“كل شيء وله ثمن”

للأسف الشديد أصبحت هذه الجملة قناعة راسخة لدى نسبة كبيرة أبناء الجيل الحديث, والذين تشربوا بأفكار وشعارات الرأسمالية أيما تشرب!!
وأصبحت جملة مثل: “هناك أشياء لا تُقدر بالثمن” جملة مثالية لا محل لها من الإعراب, فهذه الأشياء إما أنها جد عالية الثمن أو أنها تافهة فليس لها سوق أصلا!! وذلك لأن الرأسمالية تفننت فعلياً في تسليع كل شيء! وبعد أن كان الإنسان يقوم بأشياء كثيرة –ابتغاء مرضاة الله- أو رحمة بغيره, أو رداً لجميل سابق, أو للمتعة.. أو .. لكثير من العلل التي لا دخل للمال فيها! أصبح تقريباً كل شيء قابل للبيع!
فالصوت يمكن أن يُسجل ويباع! وهيئتك نفسها ممكن أن “تُحبس” على صورة وتباع بحقوق ملكية للمصور! وأفعالك ممكن أن “تُسجل” بالصوت والصورة ثم تباع. وأفكارك نفسها يمكن أن تكتبها وتنال بها “الإعجابات” الكثيرة, التي سيترتب عليها كونه “مشهورا”, ومن ثم يمكنه الحصول على عروض إعلانية وغيرها!

وهكذا أصبح تفكير كثيرين, كيف يمكن الاستفادة من هذا الشيء أو من هذا الفعل؟! كيف يمكنني التربح من أفعالي أو أقوالي؟! وهنا نذكر بأن البشرية والفرد بدأوا حياتهم على هذا الكوكب في جو “فردوسي”, حيث يحصل الإنسان على كل شيء مجاناً, فالإنسان الأول كان يأكل من نعم الله رغدا –كما قيل لآدم عليه السلام مثلا-, وكان البشر يأكلون من ثمار الأرض, حتى بدأ الاستقرار والزراعة, والأطفال ينشئون في حضانة آباءهم … يحصلون على الأشياء مجانا (بينما يدفع الآباء الثمن مقابل الحصول عليها). ثم مع الوقت يبدأ ظهور فكرة “مقابل” أو “ثمن” الأشياء!
وفي المجتمعات البسيطة مثل المجتمعات القروية أو البدوية يكون نطاق الأشياء ذات المقابل المادي ضيقاً, بينما نطاق الأشياء التي يمكن الحصول عليها أو الوصول إليها بالتعاون والتناصر ومساعدة الآخرين يكون عريضاً!

وهذا التعاون يوجد روحاً من الأخوة والصداقة والمحبة بين أبناء المجتمع الصغير, بينما يضيق نطاق هذه الأشياء التي يمكن الحصول عليها بمساعدة “المجموع” في المجتمعات المدنية!! وكلما زادت المدنية ازداد هذا النطاق ضيقاً, وازداد نطاق الأشياء ذات المقابل المادي, حتى ظهرت الرأسمالية فألغت –أو تكاد- حيز الأشياء التي يعاون المجتمع في الوصول إليها, وأصبح على الفرد أن يعمل ويكد ويميت نفسه عملاً –منعزلا عن أقرانه وأقاربه- من أجل الحصول على المال الكافي لشراء هذه الأشياء الكثيرات المحيطة به!! والتي صيّروا لكثير منها سعراً بعد أن كانت في الأساس مجانية.

وبعد أن كان الإنسان –الغني والفقير- يعيش في وسط الطبيعة منشرح الصدر بها, في دور واسعة تحيط به الحيوانات والخضرة, عزلوه في غابات خرسانية سببت له الاكتئاب, وأصبح علية القوم من الأثرياء فقط هم من يستطيعون الوصول إلى هذه البيئة الصحية.

في الختام أقول: لا أقول إن الأصل في الأشياء هو “المشاعية”, ولا إنها حقوق للجميع, وإنما أقول إن كل ما حولنا هو نعمة من الله, ودورنا هو “إصلاح الأرض” وتعميرها, وديننا وإن كان أقر الملكية الفردية إلا أنه حث على “التساهل” في هذه الملكية, بالتبرع وبالنفقات وبمساعدة الآخرين بالفعل وبالقول, وبالسماح للآخرين باستخدام حاجياتنا … الخ.

كما أنه يذكرنا دوما بأننا في الحقيقة لسنا ملاكا لهذه الأشياء وإنما نحن “مستخلفون” فيها, أو “وكلاء/ خلفاء” فيها! والمالك الحقيق هو الله, وأفضلنا هو من يوصل هذه “النعم” لأكبر قدر ممكن من عباد الله, وليس ذلك الذي يوقفها عنده ويقصرها عليه.

إن مصطلح “النعمة” على أهميته وحجمه في الدين, قد غاب عن كثيرين والذين لم يعودوا ينظرون على قطعة الخبز الملقية على الأرض على أنها “نعمة” حرام أن تضيع أو تهدر, وإنما ينظرون إليها على أنها قطعة خبز على الأرض .. وهناك الكثير غيرها! وقد يرفعها فعلا من على الأرض –ليس ليأكلها حتى لا تُهدر- وإنما ربما حفاظا على نظافة المكان أو غيره من الأسباب!

ولذا أعتقد أننا بحاجة إلى إعادة استخدام هذه المفردة والإكثار من استخدامها وتكرارها, حتى نتذكر أن الأصل في الأشياء أنها نعمة من الله ونحن مستخلفون فيها, وليست “شيئا” دورنا أن نعتصره لنستخرج منه أي ربح ممكن.

#الفلسفة_التسييقية حول المصطلحات #نعمائية_الأشياء

شاهد أيضاً

الإنسان ليس مجبرا

جاءني سؤال يقول:هل الانسان مجبر عن البحث عن حقيقة الكون والغاية من الحياة، فقد يقول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.