بعد أن عرضنا لقضية “القناعات” وكيفية تكونها, نعرض اليوم بإذن الله وعونه لثنائية “المثالي” والواقعي!
ونحن إذ نتحدث عن المثالي فإننا لا نقصد المثالي المقابل للمادي
كما تصوره أفلاطون, فقال بوجود عالمين:
“ العالم الأول: عالم الحس المشاهد،دائم التغير،عسيرالإدراك، ليس جديرًابـأنيسـمَّى موجودًا،ولايسمَّى إدراكه علمًا،بل هوشبيه بالعلم؛لأنه ظل وخيال للموجودالحقيقي .
العالم الثاني: عالم المجردات،فيه أصول العالم الحسي وهومثاله الذي صـيغت عليـه موجوداته كلها؛ ففي عالمالمثل يوجدلكل شيءمثاله
وفي الحقيقةالموجودالكامل لأنه مثال للنوع لاللجزءالمتغيرالناقص؛ ففي عالم المثل إنسانيةالإنسان وحيوانيةالحيوان، وخيريةالخير،وشكليةالشكل …وهكذا.” ا.هـ
وإنما نقصد بالمثالي التصور الأمثل الذي يقدمه البشر أو بعضهم, للشكل الأفضل الذي ينبغي أن يكون عليه الشيء, والذي يجعله على درجة الكمال أو قريبا منه, والذي يستطيع معه الإنسان أن يقول بثقة ويقين: هكذا ينبغي أن يكون الشيء!
فإذا نظرنا في أي مجتمع إنساني وجدنا أن الإنسان يقابل هذه الثنائية منذ صغره, فنجده يُلقن من رجال الدين أو من الفلاسفة أو من الكهنة … تصورا للقيم والمبادئ وما ينبغي أن يقوم به الإنسان وأن يكون عليه!
فإذا نظر الصغير النامي في الواقع حوله وجد أن الواقع بخلاف ما يُلقن, فيجد أن الناس تخالف هذه المبادئ والمُثل والقيم والتصورات, وقد تصل درجة هذه المخالفة إلى أن يعتقد الإنسان أن القوانين ما وُضعت إلا لتنتهك! وأن المبادئ ما عُلمت إلا ليتصرف الإنسان بخلافها!!
ينظر الإنسان السوي حوله فيرى ظلما وفقرا وبؤسا وشقاء, فيسقط الحكم المباشر بأن هذا راجع إلى مخالفة البشر لهذه المبادئ والقيم, لأنهم لا يأتونها على الوجه الأمثل, وأنهم لو خضعوا لها وطبقوها لاختلف الحال كثيرا!!
ومن ثم يسعى الإنسان لتغييرها بشتى السبل, من أجل تحقيق هذه القيم!
والناظر يجد أن الفصل بين الواقع والمثالي يظهر بأوضح ما يكون في جيل الشباب ويخفت بشكل واضح عند عامة الكبار, وذلك لأن الشباب غالباً ما يكونون في المرحلة التنظرية, والتي يتلقون فيها العلوم والتصورات عن العالم المحيط بهم وكيف ينبغي أن يكونكما أنهم لم يحتكوا بالواقع بالقدر الكافي ليجزموا بإمكانية أو عدم إمكانية تحقيق النظريات,
لذا يتحرك الشباب مدفوعين بحماستهم, وعدم انشغالهم بهموم الواقع من أجل أن يغيروا الواقع … إلى ما هو أفضل!! فيصطدمون بصخرة الواقع وصعوبة التغيير في المجتمعات البشرية, فمنهم من يلين وينشغل بدنياه, ومنهم من يستمر في محاولاته, ومنهم من يجعل التغيير إلى الأمثل غاية لحياته!
والإنسان ككائن مستخلف في الأرض يشعر في قرارة نفسه أن عليه فعل الأفضل من أجل تحقيق الهدف الذي وُجد من أجله, ومن ثم فإن عامة الناس الذين لا يشغلون أنفسهم بالتصور الأمثل للمجتمع, يجعلون سعيهم للحصول على غاية عليا عظيمة, ظناً منهم أنهم بذلك يحققون الكمال بوصولهم إلى غاية حياتهم!
فإذا وصل الإنسان إليها وأصبحت واقعا ملموسا أمامه, عافها وزهد فيها ولم تعد كما كانت من قبل بالنسبة له, وذلك لسببين رئيسين:
1- أن الله تعالى قد فطر الإنسان على أن الكمال لله وحده, وأن الراحة والسكينة في القرب منه, وأن الدنيا كلها مخلوقة لذلك, فإذا وصل الإنسان بدنياه إلى ربه ارتاح وسكن! وحتى لو تركها ووصل إلى ربه سكن واطمئن, فإن جعل دنياه غاية لنفسه, خاطبته نفسه بأن هذه ليست هي الغاية العظمى, ومن ثم يسعى مجدداً من أجل الوصول إلى ما يريح قلبه!
وهكذا يظل الإنسان يكدح ويسعى في الطريق الخاطئ ولن يرتاح أبداً إلا إذا عدل المسار وجعل الله وجهته, فهنا يستريح قلبه ويسكن فؤاده.
(وهناك من الناس من يجعل المبادئ والقيم والمُثل هي غاية له في حياته, فيسعى لتحقيقها طيلة عمره, فتحقق له هدوءً وسكينة, إلا أنه يشعر مع ذلك بأنه لم يحقق ما يريد, أما إذا أصبح الله الطرف الآخر من المعادلة, فالإنسان في طرف والله في الطرف الآخر, وكل ما في الدنيا أو في عالم القيم طريق إلى الله … إلى الكمال! يقتنع الإنسان ويقر بأنه قد وصل غايته وحقق مبتغاه!!)
2- أنها انتقلت من التصور المثالي الكمالي الوردي ذي الجانب الواحد والفرد الواحد, إلى الواقع الأرضي الناقص ذي التبعات المختلفة (المسؤولية) والمتقاطع مع غيره من الأمور والأشخاص والذي قد يؤدي إلى إشكالات عدة!
فالحالم بالمنصب مثلاً يرى الجاه والمكانة وينسى المسؤوليات الكبيرة والتهديدات التي قد يتعرض لها, والمنافسات الشديدة التي عليه خوضها, فإذا وصل إلى المنصب فوجئ بهذا كله, فلا تقتنع نفسه بما فيه!
والذي يحلم بالزواج السعيد يتوقع الزوجة المطيعة التي لا تعصي له أمرا, والتي تشع عطرا والتي تغمره بحنانها وحبها, ولا تطلب منه أي شيء!! وإنما هو يعطي ما يشاء متى شاء!! ثم يفاجئ بأن الواقع خلاف ما كان يحلم! فيبدأ بالحلم بشيء جديد وردي لا مسؤولية فيها!
وستظل هذه الإشكالية دوما تحاصر الإنسان وتجعل عالم المُثل والخيال أفضل بالنسبة له, فهناك لا صراع ولا تقصير ولا ضعف وإنما هو من يبني عالمه بنفسه, بينما في الواقع هناك الكثير والكثير من العوامل التي تساهم في تحقيق هذا الحلم!!
إلا أن هذه التصور المثالي هو الدافع الأفضل دوما بالنسبة للإنسان, فإذا فرضنا مثلا أن الرياضي يعزم أنه سيتمرن بشكل مكثف وسيأتي في التمرين بالعجائب!
ثم يذهب إلى التمرين في اليوم الثاني وهو متعب أو متكاسل فلا يأتي بما يتوقع, والمهندس يتخيل صورة لمبنى ما, لا ليس مبنى بل تحفة معمارية تتحدث عنها الأجيال, ثم يكتشف عند محاولة تخطيطها ورسمها أنها من الصعوبة بمكان …. إن لم تكن مستحيلة, ناهيك عن وجود الطرف الآخر الذي سيحقق هذا!!
إلا أن الصورة الموجودة في خياله, والمثال الذي يريد الوصول إليه وتحقيه, يدفعانه دفعا إلى معاودة الكرة, مرة ومرات, حتى يصل إلى ما يريد!
ويحاول الإنسان في سعيه الدؤوب التغلب على إشكالية نقص القدرات ومحدودية الإبداع بالتكرار للتعديل, فيحاول الإنسان دوما أن يحسن فيما أتى, فينظر فيه ليستخرج العيوب فيعالجها, ويحاول أن يعطي الجيد جمالا, فلا يقتصر الأمر على الجودة, وإنما يضفي عليه لمسة من الجمال …. وهذا هو دأب البشر في أعمالهم! وكما قال الأديب عبد الرحيم البستاني,
“إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا فى يومه, الا قال فى غده: لوغير هذا لكان أحسن. ولو زيد هذا لكان يستحسن. ولو قدم هذا لكان أفضل. ولوترك هذا لكن أجمل. وهذا من أعظم العبر. ودليل على استيلاء النقص على جملة البشر.”
فمهما أتى الإنسان من عمل سيظل مقتنعا دوما أنه بحاجة إلى أو قابل للتعديل, ومن ثم يستمر في التحسين والتعديل إلى ما يشاء الله, وحتى يشغله أمر آخر فيترك هذا مع عدم اقتناعه بأنه أتى به على هيئة الكمال!! وذلك للفطرة التي فطر الله الناس عليها أن الكمال له وحده!!
وبسبب إيمان البشر قاطبة بكمال الإله, وجدنا بعض من رفض كلمته الموحى بها إلى البشر قد أنكر وجود الإله, أو قال بوجوده وأنه خلق الكون إلا أنه تركه ولا يتدخل فيه!!
وذلك لأنهم نسبوا كل الأفعال إلى الله, فقالوا أنه الفاعل لكل شيء, ومن غير المعقول أو المقبول في حق الإله الكامل ذي الجلال أن يفعل الظلم, أو يهلك الناس هكذا بدون جريرة, فرفضوا وجوده أو قالوا بعدم تدخله! لأنهم أرادوا إلها يخاطب كل إنسان, وينير له طريقه –بنور حقيقي يمشي أمامه!!- بل ويوجهه إلى طريق الصواب إجباراً!
باختصار أرادوا أن يظلوا كالأطفال الرضع, يحملهم غيرهم ويطعمهم, فإن لم يفعل فليس موجوداً!
وظن القائلون بعدم تدخل الإله في الكون هكذا أنهم قدموا صورة طيبة رحيمة للإله! لأن ما يحدث في الكون هو من فعل الطبيعة … العمياء!! وليس من فعل الإله!! على الرغم من أن الذي يعمل العمل ولا يرعاه يتحمل من وجوه النقد الكثير والكثير, ومن ينجب الأولاد ولا يربيهم ليس بالرحيم بحال!!
وهكذا رفض البشر بالمثالية الحمقاء, والتي فندتها كلمة الرب, أن ينسبوا الفعل للإنسان, وأرجعوا كل الأفعال إلى الله, وحكموا أنهم آلهة مطلقي العلم والفهم!! ومن ثم فلا حكمة بتاتا في بعض الأفعال, ومن ثم فهي ليست من الرب!!
ولا يختلف هؤلاء في قراءتهم لكتاب ربهم عن القراءة “السلفية” للقرآن قدر أنملة!! على الرغم من إدعاءهم أنهم مجددون مفكرون مستقلون!!
والتصورات المثالية الوهمية النابعة من العالم أحادي البعد, الذي ينشأه كل منا لنفسه في ذهنه “على مقاسه” موجودة في مجالات عدة, لا يمكننا أن نعرض لها كلها أو جلها في مقال واحد, لذا ننبه على نقطة جد خطيرة بشأن المثاليات, وهي: مزرعة المثاليات!
قديما كانت التصورات المثالية تبنى على أساس أفكار ومثل عليا يُلقنها الإنسان ويأخذها مجردة من أفواه معلميه أو شيوخه أو من بين سطور الكتب!
أما في زماننا فلم تعد المُثل العليا مجردة وإنما أصبحت مصورة!! يراها الإنسان بعينيه, فبعد أن كان الإنسان قديما يتخيل ويتصور ما يود أن يعمله ويصل إليه!! أصبح الإعلام المرئي يقدم للإنسان نماذج خيالية وافتراضية لما يمكن أن يكون عليه كل شيء!!
ومن ثم لم يعد ذهن إنسان عصرنا يحلق في عوالم الخيال, يؤسس ويشيد, وإنما أصبح يحلم بالوصول إلى ما قدمه له الإعلام وصوّره!! فهذه هي الغايات العظمى والمنى القصوى! وليس في الإمكان أبدع … من هذا!!
وهكذا أصبح المعروض في الإعلام المرئي هو المثل الأعلى, فأصبح حلم المرأة أن تصبح مثل الجميلات المبهرات أو أشد إبهاراً -في حياتها اليومية!!-
وأصبح كثير من الشباب والكهول صورا ممسوخة مكرورة مقلدة, يقلدون في الكبيرة والصغيرة من يشاهدونهم على شاشات الإعلام!!
فيتصرف المنتقل إلى طبقة الأثرياء كما كان الأثرياء “الافتراضيون” يتصرفون! ويتصرف الشرير كما كان الأشرار يفعلون!!
وليست الخطورة الكبرى في كون الإنسان لم يعد كائنا “متخيلا”, وإنما الخطر الأكبر في أن “المثل العليا” أصبحت مادية نفعية!!
فقديما قدّم الرسل والفلاسفة والمفكرون … تصورات لإنشاء مجتمعات صالحة وإخراج أناس فاضلين! وكان من يأتي بعدهم يحلم بهذه المجتمعات ويقاتل من أجل تحقيقها على أرض الواقع!
اما أن فلم تعد المثل العليا إلا من أجل المادة, فلم يعد يهم أن يُنشأ مجتمع صالح أو فرد صالح, وإنما الهدف الأسمى!! هو استخراج آخر مليم من جيب المواطن … الصالح!! بل ودفعه إلى الاستدانه –بفوائد!!- إذا لزم الأمر للحصول على هذه “المشتهيات”!! فهذه هي غايات الإنسان!!
وهكذا انقلبت الآية, فلم تعد غايات البشر قيم ومُثل يسعون من أجل تحقيقها, ويفتخرون بإقامتها بينهم! وإنما شهوات يسعون لتملكها … بأي السبل!!
فلم تعد الأمم ولا الأفراد يفتخرون بظهور قيم العدل والرحمة … وإنما بالعقارات والثروات وبالملاهي والرفاهيات!!
وهكذا انحط الإنسان إلى ما هو دون الحيوان عندما تنازل عن القيم والمثل العليا! عندما اتبع الأثرياء المتشدقين بشعارات المصلحة والنفع! وعندما جعل غاياته شهواته … عندما آثر الحيوة الدنيا!!
فلكي يظل الإنسان إنسانا ولكي يكون المجتمع مجتمعاً إنسانيا لا بد أن تعم فيه القيم الإنسانية الحقيقية القابلة للتطبيق!! فيأخذ من المصلحين الذين لا يسعون للمادة, وإنما يريدون الإصلاح!
ولأن المعروض كثير, وفيه الضار والنافع, فمع المسلم كتاب ربه, الميزان الرباني, الذي يزن به كل النتاج البشري, فيتعرف به على المثاليات الوهمية التي لا مكان لها في حياة البشر, ويتجنبها, ويرتقي به عن الانحطاطية المادية, التي تريد للإنسان أن يصير “آلة بهيمة”!
جعلنا الله وإياكم من الأمة الوسط “الغير واهمة” “والغير دنيوية”!
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!!
شاهد أيضاً
نقد رفض التعقل
من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …