هل يحرم من الرضاع من أم ما يحرم من النسب ؟!

إن الناظر في حال العلماء في التوفيق بين السنة والقرآن أو المخالفة والاستقلال بينهما يجد العجب العجاب في هذا الباب ! فنجد أن العلماء يتفنون في القول باستقلال السنة عن القرآن بدلا من أن يقولوا بتبعيتها له !

ونعرض للقارئ في هذا المقال نموذجا شهيرا لكفية تعاملهم مع الحديث الشريف وكيف أنهم بذلك يعطون المخالفين الفرصة السانحة في رد الحديث , وهذا النموذج هو في تعاملهم مع أحاديث الرضاع , حيث قالوا أن الرسول حرم بالرضاع من يحرم بالنسب , مع أن الحديث لم يقل هذا !

ونأتى الآن إلى الحديث الشهير الذي يستدلون به والذي أصبح مخالفا للنص القرآني مخالفة بينة تبعا لفهمهم وهو مارواه الترمذي ” 1065- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنْ الرَّضَاعِ مَا حَرَّمَ مِنْ النَّسَبِ ” قَالَ وَفِي الْبَاب عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأُمِّ حَبِيبَةَ .

نقول أولا وردت روايات أخرى توضح أن هذا القول لم يكن من النبي ص بل كان من عائشة رضي الله عنها حيث جاء في البخاري :
4422- حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ :
اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ فَقُلْتُ لَا آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ فِيهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ أَخَاهُ أَبَا الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَنَعَكِ أَنْ تَأْذَنِي عَمُّكِ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي الْقُعَيْسِ فَقَالَ ائْذَنِي لَهُ فَإِنَّهُ عَمُّكِ تَرِبَتْ يَمِينُكِ قَالَ عُرْوَةُ فَلِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ حَرِّمُوا مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا تُحَرِّمُونَ مِنْ النَّسَبِ “.

وهناك أحاديث أخرى في هذا الباب ولكن لن نعلق عليها سندا لأن متنها تبعا لفهم هؤلاء العلماء يخالف الآية مخالفة صريحة حيث أن الله عزوجل يقول “ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً [النساء : 23] “

فنحن نجد أن الله عدد المحرمات من النسب وذكر في وسطهن الأمهات اللاتي أرضعن وأخوات الرضاعة ثم أكمل المحرمات من النسب , فما فائدة التخصيص إذا كان مراد الله أن يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ؟ ألم يكن الله يستطيع بعد ختم المحرمات من النسب أن يقول ” ومن الرضاع مثلهن ” وبهذا ينتهي الأمر ؟

ولكن أن يحدد القرآن أمرا ثم يوسعه الرسول فلا أجد له معنى مقبولا , بل هو واجب الرد

وأما القول بأن هذا الأمر يجوز قياسا فهذا ما لا يصح عندي بأي حال من الأحوال , فحتى لو قبلنا بالقياس فلا يكون القياس في أمر حدده الله بأفراد معينة , أما فيما لم يحصر فقد يقبل القياس , إذا فهذا الحديث تبعا لفهمهم لا يصح وهو من اجتهادات السيدة عائشة على الأرجح واختلط الأمر على الرواة فرفعوه إلى النبي أو أنه موضوع لا يصح والله أعلم .

ولكن لا بد من القول أن هذا الرد والقول بوضع الحديث هو بسبب فهم هؤلاء العلماء الذين جعلوه معارضا لكتاب الله , إلا أنه ظهر لي في فهم هذا الحديث فهم لا أعتقد أني سُبقت إليه ويتفق مع مفهوم الآية فلا نعطل الآية ولا الحديث ,

وهذا الفهم هو أن الرسول ( ص ) عندما قال ” يحرم من النكاح ما يحرم من النسب “ لم يكن يقصد الأنواع من أم وأخت وعمة وخالة ولكن كان يقصد التحريم ذاته وهو تحريم النكاح , أي كما حرم الله عزوجل النكاح بسبب النسب في أنواع معينة فكذلك حرم النكاح بسبب الرضاع في النوعين الذين ذكرهما وليس عاما , فهذا الفهم المحتمل جدا والموفق بين الآيتين أهمل تماما , لأن الأوائل لم يقولوا به , ولأنهم يرون أن هذا يفهم بداهة من الآية , يقولون فلم قاله النبي ( ص ) ؟

نقول : الله أعلم لم قال النبي المصطفى هذا الحديث , فالحديث كما نعرف كلنا كان له أسباب قيل فيها , وبدلا من أن يجتهد العلماء فيخرجوا لنا علم ” أسباب ورود الحديث ” , الذي هو ضروري في فهم الحديث والأحكام المستخرجة منه , أخرجوا لنا ” علم أسباب النزول ” للقرآن مع أننا لا نحتاج إليه بتاتا , فالقرآن كتاب عام لكل زمان ومكان ولا حول ولاقوة إلا بالله .

فكما ترى عزيزي القارئ أن العلماء خالفوا منطوق الحديث , وجعلوا ” ما ” بمعنى ” من ” ثم أخذوا يأصلون على ذلك تأصيلات وتقعيدات عجيبة ويستدلون بأفهامهم هذا على مخالفيهم .
نخرج من هذه الآية أن المحرمات من الرضاع هن من ذكرتهن الآية وهي الأمهات والأخوات من الرضاعة فقط , وأن الحديث كان يوضح أن المحرم هو النكاح الذي يحرم بالنسب لا أنه كان يضيف أصنافا أخرى والله أعلى وأعلم .

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

اجتهاد جديد غير مسبوق حول صدقة الفطر

بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد وسلام على عباده الذين اصطفى، ثم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.