سورة المرسلات !

نواصل اليوم الحديث عن سور الأقسام المتعددات وهي خمس سور في القرآن وهي سورة العاديات والنازعات والمرسلات والذاريات والصافات, ونتناول اليوم بإذن الله تعالى سورة المرسلات !

وهذه السورة مثل إخواتها من السور سببت للسادة المفسرين الكثير من المشقة والعنت في تحديد معانيها والربط بين أجزائها , وهذه السورة وإن كانت أقل صعوبة في المجمل من العاديات والنازعات لذلك نجحوا بنسبة كبيرة في تحديد معاني مفرداتها إلا أنهم كالعادة لم ينجحوا في إظهار الوحدة الموضوعية للسورة والرابط الذي يربط آيات السورة من أولها إلى آخرها ,

لذا نبدأ متوكلين على الله اللطيف الخبير لنوضح للقارئ الكريم كيف أن هذه السورة بالذات تختلف في الأسلوب وفي المبنى عن باقي أخواتها من السور وكيف أنها أتت بأسلوب بلاغي متقدم لم يُسبق محمد إليه , فمحمد هو أول من أتى في البشرية بنص أدبي مثل هذا الموجود في سورة المرسلات , وإن كان بعض الكتاب الغربيين قد بدأوا ينتهجوا أسلوبا قريبا من هذا الأسلوب في كتاباتهم , إلا أنه أسلوب حديث الظهور وأول من أتى به هو الرسول , لذا هلم معي عزيزي القارئ نتدبر قليلا في هذه السورة العظيمة .

سورة المرسلات سورة مكية المبنى والمحتوى , فكما يرى القارئ فهي من السور ذوات الآيات القصار المتواليات التي تحتوي كما من المعاني والإشارات تجعل السامع والقارئ يلهث من تتابعها ويقشعر بدنه من شدتها , وهذه السورة في رأي هي من أشد سور القرآن , فلقد احتوت أسلوبا أقل ما يوصف به بأنه رهيب مخيف يقدم إنذارا شديد اللهجة للمكذبين باليوم الآخر يزلزل به أسسهم ويقضي على آمالهم كما أنه يسخر منهم ويرشدهم إلى مآلهم في الآخرة .

المنظور العام للسورة :
الناظر في السورة يجد أنها كلها تدور في فلك آية واحدة وهي قوله تعالى ” إنما توعدون لواقع ” فقبلها مقسمات بها على هذه الآية وبعدها عرض لبعض مظاهر هذه الآية وبعده استدلالات منطقية على إثبات وقوع هذه الآية وبعده إرشاد لحال الناس عند وقوعها وبعده عرض لسبب وقوع ما وقع بمن وقع به !
والناظر في مدلولات السورة يجد أنها كلها كذلك تدور في فلك الآية الأولى , فهي تبدأ بالمرسلات عرفا وسيرى القارئ الكريم كيف أن السورة كلها تدور في فلك المرسلات وفي فلك العرف !

تقسيم السورة :
تعد هذه السورة من أكثر سور القرآن تداخلا ولكن من الممكن أن نقدم للقارئ الكريم تقسيما مباشرا لها ولكن قبل ذلك نعرض له بعض ما لاحظناه في الجانب الرقمي لآيات هذه السورة :
السورة مكونة من خمسين آية , آيات القسم فيها خمس آيات
آية ” ويل يومئذ للمكذبين ” مكررة عشر مرات ( 5× 10= 50)
أول آية ذكر فيها ” ويل يومئذ للمكذبين ” هي الآية الخامسة عشر ( 5+ 10= 15 )
الآية الخامسة هي قوله تعالى “ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً ” والآية الخمسون هي قوله تعالى ” فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ
الآية الخامسة والسادسة هي قوله تعالى “فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً ” والآية الخامسة والثلاثون والسادسة والثلاثون هما قوله تعالى “ هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ “
وبخلاف غيرها من السور لن نقوم بعرض عرض تقسيم هذه السورة قبل البدء فيها لأنه قد يؤدي إلى إساءة الفهم أو القول أننا نعدل على ترتيب السورة ولكن سيرى القارئ من خلال عرضنا للسورة كيف أن النص القرآني كان يطرح ويجيب ويعلق ويدلل في تداخل بديع لا يعطل المعنى أو يقطعه
, فقد يأتي الطرح في آية والتعليق أو الرد في مكان آخر في داخل السورة , وهذا مما تفرد به النص القرآني ولم يظهر في أي كتابة أدبية في تلك الأزمنة الغابرة . ونكتفي هنا بعرض تقسيمة بسيطة واضحة جلية في السورة

وهي أن الله تعالى أقسم بخمس أشياء ” وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِرَاتِنَشْراً (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً (5( ” على مقسم واحد عليه , ثم ذكر أربعة مظاهر من مظاهر هذا المقسم عليه “فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَاالْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ وُقِّتَتْ (11( “ ثم دلل على هذا المقسم عليه بثلاثة أدلة يرد بها على المكذبين ” ألم نهلك الأولين , ألم نخلقكم من ماء مهين , ألم نجعل الأرض كفاتا ” ثم أجاب على هذه المظاهر بإثنين من الأوامر للمكذبين ” انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30( “ ثم أتبعها بأمر واحد للمتقين ” كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ “ثم أمر مماثل كذلك للمكذبين ” كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ “ , فسبحان من أتى بمثل هذا التقسيم .
ونبدأ مع السورة متوكلين على الله , بسم الله الرحمن الرحيم :

تبدأ السورة بخمس من الأقسام , بدأ اثنان منها بالواو وثلاث بالفاء , ولقد اختلف المفسرون في المراد من هذه الأقسام فقال بعضهم أنها كلها في الملائكة وقال آخرون أنها كلها في الرياح وقال آخرون أنها كلها في القرآن وقال آخرون أن بعضها في الرسل ,

وقال آخرون أن المراد من الثلاثة الأوائل هي الرياح والإثنان الأخريان هما الملائكة ! وهذه الأقوال كلها مرجوحة – كما سنبرهن للقارئ بإذن الله تعالى – فعندما نظرت في الآيات ظهر لي فيها فهم آخر والحق يقال أني وجدته لبعض المعاصرين فلست أول من أتى به ولكن يشهد الله أنه من نظري في القرآن , فحاولت أن أتأكد إذا كان أحد من السابقين قد قال بهذا القول , فوجدت الإمام الفخر الرازي يذكره في تفسيره احتمالا ! فيقول :

” القولالثاني : أن الاثنين الأولين هما الرياح ، فقوله : { والمرسلات عُرْفاً * فالعاصفات عَصْفاً } هما الرياح ، والثلاثة الباقية الملائكة ، لأنها تنشر الوحي والدين ، ثم لذلك الوحي أثران أحدهما : حصول الفرق بين المحق والمبطل والثاني : ظهور ذكر الله في القلوب والألسنة ، وهذا القول ما رأيته لأحد ، ولكنه ظاهر الاحتمال أيضاً ، والذي يؤكده أنه قال : { والمرسلات عُرْفاً ، فالعاصفات عَصْفاً } عطف الثاني على الأول بحرف الفاء ، ثم ذكر الواو فقال : { والناشرات نَشْراً } وعطف الاثنين الباقيين عليه بحرف الفاء ، وهذا يقتضي أن يكون الأولان ممتازين عن الثلاثة الأخيرة ” اهـ

ونبدأ الآن في تناول الآيات لنثبت للقارئ أن الرأي الذي ما رأه الإمام الرازي لأحد هو الراجح بإذن الله تعالى :
تبدأ السورة بقوله تعالى ” والمرسلات عرفا ” ,

الملاحظ أن هذه السورة هي الوحيدة من بين سور الأقسام الأربعة ” الذاريات , المرسلات , النازعات , العاديات ” والتي بدأت باسم مفعول , أما باقي السور فبدأت باسم فاعل ! فالمرسلات اسم مفعول من أرسل وهي جمع مرسلة . إذا فالله تعالى يقسم بمرسلات عرفا , فما هو العرف ؟

العرف معروف بالنسبة للقارئ , فإذا أطلقت الكلمة هكذا يقفز إلى ذهنه معنيان وهما بالفعل أصل هذه اللفظة , فإذا نحن نظرنا في المقاييس وجدناه يقول :
” العين والراء والفاء أصلان صحيحان، يدلُّ أحدُهما على تتابُع الشيء متَّصلاً بعضُه ببعض، والآخر على السكون والطُّمَأنينة. فالأوّل العُرْف: عُرْف الفَرَس.
وسمِّي بذلك لتتابُع الشَّعر عليه. ويقال: جاءَت القَطا عُرْفاً عُرْفاً، أي بعضُها خَلْفَ بعض. …….. والأصل الآخر المعَرِفة والعِرفان. تقول: عَرَف فلانٌ فلاناً عِرفاناً ومَعرِفة. وهذا أمر معروف.
وهذا يدلُّ على ما قلناه من سُكونه إليه، لأنَّ مَن أنكر شيئاً توحَّشَ منه ونَبَا عنْه. ومن الباب العَرْف ، وهي الرَّائحة الطيِّبة. وهي القياس، لأنَّ النَّفس تسكُن إليها. يقال: ماأطيَبَ عَرْفَه. قال الله سبحانه وتعالى: وَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد 6]، أي طيَّبَها. قال:
إِلا رُبَّ يومٍ قد لَهَوْتُ ولَيْلَةٍ بواضحةِ الخدّين طيِّبة العَرْفِ
والعُرْف:المعروف، وسمِّي بذلك لأنَّ النفوس تسكُن إليه. ” اهـ

إذا فالله تعالى يقسم بمرسلات عرفا , فما هو الشيء الذي يصدق عليه هذا الوصف ؟ إذا نحن نظرنا في الواقع وجدنا أن أكثر ما يصدق عليه هذا الوصف هو الرياح ,

وكذلك نخرج بنفس النتيجة إذا نحن نظرنا في القرآن , فعلى الرغم من أن الله تعالى أرسل أشياءا كثيرة في القرآن مثل الصواعق أو السماء ” المطر ” أو الحفظة أو شواظ , إلا أن أكثر ما أرسل وينطبق عليه الوصف هو الرياح , فنجد قوله تعالى ” َوهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ [الأنعام : 61] , وقوله ” َوهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف : 57] , وقوله ” أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل : 63]
َوقوله ” ومِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الروم : 46] ” وقوله ” اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [الروم : 48] “

إذا حتى الآن يصدق هذا الوصف على الرياح , فإذا نحن نظرنا في الآية التالية وجدناها تزيد المعنى تأكيدا ففيها يقول الله تعالى ” فالعاصفات عصفا ” 

ونلاحظ أن الله تعالى عطف الآية على سابقتها بالفاء وليس بالواو مما يفيد أنها نفس الأولى مع حدوث تغير في الحال فقط , أما لو عطف بالواو لأفاد التغير , إذا فالمرسلات عرفا تعصف بعد ذلك عصفا , فيرجح ذلك أن يكون المراد منها الرياح وليس الملائكة , فمعنى العصف معروف بالنسبة للقارئ , ولكن نظرا لأنه قد يعرف مدلولا جزئيا للكلمة نقدم له المدلول الشامل حتى يستطيع أن يكون تصورا شاملا للفظة وكيف تكون في الواقع :

العصف كما جاء في المقاييس :
” العين والصاد والفاء أصلٌ واحد صحيح يدلُّ على خِفّةٍ وسرعة. فالأوَّل من ذلك العَصْف: ما على الحبِّ من قُشور التّبن . والعَصْف ما على ساق الزَّرع من الوَرَق الذي يَبس فتفتَّت، كل ذلك من العَصْف. قال الله سبحانه: فَجَعَلَهُم كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل 5]، قال بعضُ المفسِّرين: العصف: كلُّ زرعٍ أُكِل حَبُّه وبقي تبنُه.وكان ابنُ الأعرابي يقول: العَصْف: ورقُ كلِّ نابت.ويقال: عَصَفْتُ الزَّرْعَ، إذا جَزَزْتَ أطرافَه وأكلتَه، كالبقل. ويقال: مكانٌ مُعْصِف، أي كثير العَصْف. ” اهـ
ومن ضمن معانيها في اللسان :
” … وفي التنزيل: والحبُّ ذو العَصْف والرَّيْحانُ؛ يعني بالعصف ورق الزرع وما لا يؤكل منه، وأَمّا الريحان فالرزق وما أُكل منه، وقيل: العَصف والعَصِيفةُ والعُصافة التّبْن، وقيل: هو ما على حبّ الحِنطة ونحوها من قُشور التبن. ” اهـ
فإذا نحن نظرنا في كتاب الله تعالى وجدناه يقول :
” وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ [الرحمن : 12] , َفجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ [الفيل : 5] , هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [يونس : 22]
مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ [إبراهيم : 18]
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ [الأنبياء : 81]

فنخرج من هذا أن المقسم بع هو الرياح في الآية الأولى لأنها ترسل متتابعة ثم تصبح بعد ذلك ريحا في الآية التالية لأنها أصبحت عاصفة ويبعد قول من قال أن المراد من ذلك أنها عاصفة في حمل الخير , والراجح أنه المراد منها العاصفة كما يفهمها أي إنسان , تلك الريح التي تعصف بما يقابلها !

إذا فالله تعالى يقسم بقوى خفية من قوى الطبيعة قد تحمل في طياتها الخير والرخاء ولكنها في نفس الوقت قد تتحول إلى عذاب ووبال يحمل في طياته الموت والهلاك , وهذه القوة الطبيعية ليست متحركة بذاتها أو بطريقة عشوائية وإنما هي مرسلة .

ثم ينتقل الحديث بعد ذلك عن صنف آخر بدليل استعماله سبحانه وتعالى الواو , فيقول الله تعالى ” والناشرات نشرا ” فما هي الناشرات ؟

بداهة لفظة النشر هي من الألفاظ المعروفة المألوفة للقارئ ونزيده معرفة فنقول , نشر كما جاء في المقاييس :
” النون والشين والراء أصلٌ صحيح يدلُّ على فَتْحِ شيء وتشعُّبِه . ونَشَرت الخشبةَ بالمنشار نَشْراً. والنَّشْر الرِّيح الطيِّبة. واكتَسَى البازِي ريشاً نَشَراً. أي منتشِراً واسعاً طويلاً. ومنه نَشَرتُ الكِتاب. خِلاف طويتُهُ. ونَشَر الله الموتَى فَنَشَروا. وأنْشَرَ الله الموتَى أيضاً. قال تعالى: ثُمَّ إذا شَاءَ أَنْشَرَه [عبس 22]، ثم قال الأعشَى: حَتَّى يقولُ الناسُ لمَّا رأوا يا عَجَباً للميِّت الناشرِ ونَشَرت الأرضُ: أصابها الرَّبيعُ فأنبتت، وهي ناشرة، وذلك النَّباتُ النَّشْر،ويقال إنَّه للرَّاعيةِ رديّ ويقال: بلالنَّشْر:الكلأَ يَيْبَس ثم يصيبُه المطرُ فيخرجُ منه شيءٌ كهيئة الحَلَم، وهو داءٌ ……. ” اهـ

وعلى الرغم من سهولة ووضوح المعنى اللغوي فإن الوصف قد ينطبق على أشياء كثيرة , فما هو المرجح لتحديد مدلول من بينها ؟ ننظر في كتاب الله تعالى لنر فيه من الذي ينشر ؟

إذا نحن نظرنا في كتاب الله خرجنا باليقين التام أن المراد من الناشرات نشرا هي الملائكة , فنجد قوله تعالى :
” َوإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً [الكهف : 16] , وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى : 28] , أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ [الأنبياء : 21] , وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [الزخرف : 11] , ِإنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ [الدخان : 35] , َبلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً [المدّثر : 52] , ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ [عبس : 22] , وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ [التكوير : 10] “

فالنشر كله سواء كان بمعنى احياء الموتي أو نشر الأرض الميتة أو نشر الرحمة كله متعلق بالله عزوجل , والله يجري هذا في الدنيا بواسطة الملائكة . إذا فالناشرات نشرا هن الملائكة والمراد من النشر هنا بداهة هو نشر الأرض الموات ونشر رحمة الله ونشر السحب .

وفي استعمال هذا القسم فائدة في الرد على منكري البعث , فكما ينشر الله في الدنيا فكذلك سينشر في الآخرة . وقيل أن المراد من ذلك هو أن الملائكة تنشر أجنحتها عند صعودها أو نزولها ! ولم نجد لهذا أصلا في كتاب الله عزوجل وليس له علاقة بالسابق !

وهنا نتوقف لنسأل : أقسم الله بالرياح ثم عاد فأقسم بالملائكة كما تقول , فما العلاقة بينهما وما الغرض من ذلك ؟
نقول : نلاحظ كما قلنا أن الله تعالى أقسم بالمرسلات وهي صيغة اسم مفعول تفيد البناء للمجهول , فهذا محفز للتفكر فيمن أرسلها ؟

أن من أرسلها هو الله عزوجل بواسطة الملائكة فهي التي ترسل الريح سواء إرسالا لطيفا متتابعا أو سريعا عاصفا ! والقاسم المشترك بين الإثنين أن كلاهما قوى خفية لا يراها الإنسان , فلا أحد يرى الريح ولكننا كلنا نشعر بها و بأثرها ونراه , فكذلك الملائكة قد لا نراها ولا نشعر بها ولكنا نرى أثرها , فليس كل ما لا يراه الإنسان ليس موجودا !

والناظر يجد أن الآيات الخمس ترسم صورة طبيعية متكاملة لدورة الحياة , فالرياح ترسل ثم تشتد فتعصف ثم تأتي الملائكة فتنشر الأرض التي عصفت بها الملائكة ثم تفرق بين ما أنشرته ثم تلقي ذكرا للناس !

ومن الممكن القول أن هذه الآيات المتعلقات بالملائكة تكمل المشهد من خلال إشارات إلى الآخرة , فالريح العاصفة إشارة إلى الهلاك ثم يكون النشر بعد ذلك فيحي الناس ثم يفرقون ” َويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم : 14] ” ثم تلقي الملائكة ذكرا لكل فريق منهم فتعرفهم مصيرهم وإلى أين منطلقهم فتعذر هذا وتنذر هذا , فهؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار !

فالفارقات فرقا : إذا أقررنا أن الناشرات هي الملائكة فحتما الفارقات هي كذلك ويؤيد هذا أيضا النظر في كتاب الله تعالى , فنجده يقول :
” ِفيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان : 4] , وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة : 50] , َتبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان : 1] , وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً [الإسراء : 106] , َويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم : 14] “

فالملائكة هي حتما ولزاما التي تقوم بعملية الفرق هذه , ولقد قال السادة المفسرون أن المراد من الفرق أنها تفرق بين الحق والباطل , ولقد اقتربوا في قولهم هذا من المعنى المراد , ونحن نرى والله أعلم أن المراد من ذلك هو ما جاء في سورة الدخان حيث أن الملائكة هي التي تقوم بتسيير الكون بأمر الله تعالى , فيأمرها بفعل كذا وتنظيم كذا وتسيير كذا إلى آخر الأوامر التي تتلقاها الملائكة من الرحمن , فيها تفرق كل شيء

ويواصل الله وصف الملائكة فيقول ” فالملقيات ذكرا “ وبداهة أن الملائكة هي التي تلقي الذكر بدليل قوله تعالى ” كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً [طه : 99] , وكذلك قوله تعالى “ َفالتَّالِيَاتِ ذِكْراً [الصافات : 3] “

فتكرار هذا المعنى في سورة الصافات يؤكد ويحتم أن المراد منها هنا هو الملائكة , كما أشرنا إلى آن الآية الخمسين من السورة تحتم أن يكون المراد من الذكر هنا هو القرآن والذكر وإن كان عاما يصدق على كل ما أوحاه الله ولكن هنا يرجح حصره في القرآن .

” عذرا أو نذرا ” الناظر في أقوال المفسرين في هذه الآية يجدهم قد حصروها في الاية السابقة لها وهي قوله تعالى ” فالملقيات ذكرا “ مع أنه من ألأولى أن تعمم فتجعل في الخمس آيات الماضيات , فيكون المعنى أن الله يرسل المرسلات عرفا والعاصفات عصفا والناشرات نشرا والفارقات فرقا والتاليات ذكرا كلها عذرا أو نذرا فكل أفعال الله في الكون إما هي عذر للناس ( للمؤمنين منهم , لأن عقابه سبحانه لا يكون إلا على وجه الحكمة , فإذا نزل ببعض المؤمنين في الدنيا كان من الإعذار )

وكذلك هوعذر لوقوع العذاب في الآخرة فلقد قدمنا لكم من الدلائل والآيات ولكنكم لم تؤمنوا فتستحقون العذاب : ” وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف : 164] , فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [الروم : 57] “
فهي عذرا أو نذرا لهم , فالمؤمن والكافر ينبغي عليهم أن ينذروا بما يحدث للآخرين ويتذكروا ويتفكروا ويعلموا أن الله هو المسيطر على الكون كله .

إذا فالله تعالى يقدم للإنسان صورة بديعة متمثلة في حركة الرياح المرسلة من عند الله ودورها في الإعمار وكذلك في الهدم والهلاك ثم يستكمل الصورة بدور الملائكة في النشر وإحياء ما مات وتفريق كل أوامر الكون وتنظيمها من أجل الإنسان ومصلحته ثم يصل الأمر إلى ذروته بإلقاء الذكر للإنسان من أجل هدايته ثم يقدم له علة هذه الصورة كذلك حتى لا يظل عقله مضطربا حائرا في تفسيرها أو تبريرها . فمن أجل ماذا يقدم الله تعالى هذا كله ؟

يقدم الله تعالى هذا كله ليقول للبشر : ” إنما توعدون لواقع “ فهذه الجملة هي جواب المقسمات الخمس , فما وعد الله به البشر في الذكر ” فالملقيات ذكرا ” واقع واقع , ولكن ما هو الموعود ؟

الناظر في الآية يجد أن المذكور عام ” ما توعدون ” فيصدق على كل وعد أتى في الذكر , ولكن الناظر في السورة يجد أنها من أولها إلى آخرها تحتم أن يكون المراد من الوعد هو البعث والفصل بين المنشرين إلى النار أو إلى الجنة ! فالسورة كلها رد على من ينكر البعث أو أن يكون هناك جنة أو نار ! لذلك توعد الله هؤلاء المنكرين لهذه المسألة بقوله ” ويل يومئذ للمكذبين “ !

وبعد هذه الآية يبدأ التداخل البديع لهذه السورة والذي أرهق كثيرا من المفسرين في استخراج وحدتها , فبدلا من أن يبدأ القرآن في ذكر بعض الأدلة على وقوع هذه اليوم بدأ في ذكر بعض النصائح و الإرشادات والتعريفات للكافرين , 

و بدأ هنا بتعريفهم بوقائع من التي تقع في اليوم الآخر وباقي النصائح المتعلقة بالدنيا ستأتي في آخر السورة , فيبدأ هنا بذكر أحداث في يوم الفصل من باب التعريف بها ضمنا ومن أجل إرشاد المكذبين إلى مصيرهم في يوم الفصل , فهذه الأربعة ليست علامات ليوم القيامة وإنما هي أحداث تكون فيها , تُذكر من أجل أمر معين سنوضحه , فقال لهم عندما يحدث هذا افعلوا ما سنأمركم به : ” فإذا النجوم طمست ” والطمس معلوم وهو كما جاء في المقاييس :

” الطاء والميم والسين أصلٌ يدلُّ على محوِ الشيء ومسحِهِ. يقال طَمَسْتُ الخَطَّ، وطَمست الأثرَ . ” اهـ
وكما جاء في دعاء سيدنا موسى ” ربنا اطمس على أموالهم ” فتطمس النجوم ويذهب نورها فلا ترى , ” وكذلك ” وإذا السماء فرجت ” والفرجة معروفة وهيأصل يدل على تفتح في الشيء , ومن ذلك قول الله تعالى ” إذا السماء انشقت ” , ” وفتحت السماء فكانت أبوابا ” وكذلك ” وإذا الجبال نسفت “والنسف معروف للقارئ المعاصر , وقيل أن المراد من النسف هو القلع من الأصول , يقال : نسف البناء إذا قلعه من أصوله , ولكن الصحيح هو ما يتبادر إلى ذهن القارئ عند سماعه للنسف ويؤيد هذا ما جاء في الكتاب العزيز في وصف أحوال الجبال يوم القيامة فيقول الله تعالى فيها : { وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً } [ الواقعة : 5 ] { وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً } [ المزمل : 14 ] { فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً } [ طه : 105 ] كما قال في حق عجل قوم موسى : ” لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا ” وكذلك ” وإذا الرسل أقتت ” الرسل هم هنا لا محالة رسل البشر لأن كلمة الرسل لم تأت في القرآن إلا مع الرسل من البشر مثل رسولنا الكريم , فالآية تقول ” وإذا الرسل أقتت ” أي حدد لهم الوقت الذي يأتون فيه للشهادة على أقوامهم ويصدق هذا قوله تعالى “ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [يونس : 47] ” لقد أقت للرسل ميعاد لكي يأتوا فيه ليشهدوا على أقوامهم وهذا الميعاد هو يوم الفصل بين الناس , ” ليوم الفصل ” ومن هذا نخرج بأن يوم الفصل ليس المراد منه اليوم الآخر بأكمله أو هو اسم من أسمائه وإنما هو اسم لموقف معين فيها , كما أن باقي الأسماء توصيف معين لموقف فيها , فيوم الحشر غير يوم القيامة ! فيوم الحشر هو يوم الحشر ويوم القيامة هو يوم القيامة ! وهكذا.

ثم عظم الله تعالى هذا اليوم فقال ” وما أدراك ما يوم الفصل ” ولم يذكر الله تعالى هذه الآية فقط ليشير إلى التفخيم وإنما سيوضحها لنا الله تعالى في آيات لاحقات . والعجيب أن السادة المفسرون لعدم ربطهم الآيات ببعضها رأينا لهم أفهاما عجيبة في هذه الآية , فنجد الإمام الفخر الرازي يقول في تفسير آية ” وإذا الرسل أقتت ” :

” في التأقيت قولان : الأول : وهو قول مجاهد والزجاج أنه تبيين الوقت الذي فيه يحضرون للشهادة على أممهم ، وهذا ضعيف (!! وهو الصحيح بإذن الله )، وذلك لأن هذه الأشياء جعلت علامات لقيام القيامة ،( النص لا يقول بهذا بل هي في يوم القيامة ومذكورة لغاية ) كأنه قيل : إذا كان كذا وكذا كانت القيامة ، ولا يليق بهذا الموضع أن يقال : وإذا بين لهم الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم قامت القيامة لأن ذلك البيان كان حاصلاً في الدنيا ولأن الثلاثة المتقدمة هي الطمس والفرج والنسف مختصة بوقت قيام القيامة ، فكذا هذا التوقيت يجب أن يكون مختصاً بوقت قيام القيامة

القول الثاني : أن المراد بهذا التأقيت تحصيل الوقت وتكوينه ، وهذا أقرب أيضاً إلى مطابقة اللفظ ، لأن بناء التفعيلات على تحصيل تلك الماهيات ، فالتسويد تحصيل السواد والتحريك تحصيل الحركة ، فكذا التأقيت تحصيل الوقت ثم إنه ليس في اللفظ بيان أنه تحصيل لوقت أي شيء ،
وإنما لم يبين ذلك ولم يعين لأجل أن يذهب الوهم إلى كل جانب فيكون التهويل فيه أشد فيحتمل أن يكون المراد تكوين الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم وأن يكون هو الوقت الذي يجتمعون فيه للفوز بالثواب ، وأن يكون هو وقت سؤال الرسل عما أجيبوا به وسؤال الأمم عما أجابوهم ، كما قال : { فَلَنَسْئَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ المرسلين } [ الأعراف : 6 ] وأن يكون هو الوقت الذي يشاهدون الجنة والنار والعرض والحساب والوزن وسائر أحوال القيامة ، وإليه الإشارة بقوله : { وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } . اهـ

فانظر كيف أن عدم وجود تصور كامل للسورة يؤدي إلى تخبط ما بعده تخبط , وتتبع باقي تفسيره للآيات التاليات فسترى قولا عجيبا , ونظرا لوقوع الخطأ منه في أول الأمر كان لا بد لهذا الخطأ أن يتواصل فنجده يقول بعد ذلك :
” أين جواب قوله : { فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ } ؟ الجواب : من وجهين أحدهما : التقدير : إنما توعدون لواقع ، إذا النجوم طمست ، وهذا ضعيف ، لأنه يقع في قوله : { فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ } ، الثاني : أن الجواب محذوف ، والتقدير { فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ } وإذا وإذا ، فحينئذ تقع المجازاة بالأعمال وتقوم القيامة . ” اهـ

وكلا القولين ضعيف وتقول على الله يغير علم , فجواب الشرط موجود في السورة كما أن الرد على قوله تعالى ” وما أدراك ما يوم الفصل ” موجود كذلك , فإذا نحن نظرنا في السورة وجدنا أن جواب الشرط لقوله تعالى ” فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَاالْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ وُقِّتَتْ (11) لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ ” هو قوله تعالى ” انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب ” فهذا هو جواب الشرط

, فالآيات تقول للمكذبين المنكرين للبعث بعد أن أخبرتهم أن ما يوعدون به واقع : إذا حدث كذا وكذا فانطلقوا إلى النار التي كنتم بها تكذبون , وكما قلنا فلقد بدأ القرآن بتوجيه المكذبين إلى النار قبل عرض الأدلة على الوقوع – والتي سنعرض لها حالا – كأنه يشير بذلك إلى حتمية وقوع هذا الأمر وأنه لا يحتاج إلى تدليل

ويقول لهم : إذا وقع فاعملوا كذا وكذا . أما الجواب على قوله تعالى ” وما أدراك ما يوم الفصل ” فهو قوله تعالى ” هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ “ فالله نعم يفخم هذا اليوم ولكنه يعود فيوضح للرسول كنه هذا اليوم بهذه الآيات .
وبعد أن يتوعد الله تعالى المكذبين فيقول لهم ” ويل يومئذ للمكذبين ” والملاحظ أن هذه الآية تكررت في السورة عشر مرات وفي هذا إشارة إلى أن التوعد حق للرحمن , فلقد أرسل إلى عباده النذر المتتاليات الجلي منها والخفي ولكنهم كذبوا وعاندوا فلذلك يستحقون الويل في هذا اليوم.

” ألم نهلك الأولين “ يبدأ الله تعالى بهذه الآية في التدليل على وقوع البعث والفصل بين المبعوثين إلى جنة ونار فيذكر تصديقا لقوله السابق ” إنما توعدون لواقع ” ثلاثة استدلالات يرد بها على المكذبين لهذا , ويبدأ هذه الاستدلالات بوقوع هذا الأمر فعليا وجزئيا في الدنيا , فليس الأمر من الغيبيات التي تشككون فيها , فيقول لهم ” ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين “

فعملية الإهلاك والاتباع مما يراها الإنسان في حياته , فلقد رأينا نحن بأعيننا مثلا عملية إهلاك أمم ثم اتباعها بآخرين وإحيائها ( ألمانيا على سبيل المثال ) , وبداهة ستأتي الإجابة ببلى , فلقد أهلك الله الأولين لما كذبوا وعاندوا الرسل فاستحقوا الهلاك , – ومن يشكك في هذا يأمره الله تعالى بالسير في الأرض في آيات كثيرات نذكر منها : ” قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ [آل عمران : 137] “ -, ثم إن عملية الإهلاك ذاتها مستمرة حتى قيام الساعة , لذلك قال الله تعالى ” ثم نتبعهم ” فاستعمل صيغة المضارعة ليدل على استمرارها وهذه لا يشكك فيها إلا الملاحدة الذين ينسبون الفعل إلى الطبيعة أو إلى العبثية أو إلى الصدفة ! إذا فكما أهلكنا الأولين والآخرين ” كذلك نفعل بالمجرمين ” فليس الأمر عسير أو جديد بل هو فعل مكرور وفي هذا اليوم , يوم الإهلاك ” ويل يومئذ للمكذبين ” .

إذا الاستدلال الأول هو وقوع الأمر جزئيا في الدنيا , ثم يأتي الاستدلال الثاني وهو قوله تعالى ” ألم نخلقكم من ماء مهين ؟ فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم ” والسادة المفسرون على أن المراد من الآية هنا هو خلق الإنسان في بطن أمه ويرون أن المراد من القرار المكين هو رحم الأم , حيث يتمكن الحيوان المنوي منه ويصبح مستقرا له , أما القدر المعلوم فهو ساعة الولادة ,

وهذا القول محتمل وإن كنا نرى أن المراد من ذلك هو خلق الإنسان الأول حيث خلق كذلك من ماء مهين وضع في أرحام أرضية ومنها خرج الإنسان كاملا أما القدر فهو إما تحويله من ماء مهين إلى حالة أخرى أو خروجه من الأرض[1] . ” فقدرنا فنعم القادرون ” أي فقدرنا على خلقه وتكوينه وإنشاءه وقيل أنه من التقدير أي تقدير الأجل أو الموت وهو بعيد , فالآية تمدح القادر فكيف يكون ذلك فيمن يميت أو يحدد , أما في القدرة فمقبول . ” ويل يومئذ للمكذبين ” ما هو عود “يومئذ ” هنا ؟

نقول هي والله أعلم عائدة إلى يوم البعث وهو ليس يوم الفصل , ففي يوم الفص يفصل بين الناس , أما في يوم البعث فيبعث الناس ,
أما الدليل على ترجيح كونها راجعة إلى البعث فهو أن الآيات السابقات تتكلم على قدرة الله تعالى على الخلق في المرة الأولى فمن قدر عليه مرة يقدر عليه أبدا ! إذا فالاستدلال الثاني هو أن من يقدر على الشيء مرة يقدر عليه دوما , أما الاستدلال الثالث فهو قوله تعالى ” أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
وقبل أن نبدأ في التعرض لاستدلال الله عزوجل بهذه الآيات لا بد من التوقف مع قوله تعالى ” كفاتا ” فما المراد من الكفت ؟

إذا نحن نظرنا في المقاييس وجدناه يقول : ” الكاف والفاء والتاء أصلٌ صحيح، يدلُّ على جَمْعٍ وضمّ. من ذلك قولهم: كفَتُّ الشَّيءَ، إذا ضممتَه إليك. ….. وأمَّا قولهم إنّ الكَفْتَ: صرفُكَ الشّيءَ عن وجهه فيَكْفِتُ أي يرجع، فهذا صحيح، “اهـ

وهي كما جاء في اللسان : ” الكَفْتُ: صَرْفُكَ الشيءَ عن وَجْهه. كَفَته يَكْفِتُه كَفْتاً فانْكَفَتَ أَي رَجَعَ راجعاً. وكَفَتَه عن وَجْهه أَي صَرَفه. “

والعجيب أن الناظر في أقوال المفسرين يجدهم أنهم قد أضاعوا الاستدلال العظيم الذي ذكره الله عزوجل , فأتوا بقول آخر ماسخ المعنى والدلالة مخالف للفظ الآية التالية لها فجعلوا أنه كان من الأولى أن تكون بشكل آخر ! , فنجدهم يقولون في تفسيرهم ! لهذه الآية كما جاء عند الفخر الرازي في تفسيره – وهم كلهم تقريبا مجمعون على هذا الأمر – :
” … ثم في المعنى وجوه أحدها : أنها تكفت أحياء على ظهرها وأمواتاً في بطنها والمعنى أن الأحياء يسكنون في منازلهم والأموات يدفنون في قبورهم ، ولهذا كانوا يسمون الأرض إما لأنها في ضمها للناس كالأم التي تضم ولدها وتكفله ، ولما كانوا يضمون إليها جعلت كأنها تضمهم

وثانيها : أنها كفات الأحياء بمعنى أنها تكفت ما ينفصل الأحياء من الأمور المستقذرة ، فأما أنها تكفت ( الأحياء ) حال كونهم على ظهرها فلا وثالثها : أنها كفات الأحياء بمعنى أنها جامعة لما يحتاج الإنسان إليه في حاجاته من مأكل ومشرب ، لأن كل ذلك يخرج من الأرض والأبنية الجامعة للمصالح الدافعة للمضار مبنية منها ورابعها : أن قوله : { أَحْيَاء وأمواتا } معناه راجع إلى الأرض ، والحي ما أنبت والميت مالم ينبت ، بقي في الآية سؤالان :

الأول : لم قيل : { أَحْيَاء وأمواتا } على التنكير وهي كفات الأحياء والأموات جميعاً؟ الجواب : هو من تنكير التفخيم ، كأنه قيل : تكفت أحياء لا يعدون ، وأمواتاً لا يحصرون . ” اهـ

وهنا لم يذكر لنا السادة المفسرون بعلاقة هذه الآية بالاستدلال على البعث , ولكن إذا نحن فهمنا الآية كما ينبغي , وكما ذكر الإمام الفخر احتمالا – ولم يأخذ به – في الوجه الرابع وهو أن المراد من أحياءا وأمواتا هو الأرض فنكون قد أخرجنا وجه الاستدلال بها , ونوضح للقارئ فنقول
:
الكفت كما جاء في اللسان صرفك الشيء عن وجهه ورده , والكفات جمع كافتة , فالله تعالى يسأل الإنسان : ألم نجعل الأرض كفاتا ؟ قطعا متقلبات نغيرها من حال إلى حال , أحياءا وأمواتا ؟

 فمنها ما هو حي ( ولكونها كفاتا فسيموت هو الآخر ثم يحي وهكذا ) ومنها ما هو ميت وسنحييه هو الآخر لأنه كفات ! والحي من الأرض هو الذي ينبت والميت ما لا ينبت وليس ما قالوه ومن أجله أرادوا أن يجعلوا الآية هكذا : “كفات الأحياء والأموات ! “

فالله تعالى يذكر الإنسان بما تراه عيناه من تقلب الأرض بين الإماتة والإحياء ويذكره كذلك بأنه جعل فيها رواسي شامخات أي جبال مرتفعات عاليات وأسقيناكم ماءا فراتا . 

ولكن ما العلاقة بين الجبال الشامخات والأرض الكفات ؟ الناظر يجد أن ما يصدق على الأرض يصدق على الجبال بشكل أو بآخر , ويذكره الله عزوجل أن هذه الجبال الشامخات المتكبرات التي يحسبها الإنسان باقية لا تفنى أو لا تتغير سيكون لها موقفا آخر ” وإذا الجبال نسفت ” فهي أرضا خاضعة لمسألة الهلاك ! وأسقيناكم ماءا فراتا والماء الفرات هو أشد الماء عذوبة فالله تعالى يذكرنا بأنه أسقانا ماءا فراتا ,

والحق يقال أني كنت قد توقفت في هذه الآية فما علاقتها بسابقتها أو بالسورة عامة ؟ ثم فتح الله علي فيها , فأولا يمكننا القول كما يقول أنصار التفسير العلمي أن للجبال دور في سقوط الأمطار , فعندما ترتطم الرياح المرسلات بالجبال الشامخات تسقط الأمطار فيشرب ماءا فراتا , لذلك حسن مجيء السقيا بعد الجبال ,

ولكن الناظر يجد أن النسق العام للسورة هو ذكر التقليبات والتغيرات في الأحوال , فالجبال الشامخات هذه لم تكن في مبتدأ الأمر هكذا ولكنها ظهرت وخرجت عندما أرساها الله عزوجل وكذلك هذا الماء الفرات كان ماءا ثم تحول إلى بخار ثم عاد مرة أخرى ماءا ,

فمن يرى مثلا بحيرة قد جف ماءها ييأس أن تمتلئ مرة أخرى ولكن دورة الطبيعة التي أوجدها الله دائرة فتسير الرياح المرسلات بالسحاب المنشورات بيد الملائكة الفارقات فينزل الماء فيشرب الإنسان وتتكون البحيرة مرة أخرى , وهكذا الإنسان فهو كذلك خاضع لدورة الكفت , فهو سيموت ثم يحي كما أحييت الأرض بعد موتها  يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [الروم : 19] “ وله في الجبال الشامخات وفي دورة الماء في الطبيعة خير عبرة وعظة لعوده مرة أخرى يوم البعث , فكما عاد هؤلاء وتقلبوا سيعود ويقف بين يدي الله عزوجل . ” ويل يومئذ للمكذبين ” ففي هذا اليوم الذي سيد

إذا فالله تعالى استدل لخلقه على البعث بثلاث من الأدلة : الحدوث الجزئي الو
اقعي للإهلاك , ثم دليل منطقي وهو وأن القادر مرة قادر أبدا و أخيرا الحدوث الجزئي الواقعي للبعث والإحياء , فها هي أدلة واقعات أمام عينك أيها الإنسان , فماذا أنت قائل ؟

وبعد أن عرض الله تعالى الأدلة الواقعات على وقوع الموعود به , يبدأ في استكمال توجيهه للمكذبين في يوم الفصل , فبعدما أن قال لهم :
” فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ وُقِّتَتْ (11( يقول لهم هنا ” انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون “

فيأمرهم بالانطلاق إلى النار, وعلى الرغم من أن النار ليس لها ذكر صريح في السورة إلا أن الإشارات والدلائل على أن المراد منها هو النار أكثر من واضحة , ففي غير السورة قال الله تعالى “هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ [الطور : 14] ” ويقول ” …. وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ [سبأ : 42] “ , ثم إن هذا الذي كانوا به يكذبون ” ترمي بشرر كالقصر ” , فيفهم بداهة أن المراد من ذلك ليس عاما وإنما هو النار , فيقول الله تعالى لهم : انطلقوا إلى النار التي كنتم بها تكذبون ! انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب , ما المراد من الظل ذي ثلاث شعب ؟
اختلف المفسرون في المراد من هذا الظل , فقالوا كما جاء في مفاتيح الغيب :

” وقوله : { إلى ظِلّ } يعني دخان جهنم كقوله : { وَظِلّ مّن يَحْمُومٍ } [ الواقعة : 43 ] ثم إنه تعالى وصف هذا الظل بصفات :
الصفة الأولى :
قوله : { ذِى ثلاث شُعَبٍ } وفيه وجوه أحدها : قال الحسن : ما أدري ما هذا الظل ، ولا سمعت فيه شيئاً وثانيها : قال قوم المراد بقوله : إلى ظل ذي ثلاث شعب كون النار من فوقهم ومن تحت أرجلهم ومحيطة بهم ، وتسمية النار بالظل مجاز من حيث إنها محيطة بهم من كل جانب كقوله : { لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } ( ولكن هذا في الظلل وهي جمع ظلة وليست ظل ) [ الزمر : 16 ] وقال تعالى : { يَوْمَ يغشاهم العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } [ العنكبوت : 55 ]

وثالثها : قال قتادة : بل المراد الدخان وهو من قوله : { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } [ الكهف : 29 ] وسرادق النار هو الدخان ، ثم إن شعبة من ذلك الدخان على يمينه وشعبة أخرى على يساره ، وشعبة ثالثة من فوقه . وأقول هذا غير مستبعد لأن الغضب عن يمينه والشهوة عن شماله ، والقوة الشيطانية في دماغه ، ومنبع جميع الآفاق الصادرة عن الإنسان في عقائده ، وفي أعماله ، ليس إلا هذه الثلاثة ،

فتولدت من هذه الينابيع الثلاثة أنواع من الظلمات ، ويمكن أيضاً أن يقال : ههنا درجات ثلاثة ، وهي الحس والخيال ، والوهم ، وهي مانعة للروح عن الاستنارة بأنوار عالم القدس والطهارة ، ولكل واحد من تلك المراتب الثلاثة نوع خاص من الظلمة ورابعها : قال قوم : هذا كناية عن كون ذلك الدخان عظيماً ، ” اهـ

نقول : الملاحظ أن الآية قالت ظل وهم قالوا بشيء غير ذلك , وذلك لتحيرهم ولعدم رؤيتهم أو معرفتهم بوجود ظل متشعب , ولكن كيف يكون هذا الظل المتشعب ؟ نقول الله أعلم ,فلا يستطيع أحد أن يجزم أن المراد من الظل ذي ثلاث شعب هذا هو شيء محدد ,

فالآية وإن كانت واضحة المعنى لألفاظها ولها تصورها الواضح في الذهن ولكن لا يستطيع المرء أن يجزم بأن هذا سيكون هو الحال في الآخرة , ولكنا نعرضه للقارئ من باب أن هذا التصور تنطبق عليه الآية :
بادئ ذي بدأ نعرف القارئ بمعنى الشعب , وهي وإن كانت معروفة المعنى ولكن نزيدها تحديدا , فنقول : الشعب جمع شعبة وأصلها شعب , وهي كما جاء في المقاييس :

” الشين والعين والباء أصلان مختلفان، أحدهما يدلُّ على الافتراق، والآخر على الاجتماع. ثمَّ اختلف أهلُ اللغة في ذلك، فقال قومٌ: هو من باب الأضداد. ( أي أنها تأتي بالمعنى وضده ) وقد نصَّ الخليلُ على ذلك.
وقال آخرون: ليس ذلك من الأضداد، إنّما هي لغات. قال الخليل: من عجائب الكلام ووُسْع العربيَّة، أنَّ الشَّعْب يكون تفرُّقاً، ويكون اجتماعاً.
وقال ابن دريد: الشَّعب: الافتراق، والشَّعْب: الاجتماع.
وليس ذلك من الأضداد، وإنّما هي لغةٌ لقوم. فالذي ذكرناه من الافتراق.
وقولهم للصَّدْعِ في الشيء شَعْب. ومنه الشَّعْب: ما تشعّبَ من قبائل العرب والعجم، والجمع شعوب. قال جل ثناؤه : وَجَعلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ [الحجرات 13] . ويقال الشَّعب: الحَيُّ العظيم. قالوا : ومَشعب الحقّ: طريقُه. قال الكميت:
فما لِيَ إلاَّ * آلَ أحمدَ شيعةٌ وما لي إلاّ مَشعَب الحقِّ مَشْعَبُ
ويقال: انشعبت بهم الطُّرق، إذا تفرَّقَتْ، وانشعبت أغصانُ الشجرة. فأمَّا شُعَب الفَرَس، فيقال إنَّه أقطارُهُ التي تعلُو منه، كالعنق والمَنْسِج، وما أشرف منه. قال:ويقال ظبيٌ أشعبُ، إذا تفرَّق قرناه فتبايَنَا ببينونةً شديدة. قال أبو دُؤاد:
وقُصْرَى شَنجِ الأنسا ءِ نَبّاحٍ من الشُّعْبِ
والشِّعب: ما انفرَجَ بين الجبلَين. وشَعوبُ: المنِيّة؛ لأنَّها تَشعَب، أي تفرِّق.
ويقال شَعبتْهم المنيّة فانشعبوا، أي فرّقتْهم فافترقوا . والشَّعِيب: السِّقاء البالي، وإنَّما سمِّي شَعِيباً لأنَّهُ يَشْعَب الماء الذي فيه، أي لا يحفظُهُ بل يُسيله. قال:قال ابن دريد: “وسمِّي شعبانُ لتشعُّبِهم فيه، وهو تفرُّقُهم في طلب المياه”.
وفي الحديث: “ما هذه الفُتْيا التي شعَّبت الناس؟”. أي فرّقتهم .
وأما الباب الآخر فقولهم شَعَبَ الصَّدْعَ، إذا لاءمَه. وشَعَبَ العُسَّ وما أشبهه.
ويقال للمِثْقَب المِشْعَب. وقد يجوز أن يكون الشَّعْب الذي في باب القبائل سمِّي للاجتماع والائتلاف. اهـ

والذي أراه أن التشعب هو بمعنى التشعب أو التفرع بلغتنا المعاصرة , فلكي يحدث تشعب لا بد من وجود أصل واحد يتشعب منه المتشعبون , لذلك لا بد من حدوث التجمع والافتراق وليس في الأمر عجب , فهذا ما نراه مثلا في الشجرة ففيها أصل واحد ومنها يتشعب الفروع وكذلك في البحر يتشعب منه الخلجان ,

فإذا نحن نظرنا إلى الآية الموجودة بين أيدينا وجدنا أنها تشير إلى وجود أكثر من مصدر للضوء في هذا اليوم والله أعلم بكيفية وجود مصادر الضوء هذه , وعند وجود هذه المصادر المتعددة المختلفة يتكون هناك ظل ثلاثي الشعب , ونزيد الصورة توضيحا وتقريبا للقارئ فنقول :

لقد أصبحنا نرى هذا المشهد من الظل في أيامنا هذه , فلاعب كرة القدم في الملعب له أربعة ظلال لوجود كشافات في الاتجاهات الأربعة , ومن المعلوم أن الظل يتكون من وقوع الضوء على جسم فتحدث عملية حجب للضوء عن المساحة خلف هذا الجسم لأن الجسم حجب الضوء عنها ويظهر الظل متشكلا بشكل الجسم الحاجب للضوء , أما في حالة وجود مصادر الضوء في الاتجاهات المختلفة فإنا نرى ظلا فعلا ولكن هذا الظل يكون رفيعا نحيلا لا يجدي ولا ينفع . لذا فإن تصوري للمشهد يوم القيامة أنه مماثل لما نراه في أيامنا هذه من وجود مصادر مختلفة للضوء وليس مصدرا واحدا ,

ونذكر القارئ أن الله تعالى قال : ” َيوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم : 48] “ فالكون يوم القيامة كون غير كوننا هذا , فالله أعلم بمصادر الضوء فيه . ولكن لم سيكون الظل ذا ثلاث شعب لم ليس أربع ؟ نقول والله أعلم لأن الاتجاه الرابع هو جهنم ومن هذا الاتجاه لا يأتي أي ضوء وإنما تأتي الأضواء من الاتجاهات الأخرى , لذلك كان الضوء ذا ثلاث شعب وليس أربع والله أعلم .

ولوجود الضوء من اتجاهات مختلفة فُقدت فائدة الضوء لذلك قال الله تعالى ” لا ظليل ولا يغني من اللهب “ . ثم يصف الله تعالى النار التي كذبوا بها فيقول : ” إنها ترمي بشرر كالقصر ” والشرر معروف وهو ما يتطاير من النار , ولكن هل المراد من القصر هو البناء العظيم المعروف ؟

الناظر يجد أن بعض المفسرين قالوا أن المراد من القصر هو البناء الكبير المعروف ! ولست أدري ما العلاقة بين القصر وشرر جهنم ؟! فالقصر في الفكر البشري كله رمز للنعيم والثراء, فكيف يشبه به نار جهنم ؟! أما إذا أراد التشبيه في الحجم فهناك الكثير من المشبهات والتي تناسب هذا الموقف !

ثم إن السادة القائلين بهذا القول غفلوا عن أن القصر مشبه به بالنسبة للشرر وهو جمع وكذلك هو مشبه بالجمالات الصفر وهي جمع فكيف يأتي مفرد بين جمعين ويكون مشتركا بينهما ؟! الراجح أن المراد إذا من القصر هنا هو صيغة جمع وليس اسما مفردا , فإذا نحن نظرنا اللغة وجدنا أن القصر جمع قصرة , كما أن التمر جمع تمرة ! فما هي القصرة ؟

القصرة هي الواحد من الحطب الجزل الغليظ وقيل أن المراد منها أصول النخل أو الشجر ،ولقد روي عن ابن عباس ” قال عبد الرحمن بن عابس : سألت ابن عباس عن القصر فقال : هو خشب كنا ندخره للشتاء نقطعه وكنا نسميه القصر ” وبغض النظر عن كونه حطب غليظ أو أصول الشجر فالمعنى واضح وهو أن شرارة النار والتي هي شيء حقير في الدنيا مثل أصل الشجرة , ومن المعلوم بداهة وجود علاقة بين الشجر والنار .

إذا فالمراد من القصر هو جمع وليس مفرد وهو نبات والنبات يستعمل في الإيقاد , فهناك علاقة بين القصر والشرر , وكذلك فإنه من الممكن أن يشبه هذا القصر بالجمالات الصفر والمراد من الجمالات الصفر جمع جمل أو جمالة وهي الحيوان المعروف وقيل أن المراد منها حبال السفن الغليظة والأرجح والله أعلم أن المراد من ذلك الحيوان لا الحبال , لأن الحيوان فيه حركة واندفاع كما يكون من الشرر بخلاف الحبال الخاملة , والناظر في أقوال المفسرين في الصفر يجد أنهم يميلون إلى جعلها مسودة وليست صفراء !

ولقد رد عليهم الإمام الفخر الرازي فقال :
” أما قوله : صفر فالأكثرون على أن المراد منه سود تضرب إلى الصفرة ، قال الفراء : لا ترى أسود من الإبل إلا وهو مشوب صفرة ، والشرر إذا تطاير فسقط وفيه بقية من لون النار كان أشبه بالجمل الأسود الذي يشوبه شيء من الصفرة . وزعم بعض العلماء أن المراد هو الصفرة لا السواد ، لأن الشرر إنما يسمى شرراً ما دام يكون ناراً ، ومتى كان ناراً كان أصفر ، وإنما يصير أسود إذا انطفأ ، وهناك لا يسمى شرراً ، وهذا القول عندي هو الصواب .” اهـ
إذا فالله تعالى يوضح للمكذبين عظم مقدار النار وكيف أن شررها كالقصر وكيف أنه متتابع ذو لون أصفر مثل الجمال وفي هذا اليوم الذي يذهبون فيه إلى النار ” ويل يومئذ للمكذبين ” .
ثم يعود الله تعالى إلى تحديد يوم الفصل للرسول , فبعد أن قال له : ” وما أدراك ما يوم الفصل ” يقول له هنا ” هذا يوم لا ينطقون “ ففي هذا اليوم لا ينطق المكذبين , ونذكر بأن اليوم الذي لا ينطق فيه المكذبين ليس طيلة اليوم الآخر ولكنه يوم الفصل ,

والمشكلة أن السادة المفسرين لما جعلوا يوم الحساب ويوم الفصل ويوم القيامة ويوم البعث ويوم الحشر أسماءا مترادفات لليوم الآخر تخبطوا وأوجدوا تعارضات في النص القرآني حاولوا هم أن يردوها , فقالوا أن المراد مثلا هنا أنهم لا ينطقون بحجة أو بشيء نافع ليوفقوا بين قوله تعالى ” ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام : 23] ” وقوله ” يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً [النساء : 42] “

ولكن الآية واضحة فهي تقول : ” هذا يوم لا ينطقون ” والمعروف أن النطق أقل في الكم والكيف من الكلام والقول , فالآية نفت أن يخرج منهم أي صوت , فكيف نجعل مراد الآية أنهم لم يقولوا قولا نافعا ؟!

أما على فهمنا نحن فلا تعارض, فيوم الفصل يكون بعد يوم البعث والذي يكون بعده يوم الحشر ثم يكون يوم الحساب ثم يكون يوم الفصل , وفي يوم الفصل حيث يقاد المكذبين إلى النار ويكون المؤمنون في الجنة !

إذا فيوم الفصل يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون فلا محاجة ولا جدال ولا إذن أساسا حتى بالإقرار من أجل الاعتذار , لأن الله تعالى قد ألغى حجة الإنسان بما أرسل إليه من النذر والرسل البشرية والطبيعية , وتذكر أول السورة إلى الآية السادسة , ففي هذا اليوم “ ويل يومئذ للمكذبين “

” هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين ” أي أنكم مجمعون أيها المكذبون أنتم والأولين , فكما أهلكنا الأولين ثم أتبعناهم الآخرين فكذلك نجمعهم كلهم يوم القيامة فلا يغيب عنا أحد .

” فإن كان لكم كيد فكيدون ” فالله تعالى يقول للمكذبين : ها أنتم مجمعون مع أقرانكم منذ قيام الساعة , فماذا أنتم فاعلون بتجمعكم هذا وهل هو مفيدكم في شيء ؟ هل لا يزال لديكم نفس التفكير الأحمق ” أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ [القمر : 44] ” ؟ فكلكم موجودون مجموعون ولكن لا ينفعكم ذلك في شيء , ففي هذا اليوم يوم لا ينفعكم مكركم ولا كيدكم ولا جمعكم ” ويل يومئذ للمكذبين “

وكعادة القرآن دوما في استكمال الصورة , فإذا ذكر أهل النار يذكر أهل الجنة فيقول : ” إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) “ فهناء الجنة هناء أبدي غير منقطع ,
ونلاحظ المقابلة البديعة التي أجراها القرآن بين أهل النار وأهل الجنة , فعندما قال لهم ” انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب ” قال هنا في حق المؤمنين ” إن المتقين في ظلال وعيون ” فهم في ظلال وليس ظل كما أنهم في عيون حيث يتوفر الشراب والرخاء بخلاف من في النار , فكل أيها المؤمن واشرب كما يحلو لك بما كنت تعمل , فهكذا نجزي المحسنين ! فبسبب إحسانك كان الجزاء وبسبب تكذيب الآخر كان العقاب . وفي هذا اليوم أي يوم أن يكون المؤمنون في الجنة ” وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) ” فهم في النار يصلون سعيرها !

وبعد أن عرض الله موقف المكذبين والمؤمنين في يوم الفصل عاد فذكر لهم الإرشادات والنصائح المخوفة في الدنيا استكمالا لما ذكره في قوله ” إنما توعدون لواقع , فإذا النجوم طمست …. ” فهناك ذكر أحداث الآخرة وهنا يعود فيقول لهم : ” كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون ” وهذا مصداق قوله تعالى “و َإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة : 126] “ فمهما طالت أعماركم فهي قصيرة وأنتم ميتون وبعد الموت سيقع ويكون ما نحن به مخبرون , وعند موتكم ” ويل يومئذ للمكذبين “

” وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون “ قيل أن المراد من الركوع هنا هو الركوع المعروف في الصلاة ولكن هذا بعيد والأرجح أن المراد من الركوع هو الخضوع والخشوع لله , فإذا حدث وتحقق خوطب الإنسان بباقي الأوامر , أما أن أخاطبه بالركوع الجسدي وهو لم يركع قلبا وعقلا فهذا ما لا يقبل , ثم إن الآية القادمة دليل على هذا الفهم ؟ ” ويل يومئذ للمكذبين ” أي ويل لهم يوم لا يؤمنون ولا يخضعون فهذا سبب كل ما ينزل وسينزل بهم

.
” فبأي حديث بعده يؤمنون “ أي فبأي حديث بعد ما ذكرنا في القرآن عامة والذي هو الذكر الملقى في أول السورة وما جاء في هذه السورة خاصة يؤمنون ؟ فلقد ذكرنا لكم الدلائل الجلية والخفية وذكرناكم بما كان منكم وما كان من غيركم وعرفناكم ما سيكون ويقع بكم , وعلى الرغم من ذلك لم تؤمنوا , فماذا تريدون إذا لتؤمنوا ؟

فانظر أخي في الله إلى هذا الأسلوب الأدبي العالي الذي لم يسبق , وكيف عرض الصورة بطريقة متداخلة بديعة تقطع على المفكر كل فكرة وتنقله من واد إلى آخر , فلا يملك من يسمع هذا الحديث الواثق إلا أن يعرف أن من يقوله قادر على أن يفعله .
هدانا الله لما فيه خير الصواب وعصمنا من الزلل والخلل .

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

اجتهاد جديد غير مسبوق حول صدقة الفطر

بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد وسلام على عباده الذين اصطفى، ثم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.