نواصل اليوم بفضل الله تناولنا لسور المرحلة المدنية لنبين تاريخ وسبب نزولها, ونتوقف اليوم مع سورة يوسف, الثالثة نزولاً في المدينة!
والحق أنها من السور التي أخذت مني جهداً كبيراً لتحديد سبب نزولها, وذلك لأني كنت أظن أن السورة لا تقدم مناسبات تاريخية واضحة يُستخرج منها السبب, كما أني كنت أركز كثيراً في القصة, بدلاً من التركيز على بداية ونهاية السورة, واللتان قدمتا بكل وضوح ملابسات نزول السورة, فنقول:
المشهور أن سورة يوسف من آخر ما نزل في مكة –وقيل أن الآيات الثلاثة الأول منها مدنية-, إلا أننا نزيحها قليلاً ونقول أنها من أوائل ما نزل في المدينة
وهناك رواية ضعيفة تقول أن اليهود سألوا الرسول عن قصة يوسف, فجاءت في القرآن كما هي في التوراة فتعجبوا من دقة القصة! ونحن نقول فعلاً أن هناك يهود سألوا الرسول فعلاً, ولكن عن شيء آخر تماماً.
فبعد أن وُعد الرسول في سورة القصص بأن العاقبة للمتقين وأن الدار الآخرة لن تكون للمفسدين وأنه سيُرد إلى معاد, جاء بعض اليهود يسألون الرسول متى سيحدث هذا ومتى سيُمكن للمؤمنين
فنزلت سورة يوسف والتي تدور على وعد رباني جاء في رؤيا لنبي بأن الله ممكن له ورافعه على إخوته, تحقق بعد سنوات طوال رغماً عن مكر إخوته, بل جعل الله مكر إخوته سبيل لتحقيق الوعد, لترد على هؤلاء “السائلين”, وتقول لهم أن في يوسف وإخوته آيات لهم!
وبهذا التصور نفهم ما الرابط بين قصة يوسف وبين الآيات الواردة بعدها في نهاية السورة! فبعد انتهاء القصة كنت أجد قول الله تعالى: ” وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)”
فالله يقول للرسول في آخر السورة بعد أن قال له في أولها أن في قصة يوسف وإخوته آيات للسائلين, أنه رغما عن ذلك لن يؤمن أكثر الناس, والآيات البينات ليست فقط في السورة, فكم من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون!!
ونبدأ تناولاً تفصيلياً لسورة يوسف, يؤكد هذا الفهم, فنقول:
تبدأ سورة يوسف بعد ثلاثة حروف مقطعة بنفس البداية التي بدأت بها سورة القصص: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ, ثم بعد ذلك يُذكر الله الرسول بفضله عليه في وحيه له بالقرآن وكيف أنه كان من الغافلين: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3), وهو تأكيد لما جاء في آخر القصص: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ .. وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ”
ثم تبدأ القصة مباشرة برؤية رآها يوسف عليه السلام تقول أن الله سيرفعه على إخوته, وكيف أن أباه ينهاه عن أن يقصها على إخوته فيكيدوا له, ويقول له أن الله سيجتبيه ويعلمه من تأويل الأحاديث, فسيُعطى هو النبوة, وليس أحداً من إخوته.
ثم تحكي الآيات رمي إخوة يوسف أباهم بالضلال المبين. (ونلاحظ في السورة تكرر الحديث عن أفراد يرمون غيرهم بالضلال المبين, بينما هم الضالون, وهو ما كان من حال اليهود والمشركين مع المسلمين, ونُذكر بتكرر الحديث عن الضلال والهدى في سورة القصص: .. قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [القصص : 85])
وكيف مكروا للتخلص من يوسف, وكيف أوصله مكرهم إلى مصر! وبعد أن يصل إلى بيت العزيز يأتي التعليق الرباني على ما حدث, بقوله:
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
(تذكر الحديث عن التمكين والعاقبة في القصص)
وعلى العكس من موسى الذي كانت امرأة فرعون بحبها له سبباً في نجاته, تكون امرأة العزيز والنسوة بكيدهن سببا في دخول يوسف السجن (والذي سيوصله بعد ذلك إلى الحكم!!!), رغما عن أنهم رأوا الآيات!!
وفي السجن يدعو يوسف إلى الله, ونلاحظ استمرار التركيز على النقطة المذكورة في السورتين الماضيتين القصص والنحل, وهي: نفي الشرك عن الأنبياء وعن الخليل إبراهيم, وهدم العقائد الشركية المستقرة عند القوم:
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
وكما كانت رؤيا يوسف سبباً في وقوع ما حدث له, تكون رؤيا أخرى, رؤيا الملك سبباً في خروجه من السجن وتبريئه مما نُسب إليه وحدوث التمكين الفعلي له! (لاحظ تكرار الحديث عن التمكين وعن أن أجر الآخرة أفضل):
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
ثم تحكي الآيات بعد ذلك عن الجفاف الذي ضرب الأرض وكيف جاء إخوة يوسف إليه وكيف كاد الله ليوسف ليأخذ أخاه, ثم بعد أن عادوا إليه مرة أخرى يُذكرهم سيدنا يوسف بالقانون الرباني:
قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)
ثم يأتي إخوة يوسف بأبيهم وبأهلهم أجمعين ويدخلون على يوسف ويخرون له سجدا, وكما بدأت القصة بالحديث عن الرؤيا تُختم بالحديث عن وقوع تأويلها. وكيف أن يوسف يحمد الله على ما آتاه إياه من الملك وعلمه, ويدعوه أن يتوفاه مسلماً –غير مشرك- وأن يلحقه بالصالحين (من آباءه وغيرهم)؟
وبعد انتهاء القصة يقول الله للرسول أنه مهما حرصت لن يكون أكثر الناس مؤمنين, رغما عن أنك لا تسألهم على القرآن أجر! والآيات حولهم وهم عنها معرضون, فكذلك سيعرضون عن القرآن! وإن آمنوا ففي إيمان أكثرهم شرك:
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
ثم يؤمر الرسول بأن يقول أنه يدعو إلى الله على بصيرة وأنه ليس مشركاً (استمرار الحديث عن الدعوة وعن نفي الشرك في نهاية السورة كما كان في النحل والقصص: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة/ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ):
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
ثم يقال للرسول أنه كل الأنبياء كان رجالاً يوحى إليهم, أفلم يسيروا فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم, ولدار الآخرة خير للذين اتقوا (استمرار الحديث عن العاقبة كما جاء في آخر القصص كذلك
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ), والنصر يتأخر فهو يأتي بعد أن يصل الرسل درجة اليأس أو يقربوا:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
ثم تُختم السورة بالقول أن في قصص الأنبياء عبرة, وتصديق وتفصيل! فإذا وعد الله بشيء ففي قصص السابقين العبرة والتأكيد, ولكن هذا لقوم يؤمنون, إنما غيرهم سيعرضون!
فوعد الله لكم أيها المسلمون متحقق لا محالة.
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
وكالعادة نطلب إلى القارئ أن يفتح المصحف ويقرأ السورة تبعاً لهذا المنظور الجديد, فسيبصر بنفسه الارتباط بين القصة وبداية السورة وخاتمتها.
غفر الله لنا الزلل والخلل والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.