نتناول اليوم آية من الآيات المشتهرات والتي أكثر الخطباء والأئمة من ذكرها والتعرض لها من أجل استخراج الحكمة والعظة الواردة فيها, وهي قوله تعالى ” وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة : 260]”
وتفسير هذه الآية معروف لمعظم القراء, ولكنا سنعرضه هنا من باب مناقشة التفسير الوارد فيها لنر هل هو فعلا تفسير للآية:
الناظر في كتابات السادة المفسرين يجد أن هذه الآية فسرت تفسيرا عجيبا مردودا شوه صورة خليل الرحمن تشويها كبيرا, وانظر معي عزيزي القارئ ماذا رووا في تفسير! هذه الآية: رووا في تفسيرها الكثير من الروايات , نذكر منها ما رواه الطبري :
” حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج، قال : قال ابن جريج : بلغني أن إبراهيم بينا هو يسير على الطريق ، إذا هو بجيفة حمار عليها السباع والطير قد تمزَّعت لحمها، وبقي عظامها. فلما ذهبت السِّباع، وطارت الطير على الجبال والآكام ، فوقف وتعجب، . ثم قال : ربّ قد علمتُ لتجمعنَّها من بطون هذه السباع والطير! ربّ أرني كيف تحيي الموتى! قال : أولم تؤمن، قال: بلى! ولكن ليس الخبر كالمعاينة . ” اهـ
بل إنه وردت روايات تقول إن إبراهيم عليه السلام وقع له الشك ! , فإذا كان هذا من خليل الرحمن , فما بالنا بعوام الناس , ولن نعرض هذه الروايات , والعجيب أن الإمام ابن جرير الطبري رجح هذا الرأي !! .
ثم قال الطبري بعد ذلك في وصف هذه الطيور :
“حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج قال فخذ أربعة من الطير ) قال ابن جريج: زعموا أنه ديك، وغراب، وطاووس، وحمامة.
ثم قال في تأويل ” صرهن ” : ” فمعنى قوله فصُرْهن إليك ) اضممهن إليك ووجِّههن نحوك، كما يقال : ” صُرْ وجهك إليّ “، أي أقبل به إليّ. ومن وَجَّه قوله فصرهن إليك ) إلى هذا التأويل ، كان في الكلام عنده متروك قد ترك ذكرُه استغناءً بدلالة الظاهر عليه. ويكون معناه حينئذ عنده : قال : ( فخذ أربعةً من الطير فصرهن إليك )، ثم قطعهن،( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ).
وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك إذا قرئ كذلك بضم ” الصاد ” : قطِّعهن ، وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك إذا قرئ كذلك بضم ” الصاد ” : قطِّعهن ، كما قال توبة بن الحميِّر:
فَلَمَّا جَذَبْتُ الحَبْلَ أَطَّتْ نُسُوعُهُ… بِأَطْرَافِ عِيدَانٍ شَدِيدٍ أُسُورُهَا
فَأَدْنَتْ لِيَ الأسْبَابَ حَتَّى بَلَغْتُهَا… بِنَهْضِي وَقَدْ كَادَ ارْتِقَائِي يَصُورُهَا
يعني: يقطعها.
وإذا كان ذلك تأويل قوله فصرهن ) ، كان في الكلام تقديم وتأخير، ويكون معناه: فخذ أربعة من الطير إليك فصِرهن = ويكون ” إليك ” من صلة ” خذ”. !!!! ………….. , وزعم بعض نحويي الكوفة أنه لا يعرف لقوله : ( فصُرهن ) ولا لقراءة من قرأ : ” فصرهن ” بضم ” الصاد ” وكسرها، وجهًا في التقطيع،. إلا أن يكون ” فصِرْهن إليك ” ! في قراءة من قرأه بكسر ” الصاد ” من المقلوب، وذلك أن تكون ” لام ” فعله جعلت مكان عينه، وعينه مكان لامه، فيكون من ” صَرَى يصري صَرْيًا “، فإن العرب تقول: ” بات يَصْرِي في حوضه ” : إذا استقى” اهـ
ثم ذكر روايات عدة عن وضع الطيور على الجبل , منها : ” حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد عن قتادة: قال: أمر نبي الله أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن، ثم يجزئهن على أربعة أجبُل ، فذكر لنا أنه شكل على أجنحتهن، وأمسك برؤوسهن بيده ، فجعل العظم يذهب إلى العظم ، والريشة إلى الريشة، والبَضعة إلى البَضعة ، وذلك بعين خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم. ثم دعاهن فأتينه سعيًا على أرجلهن، ويلقي كل طير برأسه. وهذا مثل آتاه الله إبراهيم، يقول : كما بعث هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة، كذلك يبعث الله الناسَ يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها .” اهـ
إذا فالإمام الكبير الطبري يريدنا أن نعتقد أن خليل الرحمن حدث شك بقلبه , فطلب إلى الرحمن أن يريه كيف يحي الموتى ليطمئن قلبه , فأمره الله بأخذ طيور وتقطيعهن ووضعهن على عدة جبال ثم دعوتها فتأتيه سعيا , فيكون قد رأى بعينه وليس الخبر كالمشاهدة .!!, ولست أدري ما الفارق بينه وبين أي إنسان عادي يطلب آية حسية ليؤمن , فإذا كانت الآيات لا تعطى للناس لكي يؤمنوا بعقولهم وقلوبهم , فما لنا رضينا للخليل ما لا نقبله على أنفسنا ؟ !!
و طبعا قدم الإمام الطبري وأخر و غير بنية الكلمة فقلب حروف الكلمة وكل هذا حتى يتم القبول بالقول أن صرهن إليك تعني ” قطعهن ” , و لكن الآية لم تقل هذا الكلام بتاتا , ولقد انتبه الإمام الرازي إلى ضرورة وجود محذوف فقال : ” كأنه قيل : أملهن إليك وقطعهن ، ثم اجعل على كل جبل منهن جزأ ، فحذف الجملة التي هي قطعهن لدلالة الكلام عليه “
وطبعا فهم الكلام بدون وجود محذوف أولى من تقدير محذوف نختلف فيه , ونذكر للسادة العلماء قولا رائعا في هذه الآية بدون افتراض أي محذوف أو تقديم أو تأخير , و هذا الرأي لأبي مسلم الأصفهاني الذي قالوا في وصفه …. , حيث يقول :
” إن إبراهيم عليه السلام لما طلب إحياء الميت من الله تعالى أراه الله تعالى مثالا قرب بهالأمر عليه ، والمراد بصرهن إليك الإمالة والتمرين على الإجابة[1] ، أي فعود الطيور الأربعة أن تصير بحيث إذا دعوتها أجابتك وأتتك ، فإذا صارت كذلك ، فاجعل على كل جبل واحداً حال حياته ، ثم ادعهن يأتينك سعياً ، والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة “
وأنكر الإمام القول بأن المراد منه : فقطعهن . واحتج عليه بوجوه الأول : أن المشهور في اللغة في قوله { فَصُرْهُنَّ } أملهن وأما التقطيع والذبح فليس في الآية ما يدل عليه ، فكان إدراجه في الآية إلحاقاً لزيادة بالآية لم يدل الدليل عليها وأنه لا يجوز
والثاني : أنه لو كان المراد بصرهن قطعهن لم يقل إليك ، فإن ذلك لا يتعدى بإلي وإنما يتعدى بهذا الحرف إذا كان بمعنى الإمالة .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : فخذ إليك أربعة من الطير فصرهن .
قلنا : التزام التقديم والتأخير من غير دليل ملجىء إلى التزامه خلاف الظاهر .
والثالث : أن الضمير في قوله { ثُمَّ ادعهن } عائد إليها لا إلى أجزائها ، وإذا كانت الأجزاء متفرقة متفاصلة وكان الموضوع على كل جبل بعض تلك الأجزاء يلزم أن يكون الضمير عائداً إلى تلك الأجزاء لا إليها ، وهو خلاف الظاهر ، وأيضاً الضمير في قوله { يَأْتِينَكَ سَعْيًا } عائداً إليها لا إلى إجزائها وعلى قولكم إذا سعى بعض الأجزاء إلى بعض كان الضمير في { يَأْتِينَكَ } عائداً إلى أجزائها لا إليها .
واحتج القائلون بالقول المشهور بوجوه الأول : أن كل المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم أجمعوا على أنه حصل ذبح تلك الطيور وتقطيع أجزائها ، فيكون إنكار ذلك إنكاراً للإجماع الثاني : أن ما ذكره غير مختص بإبراهيم صلى الله عليه وسلم ، فلا يكون له فيه مزية على الغير .
الثالث : أن إبراهيم أراد أن يريه الله كيف يحيي الموتى ، وظاهر الآية يدل على أنه أجيب إلى ذلك ، وعلى قول أبي مسلم لا تحصل الإجابة في الحقيقة .
والرابع : أن قوله { ثُمَّ اجعل على كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا } يدل على أن تلك الطيور جعلت جزأ جزأ ، قال أبو مسلم في الجواب عن هذا الوجه : أنه أضاف الجزء إلى الأربعة فيجب أن يكون المراد بالجزء هو الواحد من تلك الأربعة والجواب : أن ما ذكرته وإن كان محتملاً إلا أن حمل الجزء على ما ذكرناه أظهر والتقدير : فاجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزأً أو بعضاً . “
أما الإجماع المخالف للغة و المأخوذ من أهل الكتاب فلا حجة فيه , و أما القول بأن هذا ليس فيه مزية لإبراهيم عليه الصلاة والسلام فقول من يريد أن يقول إن خليل الرحمن يريد مثالا حيا ليوقن بمقدرة الله , أما نحن فنقول أن إبراهيم عليه السلام لم يحدث له شك , ولكن حصل له اضطراب في هذه المسألة , فطلب إلى الله أن يريه كيفية إحياء الموتى , وطبعا لم يكن يريد أن يتأكد , بل يريد الكيفية .
فأمره الله عزوجل أن يأخذ أربعة من الطير ولا يهمنا النوع , وأن يعودها عليه بأن يأمرها فتجيب , وهذا ما نراه كلنا في تربية الصقور مثلا , فمربي الصقور يدعو الصقر فيجيبه , و
أن يجعل على كل جبل [2] منهن جزءا , فتكون الجبال إما أربعة جبال أو ثلاثة أو إثنتين ,
ثم يدعو الطيور فتأتيه سعيا .
والغرض من هذا الأمر واضح وهو ضرب المثال لإبراهيم عليه السلام , فإذا كان إبراهيم العبد المخلوق عوّد طيرا فإذا دعاها أجابته , فما بالنا بالرحمن , فسيدعونا يوم القيامة فنجيب , “ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ [الروم : 25] “
فيعلم أن إحياء الموتى يكون بالدعوة , فالله يدعو فنجيب , و القول بضرب المثل لسيدنا إبراهيم أولى من القول بأنه أراه عيانا جهارا لأنه شك .
فهذا التفسير الذي يقولون به يعد سبة في حق خليل الرحمن , ولكن إذا كانوا قد قالوا أنه كذب ثلاث كذبات[3] , فما لهم لا يرمونه بالشك [4], فتأويلهم هذا يجب على كل مسلم أن ينزه خليل الرحمن عنه .
إذا الغرض من هذه القصة نفي حدوث الشك عن الخليل وتنزيه عن المطالبة بما لا يقول به العوام , وضرب الأمثال للناس وتقريب عملية البعث إلى الأذهان .
هدانا الله وغفر لنا وأصلح بنا .
فبالله عليكم هل إذا قال الرسول هذا الكلام يفهم منه ما يدعون ؟ و لم يقول الرسول(ص)هذا الكلام الفلسفي الذي سيساء فهمه حتما , ولم هذه اللفة الطويلة , لم لا يقول كلامهم الذي ذكروه في التفسير مباشرة ؟
ولكن لما صح السند ألغي العقل وقبل المتن ولا وحول ولا قوة إلا بالله .