي في بيوتهن بالدرجة الأولى, ومسألة التلثم هو حالة فرعية تابعة, لم تخاطب بها المؤمنات بأي حال, والدليل الأكبر على أن المرأة كانت مكشوفة الوجه في عهد النبي وبعد هذه الآية هي قول الرب العليم:

“لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً [الأحزاب : 52]”

فالنساء كن كاشفات الوجوه ومن الممكن أن يرى النبي بعضهن فتعجبه, فحتى لو حدث هذا لا يحل له, وإذا كن النساء ملثمات فكيف يعجب النبي حسنهن؟ هل كان النبي يذهب إلى بيوتهن ليكشف وجوههن ليبصر إذا كن حسناوات أم لا, ثم يقول بعد ذلك: لا, لا يجوز لي النساء!!!!

فإذا انتقلنا إلى آية الجلباب التي لا تقتصر على أزواج النبي وإنما تتعداه إلى البنات ونساء المؤمنين, نجد أن الله تعالى يأمر النبي أن يقول لهن أن يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (٦٠)”

واتفق المفسرون على أن هذا كان راجع لتمييز نساء المؤمنين عن الإماء التي كان الفساق يتعرضون لهن, إذا خرجن لقضاء الحاجة ليلاً, فأُمرن بإدناء الجلابيب عليهن حتى لا يتعرض الفساق لهن.

إلا أن هذا القول يعني أنه لم يكن هناك أي مانع لأن يُتعرض الفساق لإماء المسلمين, فيمسسهن ويتحرشن بهن, ومن ثم فلا كرامة للأَمة المسلمة فالكرامة للحرائر!!!

وهذا ما لا أقول به, فالآية قالت “أدنى أن يعرفن” ولم تقل: “ذلك أدنى أن يعرف أنهن حرائر (محصنات)” فالمراد أن يتميزن كمؤمنات –مما يعنيه التزامهن وتحشمهن وبعدهن عن الفواحش- عن اليهوديات والمشركات.

(ولقد عرضنا سابقا لسورة الأحزاب وبيّنا أن محورها الرئيس يدور حول تثبيت النبي والمؤمنين على أحكام سابقة –متعلقة بالأسرة- اعترض عليها غير المسلمين وراودوا النبي وطالبوه بتغييرها ووعدوه بمساندته إن هو فعل, فنزلت السورة لتثبيت النبي, ويمكن للقارئ الكريم قراءة ما كتبناه حولها على هذا الرابط:
من هنا

والحق أني توقفت طويلاً مع تعبير “يدنين عليهن من جلابيبهن” لأتصوره, فالإدناء بمعنى التقريب, والله لم يقل: “يدلين” ليكون المعنى الإسدال أو الإنزال من أعلى لأسفل, كما يقول البعض ليتخذه دليلاً للقول بستر كل الجسد, وإنما قال: “يدنين”
فكيف تقرب المرأة عليها من ثيابها؟ هل ثيابها بعيدة عنها فتقربها منها؟
وكيف تقرب المرأة في الطريق ثيابها عليها؟ (وحاولت أن أوجد تصوراً يُنزل كذلك على قوله: “وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا .. [الإنسان : 14]”

فكيف تدنو الظلال على وليس: إلى أو: من؟!)

ثم انتبهت إلى أن الآية لم تأمر بارتداء الجلباب وإنما تأمر بإدناءه على المؤمنات, فهن بالفعل مرتديات الجلباب (وغيرهن كذلك تفعل) إلا أن عادة الجميع أنهن كن يرجعنه إلى الوراء فلا يضممنه إلى بعضه, وإنما هو بمثابة غطاء خلفي مفتوح من الأمام, فأُمرت المؤمنات أن يدنين عليهن أي يجمعن عليهن جلاببيهن فيدارين ما تحته من الثياب, فبذلك يعرف أنهن مؤمنات محتشمات فلا يؤذين من الكافرين أو المنافقين, الذين يتعرضون للنساء.

وبعد هذا التناول للآيات نتوقف مع المفردات المتعلقة بلباس المرأة, ونبدأ بالكلمتين الرئيستين اللتين وردتا في الآيات: الجلباب والخمار, لننظر ما هما:

أولاً: ما هو الجلباب؟
الناظر في أقوال اللغويين والمفسرين في الجلباب يجد أنهم اختلفوا فيه على أقوال كثيرة, فنجد أنهم قالوا:
1-أنه الملحفة: جاء هذا في مختار الصحاح ص107ط مؤسسة الرسالة.
2-كل ثوب تلبسه المرأة فوق الخمار: جاء هذا في تفسير الألوسي روح البيان 11/ص88ط دار الفكر.
3-أنه الخمار: جاء هذا في تفسير القا سمي 8/ص112 .
4-أنه الملاءة: نفس المصدر .
5-أنه القميص: جاء هذا في لسان العرب لابن منظور 1/ص194 ط دار الكتب العلمية.
6-أنه الإزار: نفس المصدر.
7-أنه الرداء: نفس المصدر.
8-ثوب واسع للمرأة دون الملحفة: جاء هذا في محيط المحيط ص115 .

وهذا الاختلاف لا يمكن رفعه بأي حال من الأحوال, لأن الأزياء مما يتطور ويتغير عبر العصور, وكل لغوي أو مفسر يجتهد في إسقاط المعنى على المشاهد في عصره, والحق أنه لا يُقبل أن يُحصر الجلباب في شكل من الأشكال لأي عصر من العصور, فلسنا ملزمين باتباع أزياء القرن الأول الهجري, وإنما علينا أن ننظر لأصله لنبصر ماذا يمكن أن يكون, فإذا نظرنا فيما قال ابن فارس في المقاييس حول الأصل “ج ل ب” وجدناه يقول:

“الجيم واللام والباء [أصلان]: أحدهما الإتيان بالشيء من موضعٍ إلى موضع، والآخر شيءٌ يغَشّي شيئاً. ….. “
ونجد ابن منظور يقول في اللسان:
“اللسان: وجَلَبَ الدَّمُ، وأَجْلَبَ: يَبِسَ، عن ابن الأَعرابي.
والجُلْبةُ القِشْرةُ التي تَعْلُو الجُرْحَ عند البُرْءِ.
وقد جَلَبَ يَجْلِبُ ويَجْلُبُ، وأَجْلَبَ الجُرْحُ مثله. الأَصمعي: إِذا عَلَتِ القَرْحةَ جِلْدةُ البُرْءِ قيل جَلَبَ. ….. والجُلْبةُ في الجَبَل: حِجارة تَرَاكَمَ بَعْضُها على بَعْض فلم يكن فِيه طَرِيقٌ تأْخذ فيه الدَّوابُّ. …. الجُلْبةُ العِضاهُ إِذا اخْضَرَّتْ وغَلُظَ عُودُها وصَلُبَ شَوْكُها.

والجُلْبةُ السَّنةُ الشَّديدةُ، وقيل: الجُلْبة مثل الكُلْبةِ، شَدَّةُ الزَّمان؛ يقال: أَصابَتْنا جُلْبةُ الزَّمانِ وكُلْبةُ الزمان.” اهـ

فكما رأينا فالجلب يدل على شيء يغشى شيء وفيه قوة وصلابة, ومن ثم يمكننا القول أن الجلباب هو ثوب غليظ ساتر فوق الثياب, ويمكن أن يصدق في عصرنا هذا على المعاطف أو على أي رداء ثقيل ترتديه المرأة!

وليس في الآية ما يدل على أي حجم يمكن أو يجب أن يكون عليه هذا الجلباب, كما أن الآية نفسها لا تُلزم بارتداء الجلباب, (لاحظ أنه زي إضافي) وإنما تأمر بالتحشم في الثياب بما يتناسب مع أي عصر ومكان, مما يدفع الأذى عن المرأة ولا يُبدى منها ما يثير التحرش بها.

ونترك الجلباب ونعود إلى الكلمة المحورية الأخرى “الخمار”, فما هو الخمار؟

إذا نحن نظرنا في أقوال الدكتور شحرور وجدناه يناقض نفسه فيقول:
“والخمار جاءت من “خمر”، وهو الغطاء، والخمر سميت خمراً لأنها تغطي العقل وليس الخمار هو خمار الرأس فقط، وإنما هو أيُّ غطاء للرأس وغير الرأس،
لذا أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنات بتغطية الجيوب التي هي الزينة المخفية خلقاً وسمح لهن بإبداء هذه الجيوب بقوله: {ولايبدين زينتهن}. (…….) وكذلك كان لباس المرأة العربية لباساً حسب أعراف العرب ومناخ شبه جزيرة العرب فكانت تلبس ثوباً طويلاً وتضع خماراً على رأسها ليقيها الحر. كلباس نساء البادية الآن وهذا كان لباس أم المؤمنين خديجة (رض) التي توفيت قبل نزول سورة النور وسورة الأحزاب، حيث كان لباسها قومياً تماماً. ” اهـ

فنجد أنه يقول أن الخمار هو الغطاء سواء كان للرأس أو لغيره ثم يعود فيناقض نفسه فيقول أن الخمار كان فعلاً زياً للرأس عند المرأة!

قد يقول قائل: إن هذا راجع إلى العرف ونحن غير ملزمين بالأعراف العربية.
فنقول: نعم, ولكن سيظل الأصل نفسه متفق عليه, فلا يمكنني أن أقول مثلاً–استناداً إلى أن الخمار من الخمر والذي يعني التغطية- أن المقصود من الخمار غطاء الإناء, وإنما أفهمه كلباس, ومن ثم علينا أن ننظر كيف هو هذا الثوب, لا أن أنظر للأصل اللغوي, فمهما تغيرت مثلاً أشكال السراويل فستظل دوما سراويل (لباس مخصص للسيقان), ومن ثم لا يُقبل أن يأتي أحد فيقول أنه ليس المقصود من السراويل في النصوص هو ما يرتديه الإنسان على سيقانه وإنما كل ما يُتسرول به! فهذا ما لا يُقبل بحال.

وكذلك الحال مع الخمار, فإذا كان اسماً لغطاء الرأس فلا يمكن أن أجعله اسماً عاماً لكل الثياب, ومن ثم ننظر في معاجم اللغة –كمرجع تاريخي- لنبصر ماذا قالت, وجدنا أنها اختلفت في تحديد مدلول الخمار فنجد ابن منظور يقول:
” الخِمَارُ للمرأَة، وَهُوَ النَّصِيفُ، وَقِيلَ: الْخِمَارُ مَا تُغَطِّي بِهِ المرأَة رأْسها ”

والنصيف هو –كما جاء في تاج العروس وكتاب المحيط في اللغة وفي لسان العرب – قالَ أَبو سَعِيدٍ: النَّصِيف ثَوْبٌ تتجلَّل بِهِ المرأَة فَوْقَ ثِيَابِهَا كُلِّهَا، سُمِّيَ نَصِيفاً لأَنه نَصَفٌ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَهَا فحَجز أَبصارهم عَنْهَا” اهـ

وكما رأينا فقد قالت المعاجم أن الخمار ثوب فوق الثياب, وتذكر بصيغة التضعيف أنه غطاء الرأس, ومن ثم نرجع إلى كتب الأحاديث لننظر كيف استُعملت كلمة “خمار”, هل كانت تُستعمل بمعنى غطاء رأس أم بمعنى ثوب:
إذا نظرنا في موطأ مالك ألفيناه يقول:

الموطأ: وحَدَّثَنِي عَنْ مَالِك عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا قَالَتْ دَخَلَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى حَفْصَةَ خِمَارٌ رَقِيقٌ فَشَقَّتْهُ عَائِشَةُ وَكَسَتْهَا خِمَارًا كَثِيفًا

فهنا نجد أن الراجح أن المراد من الخمار أنه ثوب –وليس غطاء للرأس- خفيف فشقته عائشة وكستها آخر كثيفا.
إلا أن الحق أن هذه الرواية لا توضح هذا فنذهب إلى مصنف أبي شيبة, فنجده يقدم بعض الروايات تؤكد أن الخمار ثوب وليس غطاء رأس, فنجده يقول:

“حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن عبيدة عن إبراهيم قال يكفن الصبي في خمار يجعل منه قميص ولفافة.”
حدثنا غندر عن عثمان قال سألت الحسن عن الجارية إذا ماتت هل تخمر ولم تحض قال لا ولكن تكفن في ثلاثة أثواب.

دثنا الثقفي عن أيوب قال ماتت ابنة لانس بن سيرين قد أعصرت فأمرهم ابن سيرين أن يكفنوها في خمر ولفافتين.
في المرأة كيف تخمر

حدثنا يزيد بن هارون عن هشام قال سألت أم الحميد ابنة سيرين هل رأيت حفصة إذا غسّلت كيف تصنع بخمار المرأة؟ قالت نعم كانت تخمرها كما تخمر الحية ثم يفضل من الخمار قدر ذراع فتفرشه في مؤخرها ثم تعطف تلك الفضلة فتغطي بها وجهها.

فكما رأينا فحفصة كانت تخمر الميتة المغسلة كما تُخمر الحية, ثم يبقى من الخمار قدر ذراع فتفرشه في مؤخرها ثم تغطي وجهها!
ومن ثم لا يمكن القول أن الخمار غطاء رأس, ناهيك عن أن يكون ساترا للوجه!!!

فإذا تركنا مصنف أبي شيبة وانتقلنا إلى مصنف عبد الرازق وجدناه يورد روايات تؤيد هذا المعنى, فنجده يروي:
“عن سليمان بن موسى قال يقال : إن المرأة إذا حاضت لم يقبل لها صلاة حتى تختمر وتواري رأسها.

ولو كان الخمار غطاء رأس فلا مجال لقول: “وتواري رأسها”, وإلا لأصبح القول مثل: “وعليك أن ترتدي (طاقية) وتضعها على رأسك!”, ومن ثم نفهم من الجملة أن الخمار ثوب يمكن أن يُغطى به الرأس وممكن ألا يُغطى.
ويؤكد هذا المعنى برواية أخرى:

عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: إذا صلت أمة غيبت رأسها بخمارها أو خرقة ، كذلك كن يصنعن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده، وكذلك رأيته في كتاب الثوري.

فحتى الإماء كن يغيبن رأسهن بخمرهن أو بخرقة (إذا لم يكن الخمار كافياً أن يغطي الرأس), وهذا دليل آخر على أن الخمار ثوب يمكن أن يغطي الرأس أو لا يغطيها.

ويروي رواية أخرى بهذا المعنى, تقول:
عبد الرزاق عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : أتصلي المرأة في دراعة ؟ قال : نعم ! أخبرت أن الاماء على عهد رسول الله وبعده كن لا يصلين حتى تجعل إحداهن إزارها على رأسها متقنعة، أو خمارا ، أو خرقة يغيب فيها رأسها.

إذا وكما رأينا من هذه الروايات فالخمار ثوب وليس غطاء للرأس, ومن ثم فإذا أُمر بضرب الخمار على الجيوب فليس حتماً أن يكون الرأس مغطى.

وحتى لا يقال أن الخمار لم يكن هو ما يغطي الرأس وإنما الجلباب, نقول:
الجلباب مأمور به كحالة استثنائية لظروف معينة, وعلى الرغم من ذلك فهو لا يغطي الرأس بطبيعته, وإنما –مثل الخمار- من الممكن أن يُغطى به الرأس أو لا, فنجد ابن أبي شيبة يروي في مصنفه:

“عن أنس بن مالك قال دخلت على عمر بن الخطاب أمة قد كان يعرفها لبعض المهاجرين أو الانصار وعليها جلباب متقنعة به ….”
فكما رأينا فالروايات تقول أن الأمة ارتدت الجلباب متقنعة به, متخذاه كقناع, ومن ثم فالأصل أنه ليس كذلك, ومن الممكن جعله كذلك.

وكذلك الحال مع “الملحفة”, فنجد ابن أبي شيبة يروي في مصنفه كذلك:
” حدثنا غندر عن شعبة قال سألت الحكم فقال في درع وخمار وسألت حمادا فقال تصلي في درع وملحفة تغطي رأسها.”

إذا وكما رأينا من الروايات فلم يكن هناك زي مخصص لغطاء الرأس, وإنما كن النساء يستعملن ما يرتدينه أحيانا كغطاء للرأس فإن لم يصلح فكن يضعن قطعة قماش على رؤوسهن “خرقة”

كما نجد في مصنف عبد الرازق:
“عبد الرزاق عن الثوري عن ابن جريج عن عطاء قال : كن الاماء إذا صلين تلقين على رؤوسهن خرقة ، كذلك كن يفعلن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال عبد الرزاق : وقد سمعته يحدث عن ابن جريج.”

وكما رأينا فقطعة القماش التي كانت توضع على الرأس لم يكن لها اسم محدد, وإنما كانت تسمى “خرقة” -وحتى الإماء كن يضعنها على رؤوسهن في الصلاة-

والناظر في الروايات الواردة عن النبي والصحابة يجد أن “القناع والتقنع” –أو حتى: التلثم- كان هو اللفظ المستخدم للإشارة إلى تغطية الرأس أو الوجه, كما رأينا في الروايات السابقة, وكذلك نجد في مصنف عبد الرازق:
عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس أن عمر ضرب أمة لال أنس رآها متقنعة، قال : اكشفي رأسك لا تشبهين بالحرائر.

وكذلك: عن معمر عن قتادة عن ابن المسيب أنه كره أن يصلي الرجل وهو متلثم
ويروي أبو داود في سننه:
“عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى فَاطِمَةَ بِعَبْدٍ كَانَ قَدْ وَهَبَهُ لَهَا قَالَ وَعَلَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ثَوْبٌ إِذَا قَنَّعَتْ بِهِ رَأْسَهَا لَمْ يَبْلُغْ رِجْلَيْهَا وَإِذَا غَطَّتْ بِهِ رِجْلَيْهَا لَمْ يَبْلُغْ رَأْسَهَا فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَلْقَى قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكِ بَأْسٌ إِنَّمَا هُوَ أَبُوكِ وَغُلَامُكِ”

أمّا إذا بحثنا في كتب الحديث عن باقي الكلمات المستعملة لما يغطي الوجه, فنجد أن كلمة “البرقع” مثلاً لم تظهر فيها مطلقاً, (مما يرجح كونها كلمة حديثة الاستعمال متأخرة الظهور)

فإذا بحثنا عن كلمة “نقاب” وجدنا أنها لم تأت في كلام النبي إلا بالمعنى المكاني “الطريق بين جبلين أو الحدود”, كما جاء في مسند الطيالسي:
حدثنا أبو داود قال : حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن الزهري ، قال : حدثني عياض ختن أسامة ، عن أسامة ، أن رجلا قدم من الأرياف فأخذه الوجع فرجع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني لأرجو أن لا يطلع علينا نقابها » يعني نقاب المدينة.

بينما ظهر “النقاب” في استعمال التابعين ومتأخري الصحابة بمعنى غطاء الوجه, (مما يشير إلى حدوث تغير في شكل القناع الذي يغطي وجه المرأة فأصبح يغطيه كله ما عدا العينين مثلاً أو ما شابه, ومن ثم أخذ هذا الاسم الجديد “النقاب”)

فنجد ابن أبي شيبة يروي في مصنفه:
“في النقاب للمحرمة حدثنا أبو بكر قال حدثنا حاتم بن إسماعيل عن جعفر عن أبيه أن عليا كان ينهي النساء عن النقاب وهن حرم ، ولكن يسدلن الثوب عن وجهوهن سدلا.

(2) حدثنا أبو بكر قال حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه قال : ترد المرأة المحرمة الثوب على وجهها ولا تنتقب.
(3) حدثنا أبو بكر قال حدثنا أبو خالد عن يحيى وعبيدالله عن نافع عن ابن عمر : لا تنتقب المحرمة.
(4) حدثنا أبو بكر قال حدثنا وكيع عن حماد بن سلمة عن أم شبيب عن عائشة أنها كرهت النقاب للمحرمة والكحل، ورخصت في الخفين.
(5) حدثنا أبو بكر قال حدثنا عبدة بن سليمان عن عبد الله عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكره للمحرمة النقاب والقفازين.
(6) حدثنا أبو بكر قال حدثنا العقدي عن أفلح عن القاسم قال : لا تنتقب.
(7) حدثنا أبو بكر قال حدثنا أبو داود الطيالسي عن شعبة قال : سألت الحكم وحمادا عن النقاب للمحرمة فكرها وقالا : تخرج وجهها لله.” اهـ

فكما رأينا من هذه الروايات, فالصحابة ما كانوا يحبذون لبس النقاب للمحرمة “يكرهون هذا” ولو كان فيه نهي عن النبي لنهوا عنه نهياً صريحاً ولما كان بصيغة الكراهة.

قد يقول قائل: ولكن الانتقاب ورد في كلام النبي فعلاً.
نقول: لم يرد النقاب أو الانتقاب في كلام النبي إلا في روايتين مشكوك في نسبتهما إليه, فنجد أبا نعيم الأصبهاني يروي في معرفة الصحابة:

“جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، النار النار ، فقام إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « ما نجواك ؟ » فأخبرته بأمرها وهي منتقبة ، فقال : « يا أمة الله ، أسفري ، فإن الإسفار من الإسلام ، وإن النقاب الفجور »

والرواية الأخرى في صحيح البخاري, الذي يروي عن ابن عمر:
“عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاذَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ مِنْ الثِّيَابِ فِي الْإِحْرَامِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْبَسُوا الْقَمِيصَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا الْبَرَانِسَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ لَيْسَتْ لَهُ نَعْلَانِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا الْوَرْسُ/ وَلَا تَنْتَقِبْ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ وَلَا تَلْبَسْ الْقُفَّازَيْنِ.

ونحن لا نطعن في سند الحديث ولا متنه وإنما نقول أن مقولة:
“ولا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين” هي من كلام ابن عمر, والذي جعله الرواة من كلام النبي, ويدل على ذلك روايات أخرى صرحت بأن هذه الزيادة من كلامه, فنجد البخاري نفسه يقول بعد الرواية:
“تَابَعَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ وَجُوَيْرِيَةُ وَابْنُ إِسْحَاقَ فِي النِّقَابِ وَالْقُفَّازَيْنِ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ وَلَا وَرْسٌ وَكَانَ يَقُولُ لَا تَتَنَقَّبْ الْمُحْرِمَةُ وَلَا تَلْبَسْ الْقُفَّازَيْنِ وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ لَا تَتَنَقَّبْ الْمُحْرِمَةُ وَتَابَعَهُ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ”

والإمام مالك يروي هذه المقولة عن ابن عمر, فنجد في الموطأ:
حَدَّثَنِي عَنْ مَالِك عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ:
“لَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ”
ونجد في سنن أبي داود:
عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ (ابن عمر) قَالَ
سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَتْرُكُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ فَقَالَ لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْبُرْنُسَ وَلَا السَّرَاوِيلَ وَلَا الْعِمَامَةَ وَلَا ثَوْبًا مَسَّهُ وَرْسٌ وَلَا زَعْفَرَانٌ وَلَا الْخُفَّيْنِ إِلَّا لِمَنْ لَا يَجِدُ النَّعْلَيْنِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ.

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَعْنَاهُ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَعْنَاهُ وَزَادَ وَلَا تَنْتَقِبُ الْمَرْأَةُ الْحَرَامُ وَلَا تَلْبَسُ الْقُفَّازَيْنِ قَالَ أَبُو دَاوُد وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ حَاتِمُ بْنُ إِسْمَعِيلَ وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَلَى مَا قَالَ اللَّيْثُ وَرَوَاهُ مُوسَى بْنُ طَارِقٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَر.
نخرج من هذا بأن دعاة النقاب يدعون إلى شيء لم يكن موجوداً على زمان النبي, وعليهم أن يغيروا اسمه وشكله, فيدعون إلى “القناع”.

وبعد هذا البحث الطويل نصل إلى النقطة المحورية:
ما الذي يجوز للمرأة كشفه وما الذي يجب عليه تغطيته؟

نقول وعلى الله الاتكال –ونعوذ به من التقول عليه-:
لم يصح في قدر الزي الشرعي عن النبي الكريم حديثٌ واحد, وحديثا الوجه والكفين أو نصف الذراعين غير صحيحين, ونجد بعض الروايات أن الرجال والنساء كانوا يتوضؤون في زمان النبي في إناء واحد! فنجد في البخاري وغيره من كتب السنن: “كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم جميعا”

ونجد في سنن أبي داود عن أم صُبية الجهنية:
اختلفت يدي ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء من إناء واحد. ” اهـ

مما يدل على أن أعضاء الوضوء كانت مما لا يتحرج المسلمون من النظر إليها, ولم تكن هناك تلك الحساسية الشديدة في مشاهدة شعر المرأة أو يدها أو قدمها.

وجمعاً بين الآيات التي أمرت بتغطية فتحات الثياب, ولم تجز كشف الملابس الداخلية, وكذلك التي أمرت بمزيد تحشم عند الأذى, جمعاً بينها وبين الروايات الواردة في الباب نقول:
أنه يجوز للمرأة كشف أعضاء الوضوء: الوجه والذراعين والشعر والقدم, إذا كانت آمنة ولا يصيبها ضرر من هذا, فإن كان يصيبها إيذاء مادي أو حتى معنوى فالأولى أن تغطي, حتى ولو غطت كل جسدها.

ونقول أنه من الأبدى للمرأة المسلمة التي يصيبها الأذى في بلاد الغرب أن تكشف شعرها, أما التي لا يُتعرض لها فهي بالخيار إن شاءت كشفت وإن شاءت غطت.

وفي الختام أقول:
أعلم أني سأُنتقد وسأُرمى بمعاداة الحجاب والحشمة وبأني داعٍ إلى التحلل والتعري, ولكن الحق أحق أن يتبع.
فأنا أتضايق من المرأة التي تسير في الشارع متكشفة –ولا أريد أن أقول أني أشعر بالاشمئزاز –

وأرى المرأة المغرقة نفسها بالمساحيق مسخة- ولا يعجبني هذا بتاتاً ولا أريده, ويعجبني أن تستر المرأة نفسها ما عدا وجهها وكفيها! ولكن الهوى شيء والحق شيء آخر, وهذا ما ظهر لنا في المسألة –مخالفاً لهوانا- فنقول به حتى لا نكون ممن كتم علماً أو قال بخلاف ما يراه حقاً.

ردا على أسئلة الأخ عبدو نقول:
ليس المراد في قوله تعالى : “( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ) الاعراف 20″ الأعضاء الجنسية, وإنما الشيء السيء أو الفعلة السيئة, يدل على ذلك قوله:
“فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة : 31]”
فليس المراد قطعاً الحديث عن القبل أو الدبر.

بخصوص سؤالك عن لباس التقوى نقول:
ليس المقصود من لباس التقوى ثياباً مادية يرتديها الإنسان وإنما هي حالة التقوى التي يكون فيها الإنسان والتي تمنعه عن الفاحشة.

ونعم نحن نتفق أن النية مهمة في الثياب, فقد تكون امرأتين متفقتين في الستر والكشف إلا أن نية كل منهما في لباسها مختلفة, فتعاقب هذه على نية الإغراء بينما لا يكون على الأخرى شيء, إلا أن هذا لا يعني في عين الوقت أن تكشف المرأة ما يحلو لها بحجة النية!

ونرد على الأخ كتابد قائلين:
لا يمكن لأحد أن يحرم شيئا كان موجوداً في زمان النبي الكريم استنتاجاً, فإذا كان الوحي قد نزل في وجوده ولم يحرمه, فكيف نحرمه نحن؟!

نعم قد ترتأي الدولة منع شيئ لضرره أو لظروف معينة, إلا أن هذا لا يعطي المنع صيغة التحريم.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نقد رفض التعقل

من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …

تعليق واحد

  1. مقال اكثر من رائع شكرا على جهودك
    اخي هل يمكنني التواصل مع حضرتك لدي بعض الأسئلة و شكرا لك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.