اتصال جزء عم!

تدور سورة عم في فلك نقطة واحدة وهي يوم الفصل في اليوم الآخر! فتعرض له من زوايا عدة, لتجيب الأسئلة المتعلقة بهذا اليوم وتوضح ما يكون فيه! ويمكن القول أن عناصر هذا الموضوع هي: عرض الاختلاف حوله, التدليل عليه, ذكر مآل الناس فيه, الإنذار بوقوعه, وكلها تدور في فلك النقطة نفسها!

واتصال سورة النبأ بالمرسلات واضح جلي, فسورة المرسلات تناولت يوم الفصل من زوايا وتكمل سورة النبأ هذا التناول, فتعرض لهذا اليوم من زوايا مغايرة!
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ

تبدأ السورة بعرض موقف غير المسلمين من نبأ عظيم, وصل إلى الناس بالقرآن, فما هو هذا النبأ العظيم؟ يظهر من خلال السورة والسورة الماضية
أن النبأ العظيم هو الحساب والفصل بين المؤمنين والكافرين, وأن هؤلاء يصيرون إلى النعيم وأولئك إلى الجحيم, وكيفية هذا الفصل! ويختلف الناس في هذا النبأ, فمن منكر لوقوعه إنكارا تاما, رافضا للبعث وما بعده, ومن ظان شاك, ومن قائل ببعث الأرواح دون الأبدان, وأن النعيم والعقاب روحيان, ومن قائل بوجود شفعاء دون الله, سيدخلونهم الجنة ويرفعون عنهم العذاب!

كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ فيوضح الله عزوجل أن هذا الخلاف مرفوع, وسيعلم المختلفون حقيقة وصدق ما جاء في هذا النبأ, وسيتكرر هذا العلم مرة أخرى, فسيعلمون في الدنيا من خلال القرآن وبالأدلة الكثيرات المنصوبة على وقوع هذا الفصل, وأهم دليل على ذلك هو دليل العناية والغائية في الكون.

فلم يخلق الله كل هذا الكون ويسخره للإنسان عبثا, وإنما جعله مسرحا لاختبار الإنسان, فإما إلى الجزاء الحسن وإما إلى العذاب العدل! فيبدأ الله تعالى بعرض الأدلة الجلية على العناية والغائية في خلق الكون, والتي تحتم أن يكون لخلق الإنسان غاية, وإلا يستحيل الأمر إلى عبث وباطل: “وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِأَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ” , وهو محال على الله تعالى:

“ألَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا”
فلقد مهد الله الأرض للإنسان ليتمكن من المعيش فيها بيسر, وجعل الجبال أوتادا وخلقنا أزواجا, ليستمر التكاثر باتصال واحتياج إلى الغير, وجعل النوم قطعا لأعمالنا وراحة لأبداننا, وجعل الليل سترا لنا والنهار معاشا. وجعل الشمس التي تمدنا بالحرارة وأنزل لنا الماء ليخرج به نباتا يأكل منه الإنسان والأنعام والدواب التي لسنا لها برازقين!
أفلا يدل هذا النظام المعد مسبقا على غاية منه, أم أن الأمر كله عبث في عبث!

فإذا أصر الإنسان على الرفض والتمسك بموقفه, فسيأتيه العلم الأخير الذي لا ينفع معه أي جدال, وهو علم المشاهدة, عندما يشاهد ذلك في اليوم الآخر:


إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا
فهذا اليوم ميقات وقوع ما جاء في النبأ, فانتظروا أيها الناس وقت حلوله! ثم تأتي الآية التالية فتوضح متى يكون هذا اليوم:
يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا …… يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لّا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا 

ففي هذا اليوم يحدث الفصل بين المؤمنين والمختلفين في النبأ العظيم, وفي هذا اليوم تكون جهنم مرصادا للطاغين ومرجعا لهم, فلن ينقلبوا إلا إليها, وهناك يلاقون العذاب الشديد, من ماء شديد الحراة منصب عليهم, جزاءا عادلا لما اقترفت أيديهم:

إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلطَّاغِينَ مَآبًا لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا لّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا جَزَاء وِفَاقًا 
فلقد رضي هؤلاء بالدنيا وكرهوا أن يكون هناك حساب أو عذاب, ولذا كذبوا بالآيات, على الرغم من عدم وجود أي مستند لهم في تكذيبهم إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى! فأبوا فسجل الله عليهم أعمالهم وجازاهم بها في الآخرة:

إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا
وبعد أن عرض منقلب ومرجع الطاغين يذكر مآل ومآب المتقين, فيقول: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا وَكَأْسًا دِهَاقًا لّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا


فمآل المتقين غير منقلب الكافرين, فهؤلاء في جنات وعيون ونعيم مقيم, وهذا جزاء من الله وعطاء, وليس وفاقا, كما حدث مع الطاغين, وإنما هو عطاء من الله, ذلك الإله العظيم الذي أعد الكون كله وسخره للإنسان, ليؤدي رسالته:
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لّا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا

ففي ذلك اليوم لا يتكلم أحد ولا يشفع إلا بإذن الله “من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه”, فالأمر كله في هذا اليوم لله! لذا فعلى الإنسان أن يتخذ العدة لهذا اليوم الحق, الذي دلت عليه الأدلة الكثيرات, ويتخذ الموقف المناسب منه, حتى يجد المآب الحسن عند الله, فلا تهاون في هذا اليوم, فهو يوم الحسرة والندامة:

ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًاإِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنت تُرَابا

وكما رأينا فلقد عرضت سورة المرسلات ليوم الفصل, وذكرت بعض ما يحدث فيه, والخطاب الموجه إلى الكافرين, وجاءت سورة النبأ فعرضت الاختلاف حوله, ودللت على بطلان هذا الاختلاف. ثم قامت بعرض المستقر النهائي للفريقين, فأكملت صورة الموقف الذي عرضته المرسلات, فعرضت الموقف النهائي,

كما فندت دعاوى بخصوص هيئة هذا اليوم, لم تعرض لها المرسلات, فنفت الشفاعة إلا بإذن الله, وردت على الروحانيين مبينة أن النعيم والعقاب ماديين, وختمت بالإنذار بالعذاب!

وكما خُتمت هذه السورة بالإنذار بالعذاب, تبدأ السورة التالية بمشهد نزول العذاب بالمكذبين, وهذا ما سنبينه بإذن الله مع السورة القادمة!

تدور سورة النازعات في فلك عنصر واحد وهو الإنذار بإنزال العذاب, فتبدأ بعرض مشهد إنزال العذاب بالمكذبين وحالهم عند نزوله, ثم تذكر سببه ونموذجا لوقوعه في الدنيا بفرعون, ثم توضح أن الإنسان مهما عظمت قوته هو أضعف من السماء والأرض, والتي هي عنصر إهلاكه!

ثم يكون الفصل في اليوم الآخر إما إلى عذاب أو نعيم, وهذا العذاب لا يعلم ميعاده إلا الله تعالى, فليس لأي أحد آخر به علم حتى ولو كان الرسول, فهو فقط منذر.

وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ
انتهت سورة النبأ بالإنذار بعذاب قريب, يقع في يوم الفصل, وتبدأ سورة النازعات بذكر عذاب آخر, كعادة القرآن بذكر الدليل الدنيوي المشاهد كتدليل على وقوع الغيب, فتبدأ سورة النازعات بعرض مشهد الملائكة عند إنزال العذاب بالأقوام المكذبين, وهذا العذاب التي تنزله الملائكة ليس عذابا غير طبيعي, وإنما هو من الأرض

فالعذاب إما يكون بالماء الفائض أو بالريح العاصف أو بالصواعق المدمرة, أو بالزلزلة والخسف, ولا تظهر الملائكة فيه, وإنما يوقع كله بالطبيعة المحيطة. -ولقد فصلنا في غير هذا الموضع على موقعنا, لم قلنا أن هذا المشهد هو في إنزال العذاب, فمن أراد التوسع فليرجع إليه

تعرض السورة بعد ذلك حال المعذبين عند نزول العذاب بهم, وترد على المشككين في جدوى البعث وتبين أنه لا يكلف شيئا ولا يصعب على الله, فإنما هي صيحة واحدة فيصير الناس في أرض المحشر: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌأَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ

ثم تبدأ السورة بعد ذلك في ذكر نموذج على إنزال العذاب, وهو فرعون المتجبر, وسبب نزوله, فسبب نزول العذاب هو مجيء الرسول وتكذيب القوم والركون إلى الدنيا والاغترار بالقوة, فلا ينفع من هذا شيء, فيأتي العذاب فيهلك المكذبون مهما كانت قوتهم:هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى

فالإنسان مهما عظمت قوته فهو أضعف من السماء والأرض, الذين خلقهما الله تعالى وأعدهما وهيئهما كمتاع للإنسان: أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَارَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَاوَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَاوَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَاأَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَاوَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ

ولكن قد ينقلب الحال, وتصير السماء والأرض أداة عذاب الإنسان في الدنيا.
ثم توضح السورة حال الناس عند مجيء الطامة الكبرى, ونلاحظ النعت هنا ب الكبرى, وذلك تمييزا لها عن الطامة الصغرى التي تحدث في الدنيا, وهي العذاب الدنيوي, الذي ينزل بالمكذبين والذي ذُكر طرف منه في أول السورة, فهناك يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى, فيتمنى العودة ولكن ما من مرجع, فالسوق إما إلى الجحيم أو إلى النعيم:

فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى

وكما بدأت سورة النبأ بالحديث عن التساؤل, تختم سورة النازعات بذكر سؤال المكذبين للرسول وبالرد عليهم, وكما ختمت سورة النبأ بالإنذار “إنا أنذرناكم”, تختم سورة النازعات بتبيين دور الرسول وأنه منذر, وكما ختمت النبأ بنفي الشفاعة عن الملائكة إلا بإذن الله, تختم السورة هنا بنفي معرفة الرسول بميعاد مرسى الساعة. وكما ختمت سورة النبأ بذكر موقف الناس عند الفصل “يوم ينظر المرء ما قدمت يداه …….”,

كذلك تختم السورة هنا بعرض حال المكذبين, وأنهم عندما يرون الطامة الكبرى لم يمكثوا في الدنيا إلا أقل القليل, فلم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها, فلا خير في طغيان أو متعة قصر وقته إلى هذه الدرجة:
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَافِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَاإِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّاعَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا

تدور سورة عبس في فلك المنذِر والمنذَر, فهي توضح دور المنذِر, وحال المنذَر العجيب قبالة هذا الإنذار, وكيف أن نتيجته في يوم الفصل تكون تبعا لاستجابة الإنسان للإنذار, فلن ينفع أحد ولن ينفعه أحد.

انتهت سورة النازعات بتوضيح دور الرسول وهو أنه منذر من يخشى الساعة, وتبدأ سورة عبس بذكر حال داع من الدعاة إلى الله, عبس وتولى أن جاءه الأعمى!

وليس الرسول هو العابس, ولقد بينا على صفحات هذا الموقع في مقال آخر هذه المسألة- وهذا السلوك لا يُقبل من الدعاة المنذرين! فيتضايق الرسول الكريم منه, فتأتي الآيات لتوضح له أن الداعية المنذر يجب أن يتقبل أخطاء أتباعه, فلربما كان فيهم خير ولربما يستجيبون لدعوته, وخاصة إذا كان يخشى الساعة والفصل “إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا”, فلا يعرض عنهم لغلطهم ويتصدر لمن استغنى عنه:

عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى

ثم توضح الآيات أن الساعة هي تذكرة, ونقطة فاصلة في سلوك وتصرف الإنسان, فمن شاء ذكر هذا “النبأ العظيم” الذي جاء ذكره في سورة النبأ والنازعات واستكمل هنا في عبس! وهي نقطة مذكورة في صحف مكرمة: كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ

ثم تحتج الآيات على كفر الإنسان, فليس له أي مبرر لكفره هذا, ولإعراضه عن المنذر, فلقد أنشأه الله من نطفة وأعد له العدة للحياة, من أجل اختبار أُمد فيه بسبل النجاح, وستنتهي حياته فيموت ويقبر ثم إذا شاء الله أنشره. ويظهر السؤال التقليدي: متى؟ فتأتي الإجابة: لما يقض الله تعالى هذا الأمر: قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُمِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُمِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ

ولكن الدافع إلى الكفر والإعراض هو الاغترار بالنفس وبالأهل, ومجاراتهم في أهوائهم.
وكما دفعت سورة النازعات الإنسان إلى النظر فيما حوله, تأمر سورة عبس الإنسان بالنظر إلى أول ما يقيم به حياته, وهو الطعام, ويسأل نفسه: كيف أعد وكيف تيسر بهذه الطرق المناسبة له وللأنعام أيضا؟ وهنا يتكرر الاستدلال بدليل العناية, ولكن البشر معرضون!

فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (انظر الآية وسياقها في النازعات!)

وكما انتقل في سورة النازعات بعد الحديث عن خلق السماوات والأرض إلى الحديث عن الطامة, انتقل هنا بعد الأمر بالنظر إلى الطعام إلى الحديث عن الصاخة, والصاخة صوت شديد يقرع الأسماع, ولأن الحديث في مطلع النازعات كان عن عذاب مصغر ناسب الحديث عن طامة كبرى

ولأن الحديث في عبس عن منذر وآيات وإعراض من الإنسان, ناسب الحديث عن صاخة لا إعراض عنها, وإنما الإعراض عن الآخرين من الأهل والأقارب, حيث ينشغل كل بحاله:

فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ

وفي هذا اليوم ينقسم الناس إلى فريقين, الفريق الذي استجاب والفريق الذي أعرض عن سماع كلمة الله, ويظهر آثار ذلك على وجوههم, وكما ختمت سورة النازعات بالحديث عن حال الناس يوم يرونها, تختم سورة عبس بذكر الموقف التالي لهذا الموقف وهو ابيضاض الوجوه واسوداد أخرى

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ.
وفي آخر السورة يبدأ الحديث عن الكفرة الفجرة, والذين سنشاهدهم مرارا في هذا الجزء!

تدور سورة التكوير في فلك المنذَر والمنذِر (الرسول والكتاب), فهي تعرف المنذَر بحاله في يوم الفصل, كما تعرف بالمنذِر ودوره (الرسول والكتاب), فليس الكتاب من عند محمد ولا من عند الشياطين, وإنما هو قول رسول كريم, ودوره هو الذكر.

انتهت سورة عبس بالحديث عن الصاخة وعن حال الناس فيها, وتبدأ سورة التكوير بنفس المشهد, فالمشهد المذكور في أول السورة هو تفصيل الصاخة,

 فإذا جاءت الصاخة ….. إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)

فإذا حدث المذكورات الإثنى عشر من تكوير الشمس وانكدار النجوم وتسيير الجبال وتعطيل العشار وحشر الوحوش وتسجير البحار وتزويج النفوس وسؤل الموءودة ونشر الصحف وكشط السماء وتسعير الجحيم (لاحظ الشبه بين سجر وسعر مبنى ومعنى) وإزلاف الجنة, هناك علمت نفس ما أحضرت
.
-ليس المراد من نفس نفسا واحدة, وإنما المقصود منها جنس النفوس وليس المفرد: “يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود : 105]”, واستعمل التنكير المفرد ليفيد أن أي نفس مهما كانت صغيرة أو حقيرة ستعلم, وأن هذا العلم سيحدث لكل واحد منهم بمفرده, وذلك كما في قوله جل وعلى: “وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء : 47]”-

وبعد أن عرضت السورة حال المظاهر الكونية وتغيرها في يوم الفصل, تعود وتستخدم بعض هذه المظاهر كتدليل على وجود هذا الغيب:

فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)
فتُقدم الدليل على الغيب وعلى وقوع النبؤات المذكورة في السورة من خلال النجوم التي تظهر وتختفي, ولا يعني اختفائها أنها غير موجودة, وكذلك بالليل والنهار, اللذين يتخالفان, فإذا كان التغير في الكون واقع جزءا فما المانع من وقوعه كلا؟!

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)

فالقرآن الكريم قول جبريل عليه السلام ولكنه ليس كلامه, فهو كلام الله! وجبريل عليه السلام, الذي يأتي بالوحي له قوة ومكانة عند ذي العرش:

ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)
كما أنه له مكانة ومرتبة بين الملائكة, فهو مطاع وأمين على الوحي.
مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)
ثم تنتقل الآيات للحديث عن النبي الكريم, مستقبل هذا الوحي, فما هو بمجنون ولا متلاعب بالوحي, وإنما يبلغه كما هو فلا يكتم منه شيئا:

وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25)

فليس لكم أيها الناس مفر أو حجة في ترك آياته, ولكن هذا كله لمن لم يغلق قلبه:
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)

تدور سورة الانفطار في فلك مقارب لسورة التكوير, فهي تدور في فلك المنذَر, ولكن من زاوية مغايرة وهي زاوية الغفلة والاغترار, والإحاطة من الله عزوجل, وكيف أن هذه الغفلة ليس لها ما يبررها وأنها سترفع يوم الدين, يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وعمل قويم.

انتهت سورة التكوير بالحديث عن إحاطة الله عزوجل بالبشر, وكيف أن كتابه لم يترك لهم أي حجة, ولكنه نافع فقط لمن يشاء الاستقامة, وكل إنسان بالخيار في عمله بعد ذلك في الدنيا فإما يستقيم وإما لا

أما في الآخرة فليس هناك خيار. ثم تبدأ سورة الانفطار بالحديث عن مظاهر لليوم الآخر, -ويمكن القول أن هذه السورة كسابقتها تفصيل لقوله تعالى: “فإذا جاءت الصاخة” المذكور في سورة عبس!, وأنها تعرض لموقف آخر غير المذكور في التكوير-, فهناك يعرف الإنسان ما قدم وما أخر, اغترارا بنفسه وبعلمه!
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)

ثم تخاطب السورة ذلك الإنسان المغتر, فتبين له أنه محاط بالعجز والقصور في كل جوانب حياته, فهو مخلوق مصور بقدرة الله, فما مبرر الغرور, الذي يؤدي به إلى عدم الاستقامة؟!
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)

ثم تبين السورة المبرر الرئيس لعدم استقامة الناس وهو التكذيب بالدينونة, فالناس يظنون أنهم لا يبعثون مرة أخرى, فيحاسبون على أعمالهم, ويظنون أنها أيام تنقضي وتمر وتنتهي الحياة بذلك, فيبين الله عزوجل أن الإنسان غافل وأنه محيط به, فهناك كرام كاتبون يسجلون أفعاله في الدنيا, فلا يخفى عليهم من عمله شيء:
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)

وليس هذا التسجيل عبثا وإنما لحكمة مذكورة في أول السورة, وهي أن يعلم الإنسان بنفسه في ذلك اليوم ما قدم وأخر, وبذلك يصبح على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره, وبناءا على عمله المسجل عليه وليس شيئا آخر يكون حال الإنسان في ذلك اليوم, فالأبرار في نعيم دائم والفجار في جحيم غير منقطع:

إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16)
وفي الآيات إشارة إلى أن الفجار في جحيم في الدنيا, ثم يذوقون الجحيم الحقيق في يوم الدين!

وهذا اليوم ليس يوما هينا ولا كأيام الدنيا, وتخيل كما شئت فهو أعلى من كل خيالاتك, ففي هذا اليوم الأمر كله لله:
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)

وكما انتهت سورة التكوير بالحديث عن عجز الإنسان وإحاطة الرحمن: “فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ …….”, تنتهي سورة الانفطار بنفس المعنى؛ وهو أن الإنسان الذي قد ينفع ويضر في الدنيا –داخلا في دائرة مشيئة الله وليس مستقلا عنها- يصبح عاجزا تماما في ذلك اليوم, فلا يملك لنفسه أو لغيره في الآخرة شيئا والأمر كله يومئذ لله!

يبدء تقسيم الناس في هذه السورة إلى أبرار وفجرة, وهذا ما سنتابعه ونلاحظه في سور قادمة!

تدور سورة المطففين في فلك نزول الجزاء الموعود في السور السابقة بالمنذَر المكذب الغافل وكذلك المؤمن.

انتهت سورة الانفطار بالحديث عن نفي تملك البشر للنفع في اليوم الآخر, وتفرد الله عزوجل به, ثم تبدأ هذه السورة بالحديث عن حال نموذج للمكذبين في ذلك اليوم, وهم المطففون, مؤكدة على وقوعه من مالك الأمر كله:
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)

وتعجب من فعل هؤلاء, الذين يظنون أنهم لا يبعثون! أو يظن بعضهم أنه يبعث وعلى الرغم من ذلك يفعل ما يفعله من غش الناس وتفضيل ذاته عليهم!:
أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)

وهذه النقطة هي التي توضح لم خُص المطففون بالذكر في مطلع هذه السورة, دوناً عن غيرهم من أصناف العصاة, وذلك لأن المطفف يعطي لنفسه مزايا وحقوق لا يراها لغيره, لذلك فهو يستوفي لنفسه ويُنقص غيره بدون أي سند عقلي إلا عجبه وغروره,

وكذلك الإنسان المكذب بالبعث لا مستند له في فعله هذا إلا إعجابه بتبريرات عقله!, وظنه أنه حتى لو بُعث فسيكون استثناءا لما له من منزلة عند الله: “وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً [الكهف : 36]”!

كما أنه على النقيض تماما من الشفيع, الذي قد يملك لإخوانه شيء في الدنيا, والمنفي تماما في اليوم الآخر, “يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا” فالشفيع يتحرك من أجل الآخرين ويوصل لهم أكثر مما يستحقون, أما المطفف فهو ينقص الآخرين ويستوفي لنفسه!

ثم تبين السورة حال كتاب هؤلاء, الذي كتبه الحافظون الكرام الكاتبون (في سورة الانفطار) وكيف أن مآله إلى الضيق والسجن وأي سجن!, وهو كتاب صادق ناطق بما قالوا وفعلوا فلا يزيد ولا ينقص:
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)
ونلحظ هنا استمرار التقسيم: “فجار وأبرار” والذي بدأ في السورة الماضية!

ثم تنتقل السورة بعد الحديث عن هذا الصنف الخاص إلى الحديث عن المكذبين عامة والرافضين للدين:
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)

وكانت سورة الانفطار قد ذكرت سبب اغترار الإنسان بربه الكريم, وهو: “كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ”, وهنا تفصل من هو المكذب, فهو المعتدي الإثيم, وتذكر نموذجا لتكذيبه بما لا برهان له في رده, وذلك بقوله: أساطير الأولين! وتذكر سبب هذا, وهو أعمالهم التي رانت على قلوبهم, فما عادوا يرون إلا إياها!

لذلك فهم يستحقون لعماهم في الدنيا أن يُحجبوا عن الله في اليوم الآخر, فلا ينظر إليهم ولا يكلمهم! ثم يصلوا الجحيم:
كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)

وكان الله تعالى قد توعدهم في سورة الانفطار, فقال: “وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ”, فبين هنا أنهم صالوها وسيبكتون جراء تكذيبهم به!

وكعادة القرآن انتقل للحديث عن الصنف المقابل, وهو الأبرار, فبين أولا اختلاف حال كتابهم, المحتوي على الخير عن حال كتاب الفجار, فقال:
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)

وكان الله تعالى قد قال في سورة الانفطار: “إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ”ولم يزد عن هذا, ففصل في هذه السورة, وذكر بعض مظاهر هذا النعيم, فقال:
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ

ونلحظ هنا ظهور الصنف الثالث “المقربون” والذي ذكره الله سابقا في سورة الواقعة, وهوالمقربون!

ثم تُختم السورة بالتذكير بانقلاب حال الأبرار والفجار في الآخرة, فبعد أن كان الفجار يضحكون منهم ويستهزءون بهم ويرمونهم بالضلال لإيمانهم بالله وباليوم الآخر, أصبح الأبرار في رخاء واستقرار, وهم الذين يضحكون من الكفار, فلم ينفع الكافرين فعلهم وإنما عاد عليهم بالضر والهوان!

(28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)

تدور سورة الانشقاق في فلك موضوع واحد, وهو قدرة الله على إعادة الإنسان في اليوم الآخر لمجازاته.

انتهت سورة المطففين بقوله تعالى: “هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)“, ثم
تكمل سورة الانشقاق المشهد, فتقول:
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)

أي هل جوزي الكفار في ذلك اليوم, إذا السماء انشقت وأذنت وحُقت …. عندما يقع التغيير الكوني الكبير, الذي سيكون في ذلك اليوم؟

وتكمل السورة وتعطينا الإجابة, وكيف أن حالهم ينقلب, كما تغير الكون كله.

والآيات المذكورة هي أول إشارة إلى قدرة الله تعالى على بعث الإنسان المكذب بيوم الدين, فالله يتحدث عن انشقاق السماء ومد الأرض وإلقائها ما فيها, ثم عودتهما إلى ما كانا عليه بأمر الله, فإذا كان هذا سيحدث مع هذه الأجرام العظيمة, أفلا يقدر الله تعالى على تركيب الإنسان مرة أخرى وبعثه؟!

ثم تبدأ السورة في مخاطبة الإنسان الذي غُر بربه الكريم,
(نلاحظ أن هذه التركيبة: يا أيها الإنسان, لم ترد في القرآن كله إلا في سورة الانفطار وهنا في سورة الانشقاق) فتوضح له حاله في الدنيا ومآله في الأخرة, فالدنيا كدح لا محالة, ولكن في أي صنف من صنوف الكادحين أنت؟ هل من المؤمنين أم المكذبين؟ فلكل صنف جزاء مخصوص:

يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)

ونلحظ أن هذه الآيات تكمل المشهد المذكور في آخر سورة المطففين:
“إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31)

فالكفار كانوا يضحكون من المؤمنين, وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين[1], ففي الآحرة المؤمن هو من ينقلب إلى أهله مسرورا, أما هم فسيدعون ثبورا ويصلون سعيرا.

إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)

فتبين الآيات سببا رئيسا للتكذيب بيوم الدين, وهو رضى الإنسان بدنياه وسروره بها وعدم رغبته في التفكر فيما بعد ذلك! وكذلك ظنه أنه لن يحور أي أن لن يعود إنسانا بعدما صار ترابا!

والتحور معروف ونحن نستعمله في لغتنا المعاصرة, فنستعمله مثلا عندما نريد الحديث عن انتقال كائن حي من حالة إلى أخرى, كما نرى في الديدان التي تتحول إلى فراشات!- , ثم ترد على هذا الوهم بقولها أن ربه كان به بصيرا, فهو محاط به في الدنيا والآخرة, فكيف لا يقدر الله على بعثه مرة أخرى؟!

ثم تبدأ السورة في عرض بعض المشاهد للتغير التي يراها الإنسان في حياته, وكيف أنها تختفي ثم تعود إلى ما كانت عليه, كدليل على نبوءة ستقع في مقتبل الزمان وهو أننا سنركب السماء, –وهو ما حدث في زماننا, فطرنا في سماء الأرض, ثم صعدنا في الفضاء, ثم ارتدنا الكواكب وهكذا-

فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)

فإذا وصل التغير إلى أن الإنسان سيطير في السماء ويرتاد الفضاء, وهو ما كان يعده من ضروب المستحيلات في الماضي, فما له لا يؤمن؟ وإذا كان القرآن قد أخبر بهذا مسبقا, فما له لا يسجد ويخضع؟!

فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)

ثم تبين الآيات أن المسألة مسألة تكذيب لا يستند إلى دليل, وإنما رفض للمعروض في القرآن, على الرغم من بينة القرآن البينة! والله أعلم بما في صدور المكذبين, فليس الحساب اليسير أو العسير مستندا إلى الظاهر من أفعال الإنسان, وإنما إلى الظاهر والباطن:

بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23)
ولقد انتهت سورة المطففين بالسؤال: “هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ”, وتنتهي هذه السورة بأمر النبي والمؤمنين بالإجابة عن هذا السؤال, بتبشيرهم بالعذاب الأليم, إلا من آمن منهم وعمل صالحا:

فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
ولأن الكفار كانوا يضحكون من المؤمنين ويتغامزون بهم, رد الله لهم الصاع وأمر النبي بأن يبشرهم بعذاب أليم!

تدور سورة البروج في فلك انتصار الله عزوجل لدينه ولعباده في الدنيا والآخرة.

انتهت سورة الانشقاق بتبشير الكفار بالعذاب الأليم, وتبدأ سورة البروج بالحديث عن هلاك طائفة من هؤلاء الكافرين, وهم الذين عذبوا المؤمنين لإيمانهم, ثم تفصل العذاب الأليم الذي سينزل بهم, فتبين أنه عذاب جهنم وعذاب الحريق!

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)

ونلحظ أن سورة البروج بدأت بالقسم بالسماء ذات البروج–كما بدأت السورة الماضية بالحديث عن السماء كذلك-, والسماء هي محل الاستدلالات في السورة الماضية: 

“فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ”, فكل هذه المشاهد في السماء.

فأقسم الله بالسماء واليوم الموعود الذي سيلاقي كل إنسان فيه كدحه, إما خيرا وإما شرا, وشاهد من الملائكة ومشهود من الناس, أو شاهد من المؤمنين ومشهود من الكافرين! أن أصحاب الأخدود, الذين حاولوا رد الناس عن دينهم, هلكوا ولُعنوا, لأنهم عذبوا المؤمنين وفتنوهم لإيمانهم بالله, الذي له ملك السماوات والأرض.
ونلحظ أن سورة المطففين بدأت بالحديث عن صنف ينقص الناس حقوقهم المادية ويستوفي لنفسه, وهنا السورة تتحدث عن صنف يمنع الناس حقوقهم العقلية والفكرية, فيجبرهم على الردة وترك الإيمان!

ثم تبين السورة حال المعذِبين الكافرين الفاجرين, وحال المؤمنين الصالحين في اليوم الموعود, فتقول:

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
فقد انقلب الحال, فأصبح هؤلاء في النار وهؤلاء في جنات تجري من تحتها الأنهار!

ثم تصل السورة إلى محورها الرئيس, فتقول:
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)

فتبين أن الله ينتصر لعباده ولدينه فيبطش بالكافرين المناوئين, وإن لم يكن في الدنيا فهو في الآخرة, فهو يبدئ ويعيد (ردا على الإنسان الذي ظن أنه لن يحور!)

فمن يبدئ يعيد! وعلى الرغم من بطشه فهو غفور ودود لمن تاب وأناب, لا يرده شيء عما يريد, فله ملك السماوات والأرض, ولقد بطش الله بمن طغى وتجبر فيما مضى كما فعل بفرعون ذي الأوتاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وبطشوا بالعباد!

ونلاحظ أن الله تعالى قال قبل أن تنتهي سورة الانشقاق بآيتين: 

“بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23)-, وقال هنا كذلك في سورة البروج:”بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20)”

فلما تحدث في الانشقاق عن فعل التكذيب, قال أنه أعلم بما يوعون في صدورهم, فلا يخفى عليه شيء, أما هنا فقال أنهم هم أنفسهم في تكذيب, فهم في غمرة, وهو من ورائهم محيط فلا يمتنعون هم أنفسهم منه, فمتى أراد البطش بهم كان ذلك!

ثم يقول الله تعالى ردا على من يكذب بالقرآن وبأخباره, وبمن لا يؤمن به وإذا قُرأ عليه لا يسجد, وبمن يعذب المؤمنين ويضطهدهم, أن الكتاب مجيد محفوظ, لا يمسه الأذى أو الإهانة ولو نزلت بالمؤمنين, فهو ظاهر بإذن الله على الدين كله:

بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)

تدور سورة الطارق في فلك حفظ الله التام للبشر, ولكل ما يصدر عنهم.

تبدأ سورة الطارق بقوله تعالى: “وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)
ولقد انتهت السورة الماضية بالحديث عن اللوح المحفوظ, وتبدأ هذه السورة بالحديث عن السقف المحفوظ وهو السماء, وبأظهر نجم في السماء وهو الشعرى –كما نرى والله أعلم-, كدليل على وجود حافظ على كل نفس, يحفظها ويحفظ عليها أعمالها.

والله عزوجل يقدم لنا السماء والطارق كنموذج مشابه للإنسان والحافظ, فالملاك الحافظ للإنسان محيط به ومطلع عليه , وأينما ذهب وولى فالملاك عليه حافظ, وكذلك الطارق في السماء فمهما شرق أو غرب أو تحرك فالسماء محيطة به شاهدة عليه وهو تابع لها وخاضع في عين الوقت

وكما أن الطارق طارق, قد يظهر ويختفي عن عيوننا –ولكنه يبقى في السماء- فكذلك الإنسان طارق على الملاك الحافظ, فالملاك موجود قبل الإنسان ومعه وعليه, فإذا غاب الإنسان –مات- يظل الملاك كما هو, حافظا لكل ما صدر عن الإنسان.

ثم يدعو الله عزوجل الإنسان إلى النظر في مظاهر الحفظ المحيطة به, منذ بدء تكوينه وطيلة حياته, فهو محاط بالعجز والاحتياج إلى الغير:

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)

ثم يبين له أن الملاك الحافظ عليه قادر على إحضار أعماله في موقف الحساب, وهناك لا قوة له ولا ناصر يعين:

إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)
|
ثم يقسم الله عزوجل بالسماء ذات المطر والأرض ذات الصدع أن مسألة الحفظ التامة قول فصل وليست بالهزل, فالإنسان سيرى أعماله كاملة في ذلك الموقف كما اقترفها في الدنيا

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)

ثم يبين الله عزوجل أنه يكيد كيدا مقابل لكيد الكافرين لإبطال الدين, -والذي رأينا نموذجا منه في السورة الماضية بتحريق المؤمنين وفتنتهم عن دينهم-, وكيده هو إبطال كيدهم وحفظ دينه ونبيه ونصرته, ولكن هذا لن يحدث بين ليلة وضحاها:
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)

تدور سورة الأعلى في فلك أهمية ذكر الله عزوجل وربط الإنسان قلبه به. وتأتي هذه السورة كنتيجة للسورة الماضية, التي توعد الله فيها بحفظ الدين والرسول, فيؤمر ويرشد مقابل ذلك بتسبيح الله الذي ينجز ما وعد به!

انتهت سورة الأعلى بأمر الرسول أن يمهل الكافرين, -لاحظ أنه هو الذي يمهل الكافرين, فهو الذي يتحرك من منطلق القوة, لاستناده إلى حفظ الله وانتصاره له-, وتبدأ هذه السورة بأمره بتسبيح ربه الأعلى, الذي يسير كل شيء في الكون تبعا لما شاء وأراد, فلا يحدث أي شيء إلا بإذنه:

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)

ولا يقتصر حفظ الله للرسول الكريم على حفظه المادي من أذى الكافرين, وإنما إلى حفظ قلبه, فيتابعه ويواليه حتى لا يغفل عن الله وعن ذكره وعن تنزيهه واتباع أوامره, ويوجهه إلى ما فيه اليسر والخير:

سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)

والنقطة التي وقع فيها المفسرون قاطبة هي قولهم أن الحديث هنا عن عدم نسيان القرآن! لذا اختلفوا هل المراد النفي, أي أن الرسول لن ينسى, أم النهي بمعنى أنه يؤمر بألا ينسى!!!!!

وليس المراد من نسيان الرسول أنه ينسى القرآن بمعنى أن يخطأ فيه, وإنما المقصود أن لا ينسى الله ولا وعوده ولا اليوم الآخر بمعنى أن لا يغفل عنهما, وهذا هو النسيان المذموم المقصود في القرآن, فالنسيان المتعارف عليه لا يعاقب عليه الإنسان, بل إنه مرفوع كما ورد في الحديث

وإنما النسيان المقصود هو الغفل عن الشيء!وبذلك يكون الرسول الكريم ذاكرا لله عزوجل دوما, إلا ما شاء الله له أن ينشغل فيه بالدنيا ظاهرا, وإن كان ذاكرا قلبا! لذلك جاء في آخر السورة: بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى!ويدلل على ذلك ما جاء في قوله تعالى:

فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ …. [الأنعام : 44]

َ…… فالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [الأعراف : 51]

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر : 19]

ثم يؤمر الرسول الكريم بالتذكير, فكما هو ذاكر ينبغي أن يضم باقي الناس تحت جناحه إلى حصن الله المتين:

فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
فمن استجاب للرسول واتبع فهو من الفالحين:
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)

ولكن المشكلة هي في إيثارنا الدنيا والتي تجعلنا ننسى الآخرة:
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)

ثم تختم السورة بضربة قاسية للذين يكيدون للدين, فتقول:
إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
فأنتم تكيدون للقضاء على رسالة محمد, فنرد عليكم بمقاطع من كتب أنبياء سابقين, فها هي تصل إلى الأجيال أبد الدهر, كإشارة إلى حفظ الدين من كيد المعتدين!

إذا كانت سورة الأعلى تكلمت عن التذكير, فإن سورة الغاشية تدور في فلك وقوع ما لا يُنسى أو يُغفل عنه!
وكما أن سورة الأعلى في الصحف الأولى, فكذلك الغاشية فيها, والله عزوجل يذكر النبي الكريم, فيقول له: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)

وكان الله تعالى قال في نهاية السورة الماضية: “بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)”, ويبدأ هنا بتفصيل كيف أن الآخرة خير وأبقى وكيف أنها هي ما ينبغي أن يشغل الإنسان به:

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)

ثم يدعو الله عزوجل الإنسان إلى النظر في بعض ما حوله, كدليل على وجود الخالق وعلى وقوع اليوم الآخر:
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)

وكما أمر الله عزوجل الرسول في سورة الأعلى, فقال له: “فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى”, يأمره هنا فيقول له:
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22)


فدور الرسول فقط هو التبليغ وليس له إجبار الناس على الإيمان, فإن تعمدوا النسيان فليس عليه أي حرج!
أما من أعرض وعاند وحارب الدين, فمرجعه إلى الله وحسابه عليه, ويا لها من غاشية:

إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)

تدور سورة الفجر في فلك إثبات أنه سبحانه وتعالى لبالمرصاد.
وكانت سورة الغاشية قد خُتمت بأمر الرسول بالتذكير وأنه ليس بمسيطر, “لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ”فافتتحت السورة بالحديث عن مظاهر سيطرة الله عزوجل على البشر والطبيعة, وكيف أنها أدوات عذابه للبشر. فابتدأت السورة بالحديث عن الفجر الذي يأتي ليزيح الظلام, وعن الليالي العشر التي عُذب فيها عاد وثمود وعن الشفع والوتر الذي أُهلك به فرعون وقومه, فكل هذه الآيات دليل على أن الله عزوجل مسيطر على عباده وهو لهم بالمرصاد.

وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)

وعلى الرغم من هذا كله, فالإنسان ينسى ويتعامل بمنطق مغلوط, ويتصرف على هذا الأساس:

فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
فيبين الله عزوجل للبشر أن نزول العذاب بهم في الدنيا أو الآخرة مستند إلى أعمالهم, فالله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون:

كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)

وكما هو لهم بالمرصاد في الدنيا فهو لهم كذلك في الآخرة:
وجزاء الدنيا جزاء جزئي, أما الحساب الكلي فيكون في اليوم الآخر, عندما يرجع الإنسان إلى ربه, فهناكيتذكر الإنسان ما نسيه في الدنيا, ولكن هنا لا تنفع الذكرى, فهي كانت تنفع في الدنيا –كما في سورة الأعلى- فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ, كما في السورة السابقة:

كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
أما النفس المطمئنة فترجع إلى ربها راضية مرضية فتنضم إلى مثيلاتها من الوجوه الناعمة, وتدخل الجنة:
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
ونلحظ في هذه السورة بدء الحديث عن اليتيم والمسكين والرزق.

تدور سورة البلد في فلك مصدر القوة الحقيق للإنسان.
وإذا كانت سورة الفجر قد تكلمت عن أن الله تعالى بالمرصاد, وأن الجزاء الذي ينزل بالناس في الدنيا والآخرة من جنس أعمالهم, فإن سورة البلد ترشد الإنسان إلى مصدر القوة الحقيق وإلى ما فيه الفلاح وتجنب العذاب, وهو الجماعة الكبيرة المؤمنة, التي يساند القوي فيها الضعيف!

وكانت سورة الفجر قد انتهت بالحديث عن النفس المطمئنة ودخولها الجنة, وتبدأ سورة البلد بنفي القسم بمكة, لأن أعظم نفس –محمد الرسول- مستباحة وغير مطمئنة فيها, فليست العبرة بالمباني والمشيدات وإنما العبرة بالإنسان, وكيف يُقدس المكان وفيه يهان الإنسان, فهذا أول عنصر في هلاك المجتمع في الدنيا والآخرة.

لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)

ثم تفند السورة مظان الإنسان المغتر بقوته الحقيرة, وتبين له أنه محاط بالعجز والحاجة إلى غيره في جميع مراحل حياته:
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)

ثم تعرض السورة المصدر الحقيقي للقوة وهو المجتمع المؤمن المتماسك, الذي يحمل القوي فيه الضعيف, حتى يزيل عنه ضعفه ويصبح عضوا فاعلا فيالبلد:

فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)

ونلحظ أن السورة خصت بالذكر: اليتيم والمسكين, وهما من ذكرا في سورة الفجر.

وليس هذا فقط هو سبيل القوة والفلاح وإنما التواصي بالصبر وبالمرحمة لازم حتمي, لأن الإنسان مخلوق في كبد!

ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)

تدور سورة الشمس في فلك فلاح من اتبع سبيل الفلاح وخسارة المخالف.
وكانت سورة البلد قد حثت الإنسان على بعض الأفعال, فتأتي سورة الشمس لتبين له أن الفلاح في تزكية النفس بإتيان سبل التزكية, -كما قال في سورة الأعلى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)- والخسران في تدسيتها:

وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
كما تبين له أن بذور الفجور والتقوى موجودة ابتداءا داخل الإنسان, وللإنسان والمجتمع الدور في التوجيه والسيطرة والإظهار.

وكما خُتمت سورة الفجر بالحديث عن شؤم الكافرين, تُختم سورة الشمس بذكر نموذج للشؤم الذي أحاق بالمكذبين الأقوياء, وهم قوم ثمود, الذين كذبوا الرسول وعقروا الناقة:

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)

وإذا كانت السورة السابقة قد ناقشت خاطرة حمقاء, تجول بأذهان كثير من المتجبرين وترسخ في نفوسهم وهي محرك أفعالهم, وهي: “أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ”,

فإن هذه السورة تُختم بالقول أن الله عزوجل هو الذي يفعل الفعل ولا يخاف عقباه, لأن كل ما في الكون عبيده وخلقه, وهو وحده القادر على كل شيء.

[1]الفكه أقل بكثير من السرور, فقد أرى وأنا في شدة الحزن والأسى موقفا ما غريبا فيفكهني فأضحك ولكنه لا يجعلني مسرورا, إذ سرعان ما أعود إلى ما أنا فيه من الغم والهم.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نقد رفض التعقل

من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.