“الموؤدون الجدد”!

قُدر لي أن أقضي ذات مرة قرابة نهارٍ كامل أمام إحدى “الورش”! ولفت انتباهي أن كل العمالة التي تعمل في الورشة من الأطفال, كلهم تقريباً من العاشرة وحتى الثلاثة عشر سنة, وشابان فقط لا أعتقد أنهما قد بلغا العشرين عاماً.
أخذت أراقب كيف يعمل هؤلاء الأطفال بآلية, وكيف يحملون أحمالاً ثقيلة عليهم, وأخذت أتساءل في نفسي: كيف هي حياة هؤلاء الأطفال؟

ثم قلت: لا شيء! يستيقظون من نومهم يذهبون إلى العمل/ الورشة, يعملون طيلة اليوم, ثم يعودون منهكون فيأكلون وينامون, ثم يذهبون في اليوم التالي إلى الورشة وهكذا! (وربما يقضون الوقت المتبقي من يومهم -إن كان لا يزال لديهم جهد- في اللعب)

وأخذت أتساءل: ما هو المستوى الأخلاقي الذي سيكون عليه هؤلاء؟ إن هؤلاء قد اكتسبوا بالفعل “أخلاق العمال” و”يدينون بدين الجدعنة”!!

وبالإضافة لذلك غالباً ما يكتسبون عادات سيئة أخرى, مثل السباب وربما التدخين وما شابه, وقلت في نفسي: هل يمكن أن تنفع موعظة أخلاقية مع هؤلاء؟ هو ربما يسمع للشيخ مرة واحدة في الأسبوع, -هذا إن كان الشيخ يقدم أمراً نافعاً وليس قصصاً ومثاليات-, ثم يجد نفسه في بيئة تُحتم عليه أن يتعامل بشكل معين! وبالتأكيد سيتعامل به حتى لا يٌسخر منه وحتى لا يُعد “شاذاً” أو “ساذجاً” بعبارة أدق.

وتساءلت: أي “دماغ” يحمل هؤلاء الأطفال, ما هو مستوى تفكيرهم, كيف سيكون هؤلاء الأفراد –وأشباههم- الذين لم يعرفوا في الحياة إلا “ورشة عمل” منذ صغرهم؟ كيف ينظرون إلى الحياة والناس من حولهم؟!

عندما نسمع أن أحد العاملين تحرش بفتاة أو حاول اغتصابها أو قام بسرقة كذا, فسرعان ما نسبه هو وطائفته ويبدأ الحديث عن “الأصل الواطي” وما شابه, وننسى أنه إنسان ذو مشاعر –وكان ذا طموحات-, يشعر في داخله أنه ضيع, ويرى الناس حوله تستمع بالحياة, فيحكم على هذا أنه من ضروب الإسراف والانحلال! وما أكثر حالات التحرش أو الاغتصاب إلا مع فتاة حكم عليها بعقله القاصر أنها “منحلة” تريد هذا! فهو يعاقبها على انحلالها!!


ولا يقتصر الأمر على هذا, وإنما يتعداه كذلك إلى كيفية معاملة الواحد من هؤلاء لزوجته؟! إن ذلك الإنسان الذي كان أسلوب التعامل معه منذ صغره هو “الضرب والإهانة”, غالباً ما سيرى أن أسلوب المعاملة هذا مع زوجته وأولاده عادي, بل ومن علامات “السيطرة والرجولة”! ولك أن تتصور حجم المعاناة التي ستعيشه تلك الأسرة!

المشكلة التي لا ينتبه إليها أكثرنا, أن كثيراً من هؤلاء “مكسورون”, هم يشعرون في قرارة أنفسهم أنهم أقل من غيرهم, كما يظهر هذا من حديثهم مع غيرهم! وهذا كارثة يترتب عليها تصرفات بشكل معين طيلة الحياة!! أن تشعر أنك أقل من غيرك وأنهم “باشوات”! (ولا أنسى أبداً أني توقفت ذات مرة بعربتي لأسأل أحد هؤلاء “الأطفال” العاملين, -كان سائراً في الطريق- عن “محطة وقود”, فكرر كلمة “يا باشا” في حديثه مرات عديدة! مع نظرة لم تخطئها عيني! فكنت أود أن أقول له: “والله لست باشا ولا أريد أن أكون”!)

خواطر كثيرة جالت في ذهني طيلة ذلك اليوم, من بينها عندما لاحظت “الظهر المحني” قليلاً لأحد الأطفال: كيف هي صحة هؤلاء الأطفال؟
إن هؤلاء الأطفال يعملون في ظروف صحية غير ملائمة بأي حال من الأحوال, مع انعدام تام ل “التأمينات الصحية”! فتُلوث صدورهم وتضعف عيونهم وكذلك آذانهم مبكراً! فهم وإن كانوا ربما يبدون أقوى بدناً من الأطفال التي لا تعمل, ولكنها “قوة ظاهرية مؤقتة”, سريعاً ما ستضمحل وتظهر آثار عملهم المبكر عليهم, عبر أمراض كثيرة يصابون بها في مقتبل عمرهم!!

مآسٍ كثيرة مترتبة على عمل الأطفال ولكننا عنها غافلون! فهل سيأتي اليوم الذي ننهى فيه بعضنا عن “تشغيل الأطفال” باعتباره “منكر” يستحق الإنكار وليس “مباحاً بالاختيار”؟!

قد يسأل سائل:
“هل يعني قولك هذا أن عمل الأطفال حرام شرعاً؟!”
فأقول: لا, ليس حراماً شرعاً, فلا توجد نصوص متعلقة بهذه المسألة, فلم تكن تلك المسألة من القضايا الملحة في عصر النبوة, ناهيك عن أنه ليس مما يمكن تحريمه, فهناك الكثير من الحالات التي لا يكون أمام الأسرة حل إلا أن يعمل أحد أو بعض أطفالها!

ناهيك عن تلك الحالات التي يعمل فيها الأطفال بشكل جزئي مع أهليهم وذويهم في أوقات فراغهم! والتي قد يطالب فيها الأطفال أنفسهم بأن يعملوا كما يعمل أهلوهم! ويكون لعملهم هذا أثر إيجابي في تقوية شخصيتهم واعتمادهم على أنفسهم!

وبغض النظر عن إمكانية حصر الحالات التي “يباح” فيها شرعاً عمل الأطفال من تلك التي لا يباح فيها, فإن القضية الرئيسة هي أن “ميزان الحلال والحرام” لا يصلح أن يكون هو الميزان الوحيد الذي نزن به شئون وأمور حياتنا! (وهذا ما بيناه في مقال سابق: الحلال والحرام ليسا كافيين) نعم هو ميزان هام لا نقلل من أهميته, ولكن ينبغي بل ويجب أن يكون هناك بالتوازي موازين أخرى توزن بها الأمور!

فيمكن أن تكون هذه الموازين دينية لمن يريد أن يتمسك ويعمل بالدين كمحرك رئيس, مثل: رضا الله أو أيهما يحب الله أكثر؟ هل يرضي الله أن يعمل الأطفال ويحب هذا أم يحب أكثر أن يعيشوا طفولتهم؟ إن الله هو من خلق الأطفال على هذه الشاكلة, وجعل هذه المرحلة من حياتهم للهو واللعب والتعلم والتعرف على الحياة وليس ليشقوا من مبتدأ حياتهم!!

ويمكن أن تكون الموازين إنسانية مثل هل يُسعد عامة الناس أن يعمل أبناءهم ويكدوا ويشقوا ويتركوا تعليمهم أم أن يروا أبناءهم يتعلمون ويلهون ويلعبون ويعيشون حياة جيدة؟
أو موازين عقلية, فهل عمل الأطفال نافع للمجتمع أم ضار؟! هل النتائج المترتبة على عمل الأطفال ستكون إيجابية للمجتمع بدرجة كبيرة أم ضارة بالدرجة الأكبر؟! وما هو مقدار النفع بالنسبة للأطفال أنفسهم وما هو مقدار الضرر؟!

أمور كثيرة إذا أخذت بعين الاعتبار سيختلف حكمنا كثيراً على هذه المسألة! ولا يقتصر الأمر على مجرد النظر إلى العواقب لنغير حكمنا
وإنما يتعداه كذلك إلى “المنطلقات”, إلى منظورنا إلى الأطفال ودورهم في حياتنا كبالغين! فالنظرة الريفية إلى الأطفال على أنهم “عزوة”, يناصرون أباهم ويساعدونه في العمل, تدفع الأب لإنجاب عدد كبير من الأولاد ليعملوا معه في الحقل, أو ليساعدوه في عمله اليدوي!

بينما سيختلف الحال كثيراً إذا نظرنا إلى أبناءنا على أنهم أفراد ذوي شخصية مستقلة ومستقبل يُفترض أن يكون مختلفاً عن حاضرنا, فلا يكون جل سعينا أن نضعهم في نفس القالب الذي عشنا فيه! أن نلبسهم نفس الجلباب الذي عشنا فيه, وإنما ينبغي أن يكون دورنا مساعدتهم وإرشادهم في اختيار الطريق الذي يرونه الأفضل والأنسب لهم.

ولا نلقي بكل الحمل على الأسرة, لأن الأم أو الأب فرد ضعيف, إن لم يجد أن دخله كاف فسيحاول تغطيته بأي شكل ممكن! ومن ثم سيفكر في أن يعمل ابنه, وقد يكون كارهاً لهذا ولكنه لا يجد حلاً بديلاً
وهنا يجب أن يكون “للدولة أو المجتمع” دور في محاربة مثل هذا العمل, بأن تؤخذ خطوات جدية في توعية الأهالي أنفسهم بالأضرار الكارثية لهذا الفعل, فلا يكون التفكير في عمل الطفل فكرة سريعة الخطران ببالهم!
ثم تؤخذ بعد ذلك خطوات جادة في الرقابة على المؤسسات الصغيرة التي يعمل فيها مثل هؤلاء الأطفال بأجور زهيدة, فيُغرم أصحابها غرامات كبيرة تؤخذ وتُعطى لأهالي هؤلاء الأطفال الفقراء, فإن اكتُشف عمل الطفل مرة أخرى فيعاقب الأهل أنفسهم هذه المرة.

وأعود فأقول: أي إجراء أو غرامة أو عقوبة بشأن هذه المسألة بدون توفير رواتب كريمة كافية وبدون رفع وعي الأهالي –محدودي التعليم والأميين غالباً والذين لم يعيشوا طفولتهم غالباً, ومن ثم لم يتحرجوا في أن يجعلوا أبناءهم مثلهم- لن تؤدي إلى نتائج إيجابية كافية!

فهل سيأتي يوم يقتنع “رجال الدين” فيه بأن عمل الأطفال هو مثل الخمر “فيه إثم كبير ومنافع وإثمه أكبر من نفعه”, وأنه هو “وأد” هذا العصر, إلا أن الآية قد انقلبت, فأصبح الموؤدون ذكوراً على الغالب, بعد أن كانوا إناثاً في الجاهلية؟! فيبدؤون الحديث عن هذه القضية على المنابر أم سيظلون معرضين عنها, لأنه لا نصوص صريحة في المسألة؟!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نقد رفض التعقل

من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.