هداني الله منذ فترة طويلة للعكوف على كتابه لاستخراج الوحدة الموضوعية لسور القرآن العظيم, وبعد فترة من العكوف كان التحول من اكتشاف الوحدة الموضوعية إلى اكتشاف الجو التاريخي الذي نزلت فيه السور, واكتشاف الأحداث التي نزلت فيها سور من خلال تحليل السور وقراءة الآيات التي تتحدث عن أفعال وأقوال المشركين والكافرين المعاندين للبعثة
ومن ثم الخروج منها بصورة تاريخية يُعرف بها المناسبات التي نزلت فيها السورة.
ثم كان التحول الثاني باستكشاف ترتيب نزول سور القرآن, فإذا كانت السور نزلت سورا كاملة ولم تنزل كسور كاملة أحيانا وآيات مستقلة أحيانا أخرى تُلحق بها, كان التوجه إلى محاولة التعرف على ترتيب نزول سور القرآن, والذي سيكون له –بإذن الله وفتحه- عند اكتشافه كاملا
لله الحمد والمنة هو في مراحله الأخيرة- الفضل في تقديم فهم وتصور شمولي للإسلام مغاير للمألوف تماما!
وأثناء بحثي هذا كان يجول بخاطري هاجس خطير –قاله لي صراحة بعضُ من أخبرتهم بفكرة العمل- وهو: تاريخانية النص. فإذا قلنا أن النص نزل بسبب كذا والأجواء التي نزلت فيه هي كذا وسبب نزوله هو كذا! فهذا يعني أنه نص تاريخي محدود, ومن ثم سيكون من الصعب الحديث عن إطلاقه وتعميمه فيما بعد.
والحق أني بعد طويل نظر في سور القرآن ظهر لي أن كثيراً من آيات القرآن هي “رد فعل” لأقوال وأفعال المشركين! فتعجبت وقلت لنفسي: كيف يكون كلام الله رد فعل! لا ينبغي أن يكون هذا!! فكلام الله المفترض أنه موجِهٌ للبشر .. إلا أني لم أتوقف مع المسألة طويلا وأكملت بحثي!
وبعد مواصلة النظر ظهر لي المنظور الصحيح الذي أزال العجب والإشكالية! فالله أراد أن يوصل للبشر رسالة معينة, فلم يرد أن يجعلها مباشرة هكذا, وإنما أراد أن يوصلها محتوية اعتراضاتهم التي قد يعترضون بها عليه.
فاالله في إنزاله القرآن -وله سبحانه المثل الأعلى وليس كمثله شيء- كلاعب شطرنج مخضرم يخوض مباراة مع عدد ضخم من الهواة … وهو من ابتدء الحركة الأولى!
ولشدة اتقانه وإبصاره بأحوال اللاعبين وبطريقة تفكيرهم, يحرك قطعه بحركات معينة بحيث لا يكون أمام الخصوم إلا أن يضعوا قطعهم في خانة بعينها -ولا يمكن عقلا أن يضعوها في غيرها- ويظنون بذلك أنهم يحركون القطع تبعاً لرغباتهم بل ويظنون أنهم سيهزمون خصمهم بهذه الحركات!!
وتتواصل حركات قطعه والتي قد تبدو كرد فعل على تحريك قطعهم حتى يوصلهم إلى الخانة التي يريد .. فينهي المباراة.
وهذا ما كان فالله أنزل سور القرآن بشكل معين تبدأ بألفاظ معينة وتُختم بأخرى هو أعلم بها, وهو بعلمه الشامل يعلم ما سيكون رد فعل المشركين والكافرين, وماذا سيكون من الأحداث في مستقبل الزمان, ومن ثم تبدأ السورة التالية من حيث انتهت الأولى مستخدمة نفس الألفاظ التي خُتمت بها سابقتها, كأنها إكمال لها تأخر زمنا في النزول.
عند هذا لا يستطيع المرء أن يمنع القشعريرة التي تعتري جسده عندما يكتشف أن الاعتراض البشري وعدمه … سواء أمام العلم الرباني الشامل! وأمام الإحكام في تأليف هذا القرآن.
إذا فالقرآن ليس رد فعل وإنما توجيه للبشرية حيثما وكيفما أراد الرب اللطيف الخبير, ومن ثم فالنص ليس تاريخياً وإنما نص مطلق العلم.
وهنا لا تظل الإشكالية “تاريخانية النص” وإنما “محدودية النص”, فالنص لم يعرض لكل جوانب الحياة, وإنما عرض لأمور محددة قد تبدو تبعاً لمتطلبات ولمجريات العصر أموراً بسيطة أو قديمة تجووزت منذ زمن طويل, أو حتى مهمة ولكنه لم يعرض لأخرى أكثر جسامة ظهرت في عصرنا الحديث.
وهذه الإشكالية ظهرت تبعاً للقراءة التفكيكية التعميمية التي قام بها علماء المسلمون طيلة القرون الماضية للدين, وهو ما أبطلناه في كتابنا: “فقه الإنسان”, والذي ندعو الله أن يبصر النور قريباً. إنه سميع قريب مجيب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.