سيدنا موسى والبئر والشيخ والعقد!

نعرض اليوم بإذن الله لمجموعة من الروايات المخالفة لكتاب الله تعالى والمتعلقة بأحداث وقعت لسيدنا موسى عليه السلام, ونضرب بهذه الروايات أمثلة واضحة على قبول روايات مخالفة للكتاب وإهمال الكتاب نفسه!

ولن نطيل النفس في تحليل الآيات لأن الغرض من العرض هو إظهار مخالفة الروايات للآيات وهو ما سيظهر سريعا:
جاء في تفسير قوله عزوجل عن موسى ” و َلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص : 24,23], العديد من الروايات , مفادها أنه:

أن موسى عندما ورد ماء مدين وجد الناس يسقون فلما أن أتم القوم السقيا غطوا البئر بصخرة عظيمة لا يستطيع حملها وزحزحتها إلا جماعة من الناس فنزعها موسى وسقى لهما .

وإذا تأملنا في هذا التفسير وجدنا فيه غفلة عن السياق ومصادمة للمنطق والعقل , فالآية تقول أن : موسى لما ورد الماء ووجد عليه جماعة تسقي وامرأتين لا تسقيان فسألهما فعلم أن العلة هي أن أبوهما شيخ كبير لا يقدر على السقيا , وهما ضعيفتان فلا تستطيعان المزاحمة  
وهنا نجد أن الآية استعملت ” الفاء ” وهي تفيد التوالي والمتابعة ولم تستعمل ” ثم ” , إذا فالأولى أن يقال بأن موسى القوي البدن ما أن سمع ذلك حتى زاحم القوم وسقى للإمرأتين , وهذا هو المنتظر من أخلاق الأنبياء من نصرة المستضعفين في كل زمان ومكان , أما ما روي فهو مخالف للعقل والمنطق 

فلماذا يغطي الناس البئر بعد أن يسقوا وهناك من لم يسق بعد ويسكت هؤلاء ولا يتكلمون ؟

وإذا سكتن لضعفهن لم لم يتكلم موسى القوي , الذي استطاع رفع الحجر بمفرده بزعمهم وسكت حتى انصرفوا ؟ الله أعلم .
إذا يمكن أن يكون الغرض من هذه القصة نزع الحساسية الشديدة في التعامل بين الرجل والمرأة , بعكس الكثير من الأخوة الذين يفخمون هذه المسألة , فالنبي موسى عليه السلام ما أن رأى امرأتين تحتاجان المساعدة حتى عرض عليهما مساعدته .

جاء في تفسير قوله تعالى ” وأبونا شيخ كبير” ما يفيد أن هذا الشيخ الكبير هو ” شعيب ” عليه السلام , وعلى الرغم من أنه من غير الأهمية بمكان كون هذا الشيخ هو شعيب أو غيره فإنا نوضح حرصا على عدم التقول على الأنبياء والخوض في القرآن بغير علم , وعدم الأخذ به ككل , وتجزئته وجعله عضينا 

خطأ هذا الرأي :
بطبيعة الحال سبب وجود هذا الرأي هو بعض الروايات التي تعاملت مع القرآن كأنه نص درامي فمن أجل إثارة المستمعين يكون الشخص الذي يقابله موسى نبيا آخر و يا للمصادفة !!

ولكن إذا نظرنا إلى هذه الروايات أولا من ناحية السند فماذا نجد ؟
نجد أن هذه الروايات ضعيفة السند وكما علق عليها الإمام ابن كثير قائلا :” مدار هذه الأحاديث على ابن لهيعة وأخشى أن يكون أخطأ في رفعها ” .

وعلق عليها الإمام ابن جرير أيضا قائلا :” الصواب أن هذا لا يدرك إلا بخبر ولا خبر تجب به الحجة في ذلك “

فها هو أيضا شيخ المفسرين الطبري الذي قبل طوام عنده في كتاب تفسيره يضعف الأحاديث , فمن يريد أن يدعي أنه شعيب عليه السلام فما حجته ؟

وإذا نظرنا إلى الروايات من جهة المتن وجدنا أنها أيضا معارضة للقرآن ذاته , فالله عزوجل يقول في القرآن على لسان شعيب عليه السلام مخاطبا ومخوفا قومه : ” وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ [هود : 89] “

فالنبي شعيب كان قريبا زمنيا من قوم لوط , فيبعد جدا أن يكون عاش حتى زمن موسى عليه السلام وقد كان بينهما قرابة أربعمائة عام أو يزيد , ونلاحظ أن الترتيب في الآية ترتيبا زمنيا للأنبياء فبدأ بنوح ثم هود ثم صالح ثم لوط حتى لا يدعي أحد أن البعد بين شعيب ولوط كان بعدا مكانيا .

ثم إنه لو كان النبي شعيب لكان هؤلاء من نجوا معه من الصيحة فيستحيل أن يتعاملوا مع نبيهم و بناته بهذا الشكل .
والفهم البسيط المقبول للآية أن موسى عليه السلام فر إلى مدين فقابل شيخا صالحا مؤمنا بالله فتوسم فيه خيرا فزوجه إحدى بناته , ولكن لما كانت مدين بلد النبي شعيب عليه السلام وجد القصاصون من بني إسرائيل فرصة رائعة لحبكة درامية لهذه القصة , فمن ينبغي أن يكون هذا الشيخ المؤمن في مدين سوى نبي الله شعيب ؟!

وللأسف تبعهم كثير من المفسرين بدون تحقيق أو تثبت , والله أعلم .
الغرض من هذه القصة : وجود رجال صالحين في كل مكان , و أن الله يساعد و ينصر من يخرج مهاجرا إليه و استحباب الخطبة للبنت إذا وجد الرجل الصالح , و الله أعلم .

جاء في تفسير قوله تعالى ” و َاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي [طه : 27] ” العديد من الروايات , مثل هذه التي سنذكرها من الطبري :
” حدثنا موسى، قال : ثنا عمرو قال: ثنا أسباط عن السديّ، قال: لما تحرّك الغلام ، يعني موسى، أورته أمه آسية صبيا، فبينما هي ترقصه وتلعب به، إذ ناولته فرعون، وقالت : خذه ، فلما أخذه إليه أخذ موسى بلحيته فنتفها، فقال فرعون : عليّ بالذباحين ، قالت آسية : ( لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ) إنما هو صبيّ لا يعقل ، وإنما صنع هذا من صباه، وقد علمت أنه ليس في أهل مصر أحلى منى أنا أضع له حليا من الياقوت، وأضع له جمرا ، فإن أخذ الياقوت فهو يعقل فاذبحه ، وإن أخذ الجمر فإنه هو صبيّ، فأخرجت له ياقوتها ووضعت له طستا من جمر، فجاء جبرائيل صلى الله عليه وسلم ، فطرح في يده جمرة، فطرحها موسى في فيه، فأحرقت لسانه، فهو الذي يقول الله عز وجل( وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي ) ، فزالت عن موسى من أجل ذلك . ” اهـ

وهذا التفسير مستغرب جدا , إذ كيف يستمر موسى ممسكا بالجمرة بعد أن شعر بحرارتها ولا يرميها بل ويضعها في فيه بعد ذلك فتحرقه ؟!

والأولى حمل هذه العقدة على ثقل اللسان , وذلك أن موسى ترك مصر عشر سنوات كاملة , كان يتكلم فيها لغة أخرى, فأثر ذلك على كلامه لعدم من يلاغيه ويكلمه بهذه اللغة , أو القول بأن موسى عليه السلام لم يكن متكلما فصيحا من الأساس فطلب حل عقدة لسانه , والأولى حمل العقدة على ترك اللغة لفترة طويلة , والله أعلم .

غفر الله لنا وهدانا

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

في توالد المفردات في البدء كان “الاسم”

في مقالين سابقين تحدثت عن نشأة “التسمية”, أي كيف تم إعطاء دوال للمدلولات, فلم تعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.