النهي عن الإفساد في الأرض !

مما يأسف له المرء ويأسى منه الإنسان المسلم ذلك التقعيد الفقهي الذي قال به فقهاؤنا وذلك المسلك الذي سلكوه مع كتاب الله عزوجل , حتى أدى بالناس في نهاية المطاف إلى تفريغ القرآن من المعاني أمامهم , فالأمر قد لا يكون للأمر والنهي قد لا يراد به النهي واللفظ قد لا يقصد منه معانه 
والأمر والنهي لا يلتزمان ولا يطبقان إلا إذا ورد النهي الصريح أو الأمر المباشر من النبي المصطفى بالنص على كل مسألة ينطبق عليها الأمر , كأن الأمر أو النهي في القرآن غير كافيين ! ونختار من الأمثلة الكثيرة على هذا الأمر مسألة النهي على الفساد في الأرض فالله تعالى يقول في كتابه الكريم :

” و َلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف : 56]
وللأسف العظيم يقرأ المسلمون هذه الآية ولا يشعر غالبيتهم أنهم مخاطبون بهذا النفي , كأن هذا النفي لا يراد معناه , ولست أدري صراحة ما هو معنى الآية إذا لم يكن المراد منها المنع والتحريم , فهذا نهي عن الإفساد في الأرض والله عزوجل عاب علينا وذمنا بالإفساد في الأرض فقال “ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم : 41]
والفساد في هذه الآية يصدق على الفساد المادي قبل الخلقي , لقوله تعالى ” في البر والبحر ” , وكان هذا النهي موجودا دوما عند الأنبياء , فيروي القرآن على لسان سيدنا شعيب ” وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [الأعراف : 85] ” .

إذا فالإفساد في الأرض منهي عنه في مختلف مراحل الإسلام , والإفساد يصدق على أشياء كثيرة منها الطوام والكوارث والمصائب ومنها الصغائر وكل إفساد إثمه على قدره , فالصد عن سبيل الله مثلا إفساد مادي ومعنوي كبيران وتوعد الله عليه كثير فقال ” الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ [النحل : 88] “
وهناك أصناف أخرى للفساد منثورة في القرآن ولكن ما نريد التركيز عليه هو الفساد البسيط الذي يخرج من الناس العادية ولا ينتبهون إليه , وبتراكمه يصبح سلوكا عاما ويؤدي إلى مصائب في نهاية الأمر , ولكن المشكلة هي أن الناس لما كانوا يأخذون دينهم من الفقهاء وشيوخ المساجد لا من القرآن , فلم يجدوا من يقول لهم أن كثيرا مما يفعلونه يدخل تحت باب الفساد في الأرض المنهي عنه ,
فكثير من المسلمين يعدون ترك الصلاة حرام وكبيرة , وتركها إثم كبير لا مراء فيه , ولكنهم لا يجدون حرجا أو إثما في أن يلوثوا الأنهار مثلا بإلقاء مخلفاتهم أو الجيف أو المواد الكيماوية الضارة , أو أن يرموا القاذورات في طرق المسلمين , فهذا لا شيء فيه ما دام بعيدا عن منازلهم ! , ولا يتحرجون من تخريب المنشآت العامة , فهذا لا شيء فيه , فهي لا تخصهم !! ,

ويعلم الله أني كثيرا ما أحمل في جيبي أو في حقيبتي أغلفة المأكولات التي تناولتها حتى أعثر على سلة قمامة أو أعود إلى المنزل , وأهداني صديق مرة ” لب ” وأنا منصرف من عنده , فكنت أكل وأضع القشر في يدي حتى وجدت ” مزبلة ” فألقيت فيها القشر !

وهناك الكثير من هذه النماذج السيئة التي نراها كلنا في حياتنا اليومية , وكل هذا لأننا أهملنا قوله عزوجل ” ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ” , فلو وجد الناس من يقول لهم ذلك , ومن يعرفهم أن سلوكهم خاطىء ويترتب عليه إثم شرعي لارتدع الكثيرون ولأقلعوا عن هذه الأفعال المشينة التي تسيء إلى الإسلام والمسلمين قبل أن تسيء إلى البيئة المحيطة بنا , فنحن المسلمين يجب أن نكون أول المحافظين على البيئة وليس المدمرين لها , والله المستعان .

إذا علينا أن نذكر الناس بهذا النهي الذي تهاونوا فيه ونعرفهم بأنهم مقصرون ونقول لهم : اتبعوا الواجب في القرآن واجتنبوا ما نهى الله تعالى عنه قبل أن تتحدثوا في السنن !

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نقد رفض التعقل

من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.