خطيئة التغشيش!

حديثنا اليوم بإذن الله وعونه عن خطيئة, إي وربي إنها لخطيئة يغفل عنها كثير منا ويتساهل فيها, ولا يرى فيها حرجا! بل قد يصل الأمر فيها لإنقلاب المعايير إلى اعتبارها من رفع الكرب!

لن نتكلم عن الغش! فكلنا يعلم ويؤمن أن الغش حرام, ولا جدال في ذلك! وعلى الرغم من أن الغش أنواع عديدة, ولا ينحصر فقط في الغش التجاري! إلا أننا إذا أطلقنا كلمة الغش انصرف الذهن –عندنا في مصر على الأقل- إلى معنيين اثنين, وهما الغش التجاري وفي الامتحانات (بمعنى الحصول على الإجابات بشكل غير شرعي من زميل أو ورقة أو من مدرس!)

وكثير يتحرجون من الغش التجاري, لأنه خداع وتغرير صريح لا جدال فيه, يؤدي إلى ضر الطرف الآخر! ولقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على صُبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاًفقال«ما هذا يا صاحب الطعام؟»قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال«أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ منغش فليس مني»وفي رواية«من غشنا فليس [رواه مسلم].

وعلى الرغم من حاجتنا إلى التذكير بالغش التجاري والحديث عنه, إلا أن الأيام أيام امتحانات –عندنا في مصر على الأقل- وهذه الأيام نجد حالات غش كثيرة,
فتجد الطلبة الذين كانوا يصلون في بيوتهم أو في غرفهم في المدينة الجامعية يسارعون للصلاة في المساجد, وقد تجدهم ملازمين المسجد لاستذكار دروسهم! يغش الواحد منهم نفسه بهذا! ظانا أنه إذا التزم هذه الأيام فسيكرمه الله عزوجل! ولست أدري ألا يظن الواحد منهم أنها حيلة مكشوفة وغش مفضوح!

وكذلك نجد من الشباب من يقطع علاقاته بالفتيات في هذه الأيام ويلتزم! علّ الله أن يوفقه في الامتحانات! ومن أمثال هذه الأفعال كثير!

وعملية الغش الأكبر تقع في داخل قاعات الامتحانات نفسها, فتجد الطلبة يتفنون في الحصول على المعلومات أثناء الامتحان بطريقة غير مشروعة! فمنهم من يسجلها على وريقات صغيرة بخط دقيق! ومنهم من يأخذها من زميل, ومنهم ومنهم!

والمشكلة الكبرى في الأستاذ المراقب! ذلك الذي يسمح بالغش! الذي يرى الطالب يحادث زميله أو يعطيه ورقة فيتصرف كأنه لم يرهما! والمشكلة الأكبر في ذلك المدرس الذي يباشر العملية نفسها!

فتجد بعضهم يعطون الطلاب الإجابات على الأسئلة! وآخرين يتركون طالبا يملي زملائه الإجابة على الأسئلة!
ولهم في هذا مبررات عديدة عجيبة! فمنهم من يقول أن الطالب لن يخرج فيجد عملا بما تعلم! فلماذا نطيل سنين عمره في التعليم!

ومنهم من تأخذه الرأفة بالطلاب وأولياء أمورهم, ويعز عليه أن يدفعوا تكاليف ومصاريف وأعباء نفس العام الدراسي مجددا!
ومنهم من يفعل ذلك لأن بين الطلاب قريب من أحد زملائه أو معارفه! فلكي يسكت ضميره, يسمح لكل الطلاب بالغش حتى لا يتميز هذا الطالب!!!
ومنهم من يفعل ذلك لأنه يعمل في مدرسة خاصة, ولا بد للطالب فيها أن ينجح ويحصل على أعلى الدرجات! وإن لم يفعل فهو من المطرودين!
ومنهم من يفعل ذلك يرى أن الطالب لم يتلق التعليم الكافي في المدرسة, ويرى أنه من الظلم ألا يُساعد على حل الامتحان!
وأسوأهم من يترك الطلبة يغشون من أجل أن ينهي المراقبة ويعود إلى بيته مبكرا, لأنه لو منع الغش فسيظل الطلبة إلى آخر الوقت المحدد!!

هذه مبررات يبرر بها من يغشش فعله, ولكنه ينسى النتائج والعواقب الوخيمة التي تترتب على فعله هذا, الذي يعده بسيطا أو يعده حسنا!!

فعندما تبدأ كارثة التغشيش مع طالب في المرحلة الابتدائية وفي الصفوف الأولى لها يعتاد الطالب على هذا, ويضع في حسبانه دوما أن هناك تغشيش! وإن لم يحدث في أول الامتحان فسيحدث في آخره, مما سيسمح له بالحصول على بعض المعلومات!
فلم يرهق نفسه في المذاكرة؟! فليذاكر قليلا! وقد لا يذاكر مطلقا ويعتمد على الغش في الامتحان!

وهكذا يظل ذلك الطالب يعتمد على غيره طيلة فترة دراسته التعليمية! إلى أن يتخرج كفاشل بجدارة, محسوبا على صفوف المتعلمين!
(ولا نريد أن نقول أن كل من اعتمد على الغش في تعليمه, ينشأ كذلك في حياته, معتمدا على غيره, ولكن نسبة منهم تصبح كذلك فعلا! تحتاج إلى من يُسير لها أمورها ويُنجز لها حاجاتها! كما تعتمد تلك النسبة على التسلق! فليتعب الآخرون ويجهدوا ولأحصل أنا على الربح أو على نصيب منه بلا تعب ولا جهد!)

وهكذا يفسد ويضيع دور العملية التعليمية بالنسبة لأجيال أو أبعاض أجيال بسبب تسيب الكبار أو عاطفة مذمومة, فنضيع سنين طويلة من أعمارهم في إبلاء سراويلهم على مقاعد التعليم (حاليا: على مقاعد المطاعم في الجامعات!) حتى يحصلوا على ورقة تقول أنهم تلقوا تعليما جامعيا!! وهم ورب الكعبة أجهل من ……!!!

أنا أعرف أن شعور الطالب الذي لا يعلم ما يكفيه للنجاح في ساعة الامتحان شعور عسير
ولكن لنتصور أنه لا يوجد غش في المراحل التعليمية المختلفة, بدءا من الابتدائية وانتهاء بالجامعية! كيف سيكون الحال؟

يدخل الطلبة الامتحان, فمنهم من ذاكر جيدا ومنهم من ذاكر ومنهم من لم يفعل! فيحل هذا فينجح بتقدير, وينجح الآخر ويرسب الثالث!
ففي العام التالي إما أن يذاكر ذلك الراسب فينجح أو يظل يلهو ويلعب فيرسب مرة أخرى! وهنا تصبح أمامه فرصة أخيرة! فإما أن ينجح أو يترك التعليم ويتجه إلى ما ينفعه!

ورسوب الطالب راجع إلى أمر من اثنين:
فهو إما غليظ العقل, لا يستطيع استيعاب العلوم جيدا! وإما لعوب, قد يكون فاهما بل وعبقريا ولكنه لا يهتم بالتعليم!
وفي كلتا الحالتين الدواء الشافي هو الكي!

فإما أن يتوفر لذلك الطفل القليل الاستيعاب من يأخذ بيده فيعبر ويفهم ويواصل تعليمه! وكذلك إما أن يلتزم ذلك الطالب اللعوب ويستذكر دروسه ويهتم بتعليمه, بعد أن أخذ مكان الفرصة ثلاث, وإما أن يُخرج من التعليم! ويوجه إلى تعلم صنعة يدوية أو أي عملٍ كان!
وبذلك نكون نحن الفائزين في الحالتين, فنحصل فقط على طلبة متعلمين, راغبين في التعلم, وكذلك لا نضيع أعمار أبناءنا في تعليم شكلي, ثم يتجهون بعد ذلك إلى العمل في أي مجال أو صنعة!
ثم يقال أن أعداد الخريجين في بلادنا كذا وكذا, والعاطلون كذا وكذا!
وهؤلاء ليسوا بخريجين لأنهم لم يتعلموا أصلا! فمن الطبيعي ألا يعملوا في مجال تخرجهم!

وأنا أدعو إلى تطبيق هذا الأمر بشكل جزئي مع الأطفال!!!
بمعنى: إذا كان لديك طفل ذكي ولكنه لعوب ولا يبدي اهتماما بالتعليم! ورسب في مادة أو أكثر ذات مرة! فلم لا تنتظر حتى ينهي امتحانات دور الإعادة, ثم تخرجه للعمل أياما قليلة! يرى فيها ذل العمل ومهانته!
ثم بعد ذلك تفهمه أنه إذا لم ينجح فستخرجه ليعمل في هذا العمل طوال حياته!

وكذلك أنه إذا نجح بالغش فلن يستفيد شيئا من التعليم, وسيصبح كمن لم يتعلم! وفي نهاية المطاف سيضطر للعمل في مثل ذلك العمل ولا يناله إلا إضاعة عمره في اللهو واللعب ثم الندم بعد ذلك!

وفي الختام فإني أخاطب المدرسين والمعلمين:
لنفصل الجيد من الرديء من مبتدأ الأمر, حتى يكون لدينا عملية تعليمية حقيقية! وبالله عليكم تذكروا أنكم مستأمنون على منع الطلاب من الغش لا العكس, وأنتم بفعلكم هذا تخونون الأمانة!

تخونون أمانة أمة, فتخرجون أجيالا ضعيفة مائعة, لا رغبة لها في العلم ولا في التعلم! وتشوهون صورتكم أمام طلابكم!
قد يكون الطالب مسرورا ساعتها, ولكنه بعد ذلك سيندم أشد الندم وسيعلم أنك كنت مدرسا غير جدير بالاحترام!
وأقول للآباء:
اتقوا الله في أبناءكم وانهوهم عن الغش, وحذروهم منه منذ صغرهم, وإذا سمعتم أبناءكم يتحدثون عن الغش الحاصل في المدرسة, فعرفوهم خطورة وضرر وحرمة الغش, ولا ترضوا لهم أن يكونوا من الغشاشين المتسلقين!
كما أنه على الأباء الغيورين أن يسارعوا بالذهاب إلى المدرسة والتقدم بشكاوى بسبب ذلك الغش حتى يُمنع! لا أن يذهب الآباء ليتوسلوا ويرجو المدرسين أن يغششوا أبناءهم!

وقديما قالوا لنا:
من لم يذق مر التعلم ساعة تجرع ذل الجهل طوال حياته!
ولا تعليم بدون امتحان, ولا امتحان مع الغش! فاتقوا الله في أولادكم وعلموهم ولا تغششوهم!
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نقد رفض التعقل

من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.