سورة التين

نتناول اليوم بإذن الله وعونه سورة جديدة وهي سورة التين , وهي كما يبدو من أسلوبها مكية وهذا ما تقول به الروايات . وسورة التين ولله الحمد والمنة معروفة المعاني والمباني فلم تغمض منها مفردة واحدة على القارئ , ولكنا وجدنا بعض أعداء الإسلام يستهزؤن بهذه السورة زاعمين أنها سورة سطحية المعاني ساذجتها , خاوية الدلائل والآيات التي تدل على سماوية مصدرها , 

لذا ارتأينا بإذن الله تعالى أن نتناول هذه السورة الكريمة التي تعرض لقضية جد هامة في الفكر الإنساني ولكن الناس عنها غافلون وهي قضية شكل العلاقة بين الله والإنسان ! , متكلين على الرب القدير لنعرض ما يفتح الله تعالى به علينا . فعلى الله الاتكال : بسم الله الرحمن الرحيم


التقسيم العام للسورة :
تبدأ السورة الكريمة بأربعة أقسام متواليات في ثلاث آيات يتبعها المقسم عليه في ثلاث آيات أخر , ثم تعليق من الله عزوجل على موقف الإنسان من الدين في آيتين إثنتين , ويمكننا القول أن السورة مبنية على الترتيب التنازلي فقد اقسم بأربعة أقسام على مقسمين عليهما ,

أي أن هناك أربعة أقسام ومقسمان عليهما و ردّان ” تعليقان ” من الله عزوجل على موقف الإنسان تجاه الصنفين المقسم عليها . والسورة كلها تنتهي بالنون ما عدا الآية الرابعة فانتهت بالميم , ولو كان الأمر مجرد فواصل وسجع لكان من الممكن أن يقال ” في أحسن تكوين ” ولكن لكل لفظ معنى يؤديه في سياقه .

تبدأ السورة بقوله تعالى ” والتين والزيتون “ فنجد أن الله تعالى يقسم بالتين والزيتون , والتين والزيتون معروفان لكل الناس ,
ولقد تحير المفسرون من هذا القسم , فالله لا يقسم إلا بما هو نفيس وعزيز ذو فضل ونعمة سابغة على الإنسان , فيذكره الله تعالى بفضله عليه من خلال هذا القسم الذي لا يستطيع أي إنسان أن يتجاوزه في حياته . فإذا نحن تعرضنا للتين وللزيتون وجدنا أنهما نبتان مثل غيرهما من النبات ,
وأنا أعرف أن السادة المفسرون قد أخذوا في تفصيل فوائد وأهمية نبتة التين والزيتون الصحية والبدنية بالنسبة للإنسان والبناء الإعجازي للنبتتين وكذلك أوجه التشابه والاختلاف بين النبتتين من كون أحدهما صيفية والأخرى شتوية أو إحداهما فاكهة حلوة والأخرى مرة , أو أن أحدهما تنبت بالدهن وصبغ للآكلين … إلخ

هذه الأوصاف التي تتوفر في كل نبتة منهما – مما ينزع الإنسان من تدبر الكتاب ويشعره أنه في كتاب علوم ! -. ولكن لن أن نتوقف لنسأل : ألا يوجد بعض البشر ليس لهم أي علاقة بالتين أو الزيتون , بل هناك من لم يأكل التين أو الزيتون في حياته ؟

وبغض النظر عن كل هذا فإن الإنسان عندما يسمع القسم بالتين والزيتون لا يرى فيهما شيئا عظيما , ونحن نقر أنه ربما يكون الله تعالى بقسمه بهما مجتمعين يريد أن ينبهنا إلى علاقة بينهما أو أمر هام يحدث عند اجتماعهما أو إلى ضرورتهما , ولكن كما قلنا فالتين والزيتون في فكر الإنسان ليسا بالأمرين الخطيرين , فهل يقسم الله تعالى بما ليس عظيم وذو فضل سابغ على الإنسان ؟

من أجل هذا حاول بعض المفسرين أن يقولوا أنه ليس المراد من التين والزيتون هما النبتتين المعروفتين وإنما المراد منهما الإشارة إلى أشياء أخرى ,
فقالوا :

هما جبلان في الأرض المقدسة ، يقال لهما : بالسريانية طور تيناً ، وطور زيتاً فقسم الله إشارة إليهما , وقيل أنهما إشارة إلى مساجد مختلفة وقيل أنهما إشارة إلى أماكن أنبياء مشتهرين بعثوا في هذه المناطق , فالتين إشارة إلى الشام مبعث كثير من أنبياء بني إسرائيل ,
والزيتون إشارة إلى فلسطين مبعث عيسى عليه السلام . وقيل أن التين إشارة إلى بوذا , فكما يرى كثير من الباحيثين فإن بوذا كان نبي من أنبياء الله الصالحين ولكن رسالته حُرفت بعد وفاته كما حرف كثير من الأديان , ولقد بدأت الحكمة مع بوذ أو تلقي الوحي ! عندما كان جالسا تحت شجرة التين ! فيكون التين إشارة إلى بوذا والزيتون إشارة إلى عيسى . وقيل أن الزيتون إشارة إلى النور والوحي الإلهي كما جاء في قوله تعالى في سورة النو
ر ” اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النور : 35]

ولكن لنا أن نتوقف هنا لنسأل :
لم الحديث عن الفهم الإشارة للنص لم لا نأخذ النص على ظاهره , أليس هذا هو الأولى حتى لا يتقول على الله ما لم يقله ؟
نقول : نعم , الأولى الأخذ على الظاهر ونحن أخذنا به , ولكن السورة تحتم علينا أن نجعل القسم بالتين والزيتون من باب الإشارة , وتتبع معي السورة فستعلم أن المسلك الذي سلكه المفسرون هو المسلك السليم الواجب في تعاملهم مع القسم الأول ,
وليس أنه محاولة جوفاء من علماء المسلمين لتفخيم المقسم به ! فإذا نحن نظرنا في المقسمين بهما بعد هذا القسم وجدنا قوله تعالى ” وطور سينين وهذا البلد الأمين ” وطور سينين هو الجبل الذي كلم الله موسى عليه ,
وبغض النظر عن مكان جبل الطور سواء كان في سيناء المصرية أو في فلسطين في القدس والمعروف بجبل الزيتون أو هو جبل ممدود من مصر إلى أيلة أو حتى في الأردن في جبال البتراء كما يرى بعض الباحيثين , فالمتفق عليه أن طور سينين هو الجبل الذي كلم الله موسى عليه ,

والبلد الأمين هي مكة المكرمة بلا خلاف , فما هو الرابط بين هذه الأشياء ؟ يفترض فيمن يقسم أقسام مختلفة على مقسم به أن تكون هذه الأقسام مرتبطة فما هو وجه الترابط بين هذه الأقسام ؟ لا يوجد وجه صريح للترابط إلا القول بأن التين والزيتون أيضا إشارة إلى أنبياء كما أشار طور سينين إلى موسى والبلد الأمين إلى مكة والرسول الخاتم ! فيكون القول بأن التين والزيتون إشارة إلى الأنبياء مثل الآيتين التاليتين ليس من باب التكلف بل هو المفترض .

قد يقول قائل : هذه محاولة منكم أيها المسلمون من أجل أن توفقوا بين الفوضى التي أتى بها محمد , نريد دليلا قاطعا !

فنقول : المسألة ليست محاولة توفيق أو تلفيق بل هو النص الحاتم بذلك , ونقول الدليل القاطع على وجود الإشارة في قوله تعالى ” والتين والزيتون ” هو قوله تعالى ” فما يكذبك بعد بالدين ” فالله تعالى بعد أن تكلم عن حال الإنسان خاطبه قائلا : فما يكذبك بعد بالدين ؟ فيفترض أن يكون ما سبق من المقسم به من الدين , حتى يفرع الله عليه بالفاء ” فما ” , فتكون هذه الآية هي النص القاطع على أن ما ذكر من أول السورة هو من باب الإشارة .

إذا فالله تعالى أقسم بالتين والزيتون وطور سينين وبالبلد الأمين ونتوقف لنتساءل عن سر هذا الترتيب ؟ فلماذا التين أولا ثم الزيتون ثم الطور ثم البلد الأمين ؟

نقول : الله لا يقسم إلا بما هو نفيس غالي , ولكن النفائس لا تتساوى فهناك منها ما هو أنفس من غيرها , وهنا بدأ الله السورة بالقسم بما هو أقل نفاسة تصاعديا إلى ما هو أنفس وأعز ,
فبدأ بالتين ثم الزيتون و من المعلوم بداهة أن ثمرة الزيتون أكثر نفاسة من التين ففيها من الفوائد ما لا تقاربها شجرة التين , ثم يكفيك أن التين ذكر في القرآن مرة واحدة أم الزيتون فذكر ست مرات , إحداهن إشارة إلى النور الإلهي ! وفي هذه الآية وصفها الله بأنها شجرة مباركة !
وإذا نحن قصدنا الفهم الإشاري وجدنا أن المراد بالتين أنبياء بني إسرائيل أو بوذا وهم حتما أقل مكانة من عيسى عليه السلام , ثم يأتي بعد ذلك طور سينين وفيه إشارة إلى موسى عليه السلام ثم يأتي ما هو أكثر نفاسة وهو البلد الأمين مكة بيت الله الحرام وفيها الإشارة إلى الرسول الكريم , فهي أعلى نفاسة من كل المذكور !

ومثل هذه الإشارات موجود في الكتاب المقدس , فإذا نحن نظرنا في التوراة في سفر التثنية في الإصحاح الثالث والثلاثين وجدناه يقول :
” و قد ذكر في التوراة في بداية الإصحاح الثالث و الثلاثون من سفر التثنية “ جَاءَ الرَّبُّ مِنْ سَيْنَاءَ وَأَشْرَقَ لَهُمْ مِنْ سَعِيْرٍ وَتَلأَلأَ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ وَأَتَىْ مِنْ رَبَوَاتِ القُدْسِ ” ,
فإذا نحن نظرنا في هذه الآية في التوراة وجدنا أنها مماثلة لما في سورة التين , ففيها أربعة إشارات هي الأخرى , فمن سيناء يعني جبل الطور في سيناء , و أشرق له من سعير يعني دمشق وهي موطن التين , و تلألأ من جبل فاران يعني جبال مكة البلد الأمين , و أتى من ربوات القدس يعني بيت المقدس حيث الزيتون . فهذه الآية تصديق لتلك النبؤة المذكورة في التوراة من حيث خروج الوحي في مكة .

وبعد القسم بالتين والزيتون يأتي القسم بطور سينين , والمشكلة أن كثير من المصريين خاصة يظنون أن كلمة ” طور ” اسم علم , لذلك نجدهم يقولون : جبل الطور بسيناء , وهذا من الأخطاء المتداولة والصحيح أن الطور هو الجبل المكسو بالأشجار‏,‏ والجبل غير المكسو بالخضرة لا يقالله طور‏,‏ إنما يقال له جبل إذا كان شاهق الارتفاع بالنسبة للتضاريس حوله‏,‏ ويسميتلا إذا كان دون ذلك‏,‏ وتليه الأكمة أو الربوة أو النتوء الأرضي‏,‏ ويليه النجد أوالهضبة‏,‏ ويليه السهل‏ . والذي تميل إليه النفس أن طور سينين أو سيناء ليس في مصر , لأن الله تعالى وصف الجبل بأنه ذو شجر ” وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ [المؤمنون : 20] “ يخرج منه الزيتون ,

والطور كما قلنا الجبل الذي فيه شجر والجبل الموجود في سيناء هو جبل ! ليس فيه أي شجر , لذا تميل النفس إلى أنه فعلا جبل الزيتون الموجود في القدس حيث أنه طور فعلا , أما مسألة أن الجبل أضيف إلى سيناء وسيناء في مصر , فنقول : ليست الحدود الجغرافية الحديثة مما أتى به القرآن , فلا يوجد ما يمنع على الإطلاق أن يكون تم زحزحة للاسم المسمى للمنطقة إلى منطقة أخرى !

المهم أن الله تعالى يقسم بطور سينين حيث كلم موسى ثم يتبع ذلك بقوله ” وهذا البلد الأمين ” ونلاحظ أن الله تعالى كان من الممكن أن يقول ” والبلد الأمين ” فيصير المقسم به كلمتين مثل المقسم به في الآيتين الأوليتين ” التين الزيتون , طور سينين ” ولكنه قال ” هذا البلد الأمين ” فزادت كلمة وهي اسم الإشارة ” هذا ” , وهذه إشارة إلى عدم الاهتمام بمسألة الوزن الذي يزعمون أن القرآن يهتم بها ,

أما الإتيان باسم الإشارة فالغرض منه التحديد والجزم أن المراد بذلك مكة المكرمة وليس أي بلد أمين آخر , فلو قال الله تعالى ” والبلد الأمين ” لاحتمل أن يكون المراد من ذلك مكة , لأنه تعالى حكى في حقه ” وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم : 35] “ ولكنه يحتمل أيضا أن يكون المراد منه أي بلد أمين يحيا فيها الإنسان , ولكن لما أشار إليه ب ” هذا ” ارتفع اللبس وعلم أن المراد من ذلك هو مكة المكرمة !
ولكن لم قال الله تعالى ” أمين ” ولم يقل ” آمن ” ؟

أمين على وزن فعيل وهي صيغة تفيد المفعولية والفاعيلة ! فإذا كان المدلول مما يختص به الموصوف فقط ولا يتعدى إلى غيره كانت بمعنى المفعولية مثل ” جريح وقتيل ” أما إذا كان المدلول لا يختص بالموصوف فقط ويتعدى إلى غيره فتفيد المبالغة وتكون بمعنى فاعل , مثل رحيم وبديع فهي بمعنى راحم ومبدع !

فإذا نحن نظرنا في هذه الآية وجدنا أن الله تعالى استعمل صيغة فعيل ليشير إلى هذا المعنى ! فالأمن في مكة ليس فيها في ذاتها فقط ولكنه متعد إلى غيرها فهي آمنة مؤمنة لمن فيها أمنا تاما , ونلاحظ أن الوصف بالأمين جاء للبشر ولم يأت للأماكن إلا مع مكة ومع الجنة ” ِإنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ [الدخان : 51] “ ! لذلك استعمل الله تعالى فعيلا ولم يستعمل فاعلا وليس الأمر من أجل الفاصلة أو ما شابه !

إذا فالله تعالى يقسم بنعمه المادية الروحية الكثيرات المستمرات على خلقه , فما هو المقسم عليه إذا الذي يستحق كل هذه الأقسام ؟
إذا نحن نظرنا في السورة وجدنا أن المقسم عليه أمر جد خطير يرد على كثير من القضايا المطروحة في الفكر البشري , فالمقسم عليه الأول هو قوله تعالى ” لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم “ قد يبدو المقسم عليه بالنسبة للقارئ العادي ليس خطير الشأن إلى هذه الدرجة ولكن ندعوه ليتوقف معنا ليتدبر في هذه الآية ما هو المقسم عليه , ولم ؟

يقسم الله تعالى أنه هو الذي خلق الإنسان – بواسطة الملائكة الذين تولوا هذه العملية – في أحسن تقويم . أما لماذا هذا القسم , فهو رد ضمني على كثير من التيارات الفكرية الإلحادية والتي تقول أن الإنسان خلق هكذا صدفة ! تصور ! عن طريق التطور , فيرد الله عليهم أنه هو الذي خلق وليس الأمر مجرد صدفة بل هو خلق موجه ! أنشأه الله تعالى إنشاءا وجعله في أحسن صورة ” الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الإنفطار : 7]
فأنت أيها الإنسان معتدل القامة وفي هذا من الفوائد بالنسبة للإنسان ما لا يحصى كما أن فيها تميز له عن باقي الحيوانات , والتي لا استقامة فيها .
ونلاحظ أن المقسم به ” التين والزيتون …. ” يحتوى الدليل المباشر على صحة المقسم عليه , فالله قدم الدليل في القسم , فالله يرد مقدما على القائلين بالصدفة بقوله أنه هو الخالق الراعي والذي أعد وجهز كل ما يحتاجه الإنسان من احتياجات روحية وبدنية وها هي قائمة صراح أمام الإنسان , وكذلك رد على الذي يقول أن الله تعالى أكبر من أن يهتم بالعالم فلقد خلقه وتركه أو أن الله لا يعلم بالجزئيات , فقدّم الأدلة في المقسمات بها على نفي كل هذه الأقوال .

ثم يأتي المقسم عليه الثاني وهو قوله تعالى ” ثم رددناه أسفل سافلين ” , ومجيء هذه الآية بعد سابقتها من الأمور التي قد تثير العجب عند القارئ , فكيف يقول الله تعالى أنه خلق الإنسان في أحسن تقويم ثم رده أسفل سافلين ولم يرده الله تعالى إلى تلك السفلية ؟

نقول : لا بد أن نفهم أولا مراد الله من الرد إلى أسفل سافلين لنعرف كيف رده الله خالقه ! اختلف السادة المفسرون في المراد من هذا فقالوا أنه الرد إلى أرذل العمر ! أو المقصود هم الضعفاء أو المرضى الزمنى ! وهم بقولهم هذا يسيئون إلى الإنسان وإلى ربه عزوجل ,

فالإنسان في هذه الحالة ليس أسفل سافلين ثم إنه لا يستحق الذم والتوصيف بهذا الوصف فليس هذا بيده , وإنما هو من قضاء الله على البشر , فهل يعيبون الخلق أم الخالق ؟! ثم هم لا يربطون الآية بالآية التالية لها . أما نحن فنفهم هذه الآية من خلال سابقتها ولاحقتها , فلقد قلنا أن المراد من الخلق في أحسن تقويم هو الخلق الحسن المنتصب القامة مع توفير الاحتياجات وأهمها الروحية ” الدين ” ثم يأتي بعد ذلك الرد إلى أسفل سافلين ولكن ليس هذا الرد لكل الناس بل المؤمنون العاملون للصالحات مستثنون من هذا الرد , فيفهم بداهة أن المراد من هذا الرد هو جزاء وعقاب للناس على عدم انتفاعهم بتقويم الرحمن لهم , فلقد خلقهم ونصب قامتهم وأرسل لهم الرسل ولكنهم لم يستجيبوا , فبإعراضهم عن رسلهم ( المذكورين إشارة في أول السورة ) استحقوا أن يكونوا أسفل سافلين !

أي أن الإنسان المعرض عن الوحي في الدنيا هو أقل من الحيوان ” و َلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف : 179] “ فهو أسفل سافلين في الدنيا ومصيره في الآخرة أن يُرد إلى نار جهنم فهو أسفل سافلين كذلك !
وفي هذا التوصيف للإنسان أنه مردود إلى أسفل سافلين يستثنى منه المؤمنون الصالحون – والاستثناء يكون للقليل من الكثير – تصديق لقوله تعالى “ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف : 103] “ ففيه إشارة إلى أن الحال الغالب للإنسان هو الكفر أو المعصية

, لذلك جاء الوصف للإنسان كاملا بالرد إلى أسفل سافلين سواءا في الدينا أو الآخرة , ” إلا الذين آمنو وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون “ أي أن الرد في الآخرة إلى النار والانتكاسة في الدنيا إلى االحيوانية يستثنى منه الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون , ففي الآخرة هم في أعلى عليين ولهم في الدنيا الحياة الحسنة , والناظر في الفكر الإسلامي يجد أنه يجعل الدين تكليفا يقابله أجر في الآخرة , أما نحن فنرى أن الدين تكليف وأجر في آن واحد ,

لذا فإنا نرى أن الله عزوجل يدخلنا الجنة بكرمه وفضله , فلو اكتفى بأن يدخل العاصين النار وأن لا يعاقب المطيعين لكان الدين أجرا كافيا وهومن تمام فضله ونعمه عليهم , فكفى بالدين منهاجا وتنظيما وسعادة للحياة الدنيوية ! لذا فإنان نقول أن الأجر الغير ممنون بادئ في الدنيا متمثل في حياة سعيدة قويمة هانئة منتظمة ( يحكمها الدين ),

ولا ينقطع هذا الأجر فإذا مات الإنسان انتقل إلى جنات رب العالمين في أعلى عليين على عكس من هم في أسفل سافلين . وفي هذه الآية والآية السابقة لها رد على من يقولون أن الله تعالى رحيم لا يعذب خلقه ! أو أنه أكبر من أن يعذب خلقه !
فيوضح لهم أنه سينزل عذابه بمن يستحقه جزاءا له على فعله المشين وأنه سيثيب من يؤمن ويعمل صالحا , فليس الخلق عبثا أو مسرحية إلهية بل هو اختبار من الرحمن الرحيم “ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون : 115] , ” وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص : 27] “
إذا فالله تعالى هو الذي خلق الإنسان وأعد له ما يحتاجه من غذاء روحي وجسدي وأمن اجتماعي وهو خالقه لحكمة فمثيبه ومعاقبه , فليس الله أكبر من ذلك , كما يتشدق بعض المتشدقين ويكذب بعض المكذبين .

” فما يكذبك بعد بالدين ” اختلف المفسرون في المخاطب في هذه الآية , هل هو الإنسان , أم الرسول ؟
فيكون المعنى : فما الذي يجعلك تكذب أيها الإنسان بالدين , أو فلا يكذبك بعد أيها الرسول أحد بالدين ! والذي يرجحه السياق والواقع ومجرى السورة من أولها إلى هنا وكذلك الآية التالية هو أن المخاطب في هذه الآية هو الإنسان وليس الرسول الكريم ,

فبعد أن أقسم الله تعالى على ما شاء وقدم لذلك من الأدلة والتي هي أقسام ما شاء , يقول مخاطبا الإنسان : فما يكذبك بعد بالدين , أي ما الذي يجعلك تكذب بالدين بعد ما ذكرنا لك , فلقد قلنا لك أننا خلقناك وأنك مخلوق في أحسن صورة وأنك بهذا الخلق معد لامتحان واختبار سنحاسبك عليه , إن خيرا فخير وإن شرا فشر ولن نظلمك , وأن كل الخواطر التي في ذهنك هباء منثور ,
فمن يفعل هذا كله من حقه أن يُعبد , فيرسل للناس الرسل ويجعل لهم دينا يسيرون على هداه , ينظم لهم حياتهم ويعرفهم بربهم وكيف يتقربون إليه . ” أليس الله بأحكم الحاكمين ” ألست تقر أيها الإنسان أن الله تعالى أحكم الحاكمين , فلم تتعجب إذا أرسل لك الرسل ودعاك إلى عبادته ؟ أفي هذا الفعل عجب ؟ فإذا كانت إجابتك ببلى وهي حتما كذلك , فلا تكذب بالدين وانظر ما فيه وستؤمن إن لم يكن في قلبك عجب .
( ومن الممكن القول أن المخاطب إشارة وتعريضا في هذه الآية هو المؤمن من أهل الكتاب الذي لم يؤمن بالرسول فعرض الله تعالى له في أول السورة ارتباط الأنبياء وذكره بالنبوات والنبؤات الواردة في حق الرسول ثم قال له : ما يكذبك بالإسلام في شكله الأخير على يد محمد ؟ )

وكما قلنا سابقا ونعيد هنا : إن القرآن في كل خطابه لم يخاطب أبدا صراحة الملاحدة الذين لا يقرون بوجود إله , نعم هو يخاطبهم ضمنا ولكن ليس مباشرة , لأن الفكر الإلحادي فكر ساقط غير منطقي لا يستحق المناقشة لذلك اكتفى القرآن دوما بعرض دلائل الوحدانية والتذكر بكمالات الله عزوجل, أما أن يحاول إثبات الله تعالى ابتداءا فهذا ما لم يفعله القرآن ولا ينبغي لأحد فهذا الأمر ( وجود الإله ) من البديهيات العقلية التي لاينتطح فيها عنزان ( ويفعلها الملاحدة العباقرة ! ) .

فانظر أخي في الله إلى هذا العرض البديع الذي تعرض لهذه المسألة ورد على شكوك الإنسان ودعاويه بخصوص المسألة الإلهية وعلاقتها بالإنسان وكيف أنه دعاه إلى ترك التكذيب لأن الله أحكم الحاكمين ثم أمره في السورة التالية قائلا : ” اقرأ باسم ربك الذي خلق ” فاقرأ كتاب ربك الذي جاءك بالدين وستعلم أنك من الغافلين الذاهلين بتكذيبك فسترى في هذا الكتاب حكمة أحكم الحاكمين الذي خلق فسوى وقدر فهدى وعلم بالقلم .

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

حول إنكار العقل الغربي ل “النظام الكبير”!!!

في إحدى اللقاءات المطولة على اليوتيوب عن اللغة وفلسفتها، ذكر المتحدث رأي دو سوسير، القائل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.