خلق الإنسان الأول ( نظرية جديدة ! )

كيف ظهر الإنسان على وجه الأرض ؟
اختلفت الأجوبة المطروحة لهذه الأسئلة , فكل يدلي بدلوه في المسألة والكل يخمن ويخرص , إلى أن قفزت البشرية قفزات هائلة في مجال العلوم التطبيقية وللأسف صاحب هذه القفزات نظريات مسمومة حاول بها البعض تأييد بعض الأفكار الخبيثة , فسمعنا عن نظريات عجب في خلق الإنسان مثل الداروينية و ما شابها من النظريات التي تنكر وجود الخالق , ووجدنا الناس من هذه النظرية في معسكرين

فريق أعجب بها وأيدها , وكان من هذا الفريق بعض المسلمين الذين رأوا أن هذه النظرية موجودة في القرآن !! , و منهم من رمى القرآن وراء ظهره واتبع الغرب وقال هذه نقرة وتلك أخرى و القرآن ليس كتاب علوم . وفريق رفضها لمعارضتها الصريحة للأديان , وظل على اعتقاده الذي يرى أنه نابع من الدين المنزل من عند الله .

ولكن لما كان القرآن تبيانا لكل شيء كما قال الله تعالى , وجب أن ننظر لنستخرج كيف كانت عملية الخلق هذه, و إذا كان القرآن لم يجب على هذه الأسئلة الخالدة فعلاما أجاب إذا؟

و لما كان القرآن شفاءا لما في الصدور , كان حتما عليه أن يجيب على هذه الأسئلة الخالدة , فنثر معطيات هذه القصة في ثناياه , فوضح لنا كيف تم خلق الكون وكيف تم خلق الإنسان , ولقد ذكر ذلك في القرآن بطريقة مباشرة مفصلة , و لكن للأسف لما كان القرآن في القرون الماضية

و لا يزال – يجر إلى أقوال العلماء و أفهام الفقهاء وروايات البلغاء , فقد عميت هذه الحقيقة الزهراء , وساد في تفسير هذه الآيات الروايات المأخوذة عن أهل الكتاب , و أصبحت عند كثير من المسلمين من المسلمات التي لا يجادل فيها , مع أن هذه الروايات تدور في واد والقرآن يقول شيئا آخر تماما .

والحق يقال
أني كنت من أشد المقتنعين بالتفسير التوراتي والمدافعين عنه ضد بدع أتباع الغرب , إلى أن قرأت كتابا يعرض في مواضيعه عملية خلق الإنسان في القرآن , فنبهني إلى مواضع العور في التفسير الإسرائيلي , ثم حاول المؤلف أن يتبنى الداروينية كتأويل للآيات

ولكن طبعا مع القول أن الخلق موجه من الله تعالى ولم يتم بالصدفة أو طبيعة , ولكن كان من الواضح أن التفسير الإسرائيلي تام العور , وأن ما يقول به فيه لي لأعناق الآيات مثل التفسير الإسرائيلي , فهو يأخذ بظواهر بعض الآيات ويؤول أخرى ليصل إلى إسقاط الآيات على النظرية , فظللت لردح من الزمن متأرجح بين قبول النظرية ورفضها , إلى أن ظهر لي من خلال النظر في الكتاب الكريم فهم آخر تماما في مسألة خلق الإنسان لا يؤول أي آية ويأخذها جميعها على ظاهرها

وسنعرض للقارىء هذا الفهم , ولكن بعد عرض بعد النماذج المنثورة في القرآن لمسألة بدأ الخلق عامة

من المسلم به أن القرآن عرض لمسألة بدأ الخلق وكيفية نشوء الكون , و لكن ما أراه أن علومنا الحالية المعاصرة لا تزال قاصرة في مجال الفلك وخلافه و كل ما تقول به من النظريات هو من باب التخمين الذي لا يمكن الحمل عليه أو التوثق منه مثل ما يتم على الأرض

ولما كانت العلوم ضرورية للوصول إلى فهم الآيات و تأويلها تأويلا سليما , ثم ننطلق بعد ذلك من القرآن إلى مستويات أعلى , فأنا أرى أن مستوى العلوم المتوفر عندنا حاليا غير كاف لفهم هذه الآيات , فنتوقف فيها إلى أن تتطور البشرية أكثر فنستطيع أن نؤول هذه الآيات

ولا يعني هذا أن العرض القرآني لهذه المسألة عرض ملغز أو معقد , فحتى بدون أن أي مستوى معرفي علمي نستطيع أن نستخرج الإطار العام للوصف القرآني لعملية خلق الكون , ونعرض للقارىءهنا نموذجا مصغرا لهذا الوصف

فنقول :
في البدء كان الله ولم يكن شيء معه وكان عرشه على الماء ثم خلق الله الخلق , و ووضح لنا القرآن أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام , وفصلت الآيات في مراحل الخلق , ولكن لنا أن نسأل :

هل خلق الله الكون بطريقة إعجازية أم أنه خلقه بطريقة طبيعية , ومع تطور العلوم وباستخدام الإشارات الواردة في القرآن نستطيع أن نحدد كيف خلق الكون ؟

َ في الواقع كنت أسمع كثيرا من المتكلمين عن خلق الكون من علماء الدين الأفاضل فأجدهم فريقين مختلفين , فريق يقول بأن الكون خلق بطريقة طبيعية , أي يمكن بالعلم معرفة خطوات خلق الكون في المستقبل عند زيادة وتطور أدوات العلم والمعرفة .

وفريق أخر يقول : لا , الله خلق الكون بالقدرة وقال له كن فكان , وهذا البحث عن خلق الكون مجرد عبث لن يوصل لشيء فهو مخلوق بطريقة إعجازية , و كنت أتساءل : أي الفريقين أحق وأصوب ؟

إلى أن قرأت ذات يوم قوله تعالى “ولَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ [المؤمنون : 17] ” , فانتبهت إلى أن الله عزوجل يقول ” وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ “ فقلت لو كان الخلق تم بطريقة إعجازية لاستحال أن يصف الله نفسه بهذا الوصف , ولكن بما أن الله أجراه بالطريقة الطبيعية نبه على هذا الشيء حتى لا تختلط الأمور على الناس وليشير لتمام قدرته وشمول إحاطته والله أعلى و أعلم .

و لكن كيف كان حال الكون في بدايته ؟
نجد أن القرآن يخاطب الكافرين في هذه الآية متحديا إياهم , قائلا ” أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء : 30] “

ففي البدء كان الله ولم يكن شيئا معه وكان في عماء وكان عرشه على الماء , وبداهة لا يمكن أن نقول أنه كان هناك شيء قبل خلق الكون , فلم يكن هناك فراغ أو مكان أو زمان

فلا بد لوجود الفراغ من وجود المكان , ولا بد لوجود الزمان من حركة المكان , ولا بد لحركة المكان من دافع يخرجها من السكون , و المقصد أن الله خلق الكون من العدم , بهذه الطريقة التي قال بها , من وجوده متجمعا ثم حدوث الفتق

وأن أعرف أن السادة العلماء يؤولون هذه الآية بنظرية الانفجار العظيم التي مفادها أن الكون كان في بدء الخلق عبارة عن ذرة بالغة الصغر عالية الكثافة , ثم انفجرت هذه الذرة بسبب الضغط العالي عليها

و من هذه الذرة خرج الكون كلها , وهذه النظرية قد تبدو مقبولة , ولكني أتوقف في تأويل الآية بها , حتى تنتقل النظرية من مرحلة النظرية إلى مرحلة الحقيقة العلمية , ولربما اكتشف المسلمون في المستقبل في القرآن ما لم نره نحن لقصر أنظارنا وعلومنا .

وبعد أن انتقل الكون من مرحلة الرتق إلى مرحلة الفتق , تم إنزال الماء ليتم تشكيل الطبيعة وظهور الكائنات الحية بالشكل الذي يريده الله عزوجل

ونجد هذا مذكورا في آية الأنبياء فقال بعد أن تكلم عن الفتق , ” وجعلنا من الماء كل شيء حي ” , و لكن الارتباط قد لا يبدو واضحا تمام الوضوح في هذه الآية لذا نذهب إلى آية تحمل الكثير والكثير من الحقائق العلمية ولكن سأركز هنا على جزء منها فقط وهو قوله تعالى ” وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأنعام : 99]

حيث أن هذا الجزء يظهر فيه الترابط بين إنزال الماء وبدء ظهور الكائنات الحية , وهو الجزء الذي تفكرت فيه وخرجت منه برأي شخصي لي يتفق مع الجانب العلمي , و لا أعلم إن كان قال به غيري أو لا , و لننظر في الآية ولنر أولا كيف فسرت هذه الآية :

ذكر الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه :
“وهو الذي أنزل من السماء ماء” أي المطر. ” فأخرجنا به نبات كل شيء ” أي كل صنف من النبات. وقيل: رزق كل حيوان. ” فأخرجنا منه خضرا ” قال الأخفش: أي أخضر؛ كما تقول العرب: أرينها نمرة أركها مطرة. والخضر رطب البقول. وقال ابن عباس: يريد القمح والشعير والسلت والذرة والأرز وسائر الحبوب. “نخرج منه حبا متراكبا” أي يركب بعضه على بعض كالسنبلة ” اهـ

ولكن لا بد لنا من وقفة هنا ألا وهي : هل معنى نبات كل شيء كل صنف من النبات ؟
لا بطبيعة الحال نبات كل شيء معناها هو نشأ وأصل كل شيء حي وكل شيء ينبت أي ينقسم ويزيد , والله عزوجل قال
“و َاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً [نوح : 17] ” فنحن أيضا نشأنا من الأرض ” وقال في حق مريم عليها السلام ” فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران : 37]

فمريم أنبتت نباتا حسنا أي أنشئت نشأة طيبة ,إذا فمعنى نبات كل شيء أي أصل كل شيء , ولا بد أن ننتبه إلى دور الماء الحيوي في عملية الخلق والله عزوجل قال في سورة البقرة ” وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة : 164] , فالماء له دور حيوي في دورة الحياة وبطبيعة الحال في نشأة الحياة على وجه الأرض .

قد يسأل سأئل :
من أين أتيت بفهم أن نبات كل شيء المراد به نبات كل شيء حي وكل ما ينقسم ويتكاثر ؟
أقول له: الله قالها صراحة في آية أخرى وهي قوله عزوجل ” أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء : 30] ,

حيث نلاحظ ربط الله عزوجل الماء ببداية الخلق , فبعد فتق السماء والأرض جعل من الماء كل شيء حي , فالسماء والأرض كانتا موجودتين وفتقتا ثم أنزل الله الماء فتفاعل مع التربة وتغيرت التربة إلى الشكل الذي أراده الله عزوجل إلى أن كون الله الخلايا النباتية ثم تكونت بعد ذلك الخلايا الحيوانية ولنا مع هذا الموضوع وقفة في مسألة خلق الانسان .

إذا فهذه مرحلة جديدة من مراحل خلق الكون , وهي مرحلة إنزال الماء وبدأ نشأة الحياة على الأرض بالتصميم الإلهي المسبق , وبعد ذلك تفاعلت العناصر مع بعضها حتى ظهرت الكائنات المعقدة التركيب [1] .

ولكن ما الذي يجعل الكون مستمرا في الوجود ؟ فمن المعلوم أن الكون مكون من مادة والمادة ما هي إلا تكاثف طاقة , فما الذي يبقي الكون على حاله ؟


نجد أن الله يجيب على هذا السؤال أيضا , وذلك في آية هي غاية في الإبداع وقمة في دقة الوصف العلمي لحال الكون وهي ِ” إنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً [فاطر : 41]
فهذه الكلمة وضحت حالة الكون وأنه لا يمكن أن يقوم بنفسه وأنه مفتقد لمن يقوم به , فالمخلوقات في الكون

وإن وضع الله قوانين وسنن تسير عليها , تبدو لمن لا يتدبر أنها تتحرك بطريقة طبيعية بدون مسير ولكن الكون ذاته يمسكه الله عزوجل أن يزول

ولكن ما معنى الزوال ؟
نعرض أولا ما قاله الإمام الطبري في هذا الموضوع , حيث قال ما نصه :
” يقول تعالـى ذكره: إنّ اللّهَ يُـمْسِكُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ لئلا تزولا من أماكنهما وَلَئِنْ زَالَتا يقول: ولو زالتا إنْ أمْسَكَهُما مِنْ أحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ يقول : ما أمسكهما أحد سواه. ووضعت « لئن » فـي قوله وَلَئِنْ زَالَتا فـي موضع « لو» لأنهما يجابـان بجواب واحد, فـيتشابهان فـي الـمعنى ( لا تصدق هذا الكلام الفارغ , فلا يوجد شيء يوضع مكان شيء في القرآن – المؤلف – )

ونظير ذلك قوله : وَلَئِنْ أرْسَلْنا رِيحا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّا لَظَلّوا مِنْ بَعْدِهِ يكْفُرُونَ بـمعنى: ولو أرسلنا ريحا, وكما قال: ولئن أتَـيْتَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ بـمعنى : لو أتـيت. وقد بـيّنا ذلك فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل . ذكر من قال ذلك:22202ـ حدثَنا بشر, قال: حدثنا يزيد, قال: حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله : إنّ اللّهَ يُـمْسِكُ السّمَوَات والأرْضَ أنْ تَزُولا من مكانهما ” اهـ

ولمثل هذا ذهب الإمام ابن كثير و القرطبي فهم يرجحون أن الزوال بمعنى الحركة والاضطراب , ولكن ما معنى الزوال في اللغة ؟

الزوال كما جاء في اللسان هو ” الذهاب والاستحالة والاضمحلال ” , وهذه المعاني جميعا متمثلة في هذه الكلمة فلولا الله ما قامت للكون قائمة وهذا الكلام ليس كلاما إنشائيا بل هو كلام علمي تماما , فالله عزوجل يقول أنه خلق الكون من العدم وهذا ما رجحه العلم الحديث حتى الآن , يعني من لا شيء ظهر كل هذا الكون فما الذي يمنعه أن يتلاشى مرة أخرى ويعود إلى العدم ؟

الله الذي يمنعه من التلاشي والعود إلى العدم , وهو أيضا الذي يمنعه من أن يضطرب نظامه فهو الذي سن له هذه القوانين التي يسير عليها ويتفاعل بها ولولا الله ما انتظم لهذا الكون عقد ولا نشأ من الأساس , وبهذا جمعت الكلمة الواحدة المعاني الكاملة لسلطان الله على الكون فهو يمنعه من الاضطراب والفوضى ويمنعه من التلاشي والعودة إلى العدم , وسبحان الواحد العلام .

هذه كانت نظرة سريعة لآيات متعلقة بخلق الكون أعطينا بها فكرة عامة عن الوصف الذي جاء به القرآن لخلق الكون , وأنه وصف دقيق يكمل بعضه بعضا وليس مجرد وصفا إنشائيا ليحث الناس على النظر في الكون

ومن أراد الاستزادة في هذه المسألة فليرجع إلى الكتب العلمية المتخصصة التي كتبت في هذا الموضوع فقد كتب فيها من الكتب الكثير , و كما قلنا نحن نرى أن الخوض في هذه المسائل في هذه المرحلة من التقدم العلمي يعد خوضا في المجهول , وإسقاط الآيات على ما يقولون به قد لا يكون إسقاطا سليما , لذا نرى التوقف في هذه المسألة حتى يظهر الله لنا فيها أمرا .

و لكن حتى لا يعتقد القارىء أن العرض القرآني لمسألة خلق الكون عرض بسيط أو مبهم نعرض هنا نموذجين لما يمكن اكتشافه فيما بعد , عند تطور آليات النظر والبحث في الكون , وبداهة لا بد أن يكون ما يقال غير مألوف و إلا لكان قد تم اكتشافه منذ زمان بعيد أو قريب .

النموذج الأول قوله تعالى : ” أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً [الفرقان : 45]”

حيث فسر العلماء الأفاضل هذه الآية تفسيرا مجازيا يتناسب مع معارفنا الحالية , ولكني أرى رأيا آخر غير ما يقولون به تماما وهو يعتمد أيضا الفهم المباشر للآية , وهو كالتالي :الرأي العلمي السائد والمنتشر هذه الأيام أن الظل أو الظلام ما هو إلا غياب الضوء يعني إذا غاب الضوء ينتج عن ذلك الظلام .

ولكني أرى أن القرآن يطرح رأيا آخر في هذا الموضوع وهو أن الظل أو الظلام له وجود مستقل يعني أنه ليس عدما بل هو مخلوق أيضا ” وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر ” فالليل أو الظلام أيضا مخلوق .

يقول تعالى ” الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ” وهذه الآية أصل في نسبة الظلام والضوء في الكون , فالأصل والأكثر في الكون هو الظلام بدليل قوله تعالى ” الظلمات ” ثم أفرد فقال ” النور ” .

ولقد ظهر في الساحة العلمية نظرية حديثة تتبنى القول بأن الظلام المخيم في الكون ليس عدما بل هو ما يسميه علماء الفلك حاليا ” المادة السوداء ”

وأنا أؤيد هذه النظرية بشدة لأنها تبدو احتمالا جيدا لما ورد في الآية , وهذا كان رأيي من قبل أن أقرأ النظرية , و لكن لا نجزم بها حتى نتأكد من مطابقتها مع القرآن تماما فلربما يقصد القرآن شيئا آخر تماما .

إلى هنا يتفق العلماء مع ما يقوله القرآن بخصوص الظلام المنتشر في الكون ولكن نعود مرة أخرى إلى موضوع الظل فالعلماء مجمعون على أنه مجرد غياب ضوء ولكن القرآن يقول أنه ذو وجود مستقل ولكنه لا يظهر إلا مع وجود الضوء لأنه ذو كيان أسود والظلام له نفس اللون فلن يظهر إلا في الضوء ولنتتبع الآية و لنر ماذا تقول :الآية تبدأ بقوله تعالى ” ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم ……”

فالله يتحدث على أولا عن مد الظل ثم تكون الشمس بعد ذلك دليلا عليه , فهذا دليل على أن الظل ذو وجود مستقل والشمس تأتي لتكون دليلا عليه .

وهناك أدلة أكثر وضوحا على الوجود المستقل للظل في القرآن وهي قوله تعالى :
” أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ [النحل : 48] “
وقوله تعالى ” وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [الرعد : 15] “


ففي هاتين الآيتين أثبت الله عزوجل سجودا للظلال , فإذا كانت الظلال عدما للضوء كما يقولون فلا يمكن أن يثبت لها عمل أو فعل , فهذا لا يكون إلا للموجودات لا المعدومات .

و لقد قرأت[2] هذا الرأي في مرحلة من مراحل الإطلاع القديمة قبل أن أتجه إلى الفكر الظاهري ثم لما اهتديت إلي الطريقة المثلى في التعامل مع القرآن وجدت أنه مقبول جدا

و أنا أعرف أن المضمون المباشر يبدو مخالفا للعلوم الحالية , و أن التفسير الحالي المعتمد على المجاز يوافق النظريات الحديثة , ولكن لا أريد أن أقع أسير خطأ المفسرين السابقين و أؤول ما لا يتفق مع معارفنا خوفا من التعارض المزعوم , لا فها أنا ذا أعرض فهم الآية أمام العلماء وعليهم أن ينظروا ويبحثوا ليثبتوا صدقها , و أنا أتركها كما هي وأنا تمام الثقة أن السنين أو القرون ستثبت ما ذهبنا إليه في هذا الفهم , والله أعلم .

النموذج الثاني : قوله تعالى ” إذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف : 4]

فهذه الآية تخبرنا بعدد كواكب المجموعة الشمسية و أنه ليس تسعة كما يعتقد الناس حاليا . قد يقول قائل : و لكن الآية تحكي الرؤية التي رأها يوسف عليه السلام , وهذا الرقم إشارة إلى عدد إخوته ليس أكثر .

نقول : نحن متفقون على أن هذا العدد إشارة إلى عدد إخوة يوسف ولكني أخالف في ” ليس أكثر ” هذه , فكما قلنا أن الآيات القرآنية تتحرك على أكثر من مستوى ,

فأتت الآية هنا للإخبار بعدد إخوة يوسف و أنا أجزم أنها أيضا لعدد كواكب المجموعة الشمسية , وأن هذا العدد هو عدد كواكب المجموعة الشمسية والأيام ستثبت لنا ذلك , ولكني أتوقف في مسألة ألا وهي : هل نحسب سيدنا يوسف فيكون هو الممثل لكوكب الأرض ويكون العدد اثنى عشر كوكبا[3]
 أم نقول أنهم أحد عشر كوكبا فقط ؟

بالنسبة لي الترجيح حاليا عسير , فنتوقف في هذه المسألة إلى أن يظهر الله لنا فيها قولا فاصلا .

وبعد أن مررنا مرورا سريعا على الآيات التي تتحدث عن خلق الكون ووصفه في القرآن , و حاولنا أن نستخرج منها تصورا عاما , نبدأ الآن بعرض فهمنا لآيات خلق الإنسان في القرآن :


نحن نرى أن القرآن عرض وصفا كاملا- وليس نظرية – لعملية خلق الإنسان , ولكن السادة العلماء اتبعوا قول من قبلنا شبرا بشبر وذراعا بذراع , وقالوا بما قال به الأقدمون , فلنر ماذا تقول روايات الأقدمين في تفسير هذه الآيات :

جاءت الروايات الإسرائيلية تقول أن الخلق بدأ بآدم عليه السلام , وأن الله عندما أراد أن يخلقه أرسل الملائكة ليجمعوا طينه من الأرض فاستعاذت الأرض منهم فرجعوا , إلى أن جاء عزرائيل فقبض هذه القبضة منها فوكل من أجل ذلك بقبض أرواح بني آدم , ثم شكل الله هذه القبضة من الطين على شكل تمثال وتركه سنين عديدة , وجاء الشيطان فدخل فيه وخرج وكانت الملائكة تتعجب من هذا الخلق إلى أن نفخ الله فيه الروح فتحول بقدرة قادر مرة واحدة إلى إنسان كامل , وبعد ذلك خلق الله من ضلع آدم عليه السلام حواء ومنهما جاء وخرج هذا العالم كله .

الحال جعلوا أحداث القصة التي ذكرها القرآن بين آدم وإبليس عندما خدعه وجعله يأكل من الشجرة المحرمة في جنة الخلد ثم طرد آدم من الجنة وأنزل إلى الأرض ومن هذه المرحلة بدأت الحياة البشرية على كوكب الأرض .

هذا ملخص موجز لما ورد في هذا الشأن من الروايات وهذه الروايات بها جزء من الحقيقة وكثير من الباطل , ونبدأ بعرض تأويلنا إجمالا , ثم نفصل في توضيح لم قلنا بهذا التأويل :

ملخص التأويل :

أن الله عندما أراد أن يخلق البشر خلق من الطين بعد مروره بعمليات تحول كثيرة خلية حيوانية أو ما يسمى حاليا ب : ” الجنين ” وهو الناتج عن اندماج الحيوان المنوي بالبويضة وليس بالمفهوم المتعارف عليه بين العوام أنه طفل صغير
وأودع الله – بواسطة الملائكة – هذه الخلية في ” أرحام أو حضانات أرضية ” – التي أنشأها الله بشكل طبيعي أيضا وجعل لها دورة تغذية ذاتية من الأرض كما نجد في النباتات كلها , وجعلها مستقرا للخلية و انقسمت هذه الخلية بأمر الله وتفرعت إلى أن صارت هذا الكائن المسمى بشرا وخرج هذا الكائن من الأرض فعلا لا مجازا ناضجا لا طفلا , فتشققت الأرض عن البشر و خرجوا من الطين

وعندما خرج هذا الكائن لم يكن فردا واحدا بل كان أفرادا كثيرة , وتتابع خروج هؤلاء الأفراد , ومن بين هؤلاء الأفراد كان آدم عليه السلام – ولا يشترط أنه كان في الجيل الأول من الذين خرجوا من الأرض – وكان هذا الكائن لا يستطيع الكلام ونرى أن هؤلاء الأفراد الذين خرجوا من الأرض كانوا محنيين قليلا ثم

استقامت ظهورهم فيما بعد وكانوا يتصرفون و يتعاملون بغرائزهم كالحيوانات من قتل وسفك للدماء , ولكن كان لهم بناء دماغي متطور عن باقي الحيوانات و جهاز صوتي متطور عن الحيوانات أيضا و تم فيما بعد أنسنة هؤلاء الأفراد عن طريق نفخة الروح و تم تعليمهم اللغة التي علمها الله آدم وعلمها لهم

وبطبيعة الحال كانت لغتهم جد بدائية مثل حياتهم ثم تطورت الحياة وأدواتها وتطورت وتشعبت واختلفت على التوازي معها اللغة العربية إلى أن وصلت إلى شكلها الحالي وحضارتهم الخاصة بهم التي استمرت وتطورت إلى أن وصلت إلينا في عصرنا الحديث “ [4]

هذا ملخص ما خرجت به من خلال نظري في آيات الخلق في القرآن , وأبدأ الآن في عرض الآيات التي استندت إليها في تكوين وبناء هذه القول :
يؤمن جميع المسلمين أنه لا تعارض في مسألة خلق الإنسان وأن الله عندما ذكر الخلق من تراب أو من ماء أو من طين, ومرة يكون هذا الطين لازب ومرة كالحمأ المسنون ومرة من صلصال كالفخار فكل هذه مراحل لخلق الإنسان انتقل من مرحلة إلى أخرى .

وهذا أول ما نستدل به على فهمنا , فلو تم الخلق بالطريقة التي ذكرتها الروايات من أن الله خلق آدم كتمثال من طين ثم نفخ فيه الروح فصار بشرا حيا من لحم ودم وعظم , لكان الله مطلق القدرة في غنى عن أن يقوم بخلق آدم في هذه المراحل , و كان يمكن أن يأتي بقطعة من الطين ثم ينفخ فيها الروح فتتحول إلى بشر .

ولكن الله لم يذكر ذلك في القرآن بل ذكر أن الإنسان خلق في مراحل عديدة بشكل طبيعي لا طفرة فيه , فإذا أتينا نحن وفهمنا من ذلك أن هذه المراحل كانت مراحل ضرورية لخلق الإنسان بأمر الله بشكل طبيعي فلا حرج علينا فيما نقول .

إذا فأول مرحلة في خلق الإنسان هي التنقل في مراحل ” جمادية ” متعددة لا حياة فيها من ماء وتراب إلى طين ثم انتقل خلق الإنسان بعد ذلك إلى المرحلة الحاسمة وهي الانتقال إلى المرحلة ” الحياتية ” حيث تم تحويل هذه التركيبة من الطين إلى خلية حيوانية

ويمكن القول بأنها مرت بمرحلة نباتية قبل هذه المرحلة ثم تحولت الخلية النباتية إلى خلية حيوانية – يقول تعالى ” والله أنبتكم من الأرض نباتا[نوح : 17] “

وللآية تأويل آخر سأذكره فيما بعد – ثم انقسمت هذه الخلية إلى عدة خلايا وغرس هذا النشأ في باطن الأرض بواسطة الملائكة في ” الأرحام الأرضية ” ومرت بنفس المراحل التي يمر بها الجنين في بطن أمه إلى أن خرج الإنسان من باطن الأرض حقيقة كما يخرج الفرخ من البيضة .

وللقارىء أن يسأل أين يوجد الدليل على هذا الكلام الذي أقوله في القرآن
لنذهب معا إلى سورة المؤمنون ولننظر قليلا في الآيات التي تتكلم عن هذا الموضوع :
يقول تعالى ” ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر …….[المؤمنون : 12, 14,13] “ ,

ونذهب أيضا إلى سورة الأنعام ولننظر في آية أخرى تتحدث عن هذا الشأن , فنجد أن الله تعالى يقول : ” وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون ” [الأنعام : 98] “

فهذه الآيات تتحدث صراحة عن بدأ خلق الإنسان والمراحل التي تمت في هذا الخلق حيث بدأ الخلق بنفس واحدة , و ” النفس ” هي : أي كائن به حياة بدءا من الخلية وانتهاءا بالإنسان , وذكر الله أن الخلق بدأ بنفس واحدة ثم ذكر في مكان آخر أن الخلق بعد المرحلة الجمادية بدأ ب ” سلالة ” أي خلية بالمصطلح العلمي المعاصر[5] أصلها من طين ثم تحولت هذه الخلية إلى ” نطفة ”

والنطفة في اللغة أصل لغوي وهو كل ما فيه رطوبة , أويقصد منه القليل من الماء أو قطرة الماء أي تحولت الخلية إلى ما يشبه الماء وهذه النطفة التي أودعت في ” الأرحام الأرضية ” , ثم استمرت مراحل الخلق بعد ذلك كما ذكر في الآية من تحول إلى علقة وهي في اللغة ” الشيء المتعلق بغيره أو الدم المتخثر ”

وكما قلنا ينبغي في الفهم أن يكون موسعا فنأخذ هنا بالمعنيين المذكورين من أنه تحول إلى نسيج نشأت به الأوعية الدموية وعلق بجدار الرحم الأرضي ثم تحولت العلقة إلى مضغة , والمضغة في اللغة هي ما مضغ , والممضوغ : شيء مختلط لا تمايز فيها
وهذا ما نراه في الجنين حيث أنه يكون كقطعة لحم مختلطة لا تمييز لأي عضو فيها ثم يبدأ التميز بعد ذلك وتظهر الأعضاء , وهذا ما ذكره القرآن في آية أخرى عندما قال ” مضغة مخلقة وغير مخلقة [الحج : 5] ” , ثم يأتي بعد ذلك طور خلق العظام وهو ما عبر عنه القرآن بقوله تعالى ” فخلقنا المضغة عظاما ” وبعد ذلك يأتي طور خلق العضلات وهو ما عبر عنه القرآن بقوله ” فكسونا العظام لحما ” , ثم تتم عملية الخلق والنمو الكامل والنشأة للإنسان , ويستوي ويصير مخلوقا كاملا ويحين وقت خروجه من الأرض .

سيقول قائل : ولكن هذه الآيات التي تستدل بها هي في خلق الإنسان في الرحم .
أقول : نعم هناك في القرآن آيات جمعت الحديث عن مرحلتي الخلق فتحدثت عن الخلق من التراب ثم ثنت بعد ذلك مباشرة بالحديث عن الخلق في رحم الأم [6], مثل ما جاء في قوله تعالى ” هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ [غافر : 67], أو ما جاء في قوله تعالى ” َأَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً [الكهف : 37] .

ولكن هنا في هذه الآيات لا يوجد مبرر للانتقال إلى المرحلة الثانية من الخلق فهي تتحدث عن المرحلة الأولى وهي الخلق المباشر من الأرض فيجب أن تفهم في هذا النطاق ولا تنقل إلى نطاق آخر
ولقد اضطر المفسرون القدامى إلى القول بالانتقال إلى المرحلة الثانية وهي الخلق في بطن الأم في هذه الآية لأن هذه الآية كانت تعارض ما تعارفوا عليه في خلق آدم عليه السلام فقالوا : لا بد أن هذه الآية مثل سابقيها من الآيات فأولوها على هذا الأساس .

ولست أدري صراحة لم تبعهم المفسرون في العصر الحديث فيمكننا أن نفهم الآيات كما هي على أنها في المرحلة الأولى فقط وأن هذا الخلق تم كما قلت في ما يسمى ” الأرحام أو الحضانات الأرضية ” , ولقد جاء هذا التصور إلى ذهني عندما تأملت في هذه الآية وفي آية الأنعام وتساءلت لم لا يكون الحديث هنا لا يزال في المرحلة الأولى من الخلق ؟ ما المبرر للانتقال ؟

فنظرت في الآيات فلم أجد ما يبرر الانتقال , بل إني وجدت الآيات الأخرى تؤيد التصور الذي ذهبت إليه , وذلك مثل قوله تعالى ” والله أنبتكم من الأرض نباتا ” , حيث تأكد في ذهني أنه قد يكون في هذه الآية إشارة إلى أن الناس خرجوا من الأرض كما يخرج النبات فقفز في ذهني التصور السابق بقوة أكبر .

و ذات يوم كنت أقرأ قوله تعالى ” يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير [ق : 44] “

فانتبهت إلى أن الأرض ستنشق عن الناس يوم القيامة ويخرجون مسرعين إلى أرض المحشر فلم لا يكون هذا ما كان فعلا في بداية الخلق ؟ , والله عزوجل يقول ” كما بدأنا أول خلق نعيده [الأنبياء : 104] ” .

فثبت عندي هذا الفهم وخاصة أنه لا يأول أي آية من الآيات المتعلقة بالخلق بل يأخذها جميعا كما هي, ووجدت أيضا أن آية الأنعام بعد الحديث عن الخلق من النفس الواحدة تقول ” وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع [الأنعام : 98] ” , فأين يمكن أن تكون استقرت هذه النفس مباشرة – لاحظ استعمال الفاء – بعد خلقها و أين استودعها الله يا ترى ؟

فكان هذا الفهم في رأيي فهما مقبولا معقولا , متفقا مع القرآن والعلم الحديث الذي لا يزال يرى في الظهور المباشر للمخلوقات بدون تطور القول الأصح في مسألة الخلق وإن كان هذا يسبب مشكلة بالنسبة له – لأنه يرفض نظرية الخلق المباشر من إله – ولو أنه قبل بالخلق المباشر من إله لرأى فيما قلنا نظرية مقبولة للخلق .

و إذا نظرنا في باقي الآيات التي تتحدث عن خلق الإنسان وجدنا أنها تؤيد ما ذهبنا إليه , فمن ينظر في هذه الآيات يجد أن الله تعالى يقول :

” إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان : 2] ” , ولقد قال المفسرون أن المراد من الإنسان هنا كل بني آدم ما عدا آدم !! , أي أن آدم غير داخل في هذه الجملة , وهذا الفهم ليس من الآية بل من أذهانهم , لأنهم يعتقدون أنه خلق كتمثال[7] 

لذا لا بد من تأويل الآية وجعل آدم غير داخل فيها مع أنه إنسان أيضا , فإذا كان آدم عليه السلام خلق بالصورة التي يقولون بها أي كتمثال , لكان غير داخلا في هذه الآية فتكون غير صحيحة , أما إذا قلنا بطريقة الخلق التي أقول بها فتكون الآية صحيحة ومطابقة للواقع .

و نورد هنا دليلا أخر على ما نقول به , وهو قوله تعالى “ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ” [آل عمران : 59] “

وفي هذه الآية برهان عظيم ودليل سليم لما نقول به , فعيسى عندالله مثل آدم خلق من تراب ثم قيل للتراب بأمر القدرة كن فتحول التراب إلى أن صار إنسانا , وهنا لا بد من الملاحظة أن النظرية التي قلت بها هي الوحيدة التي تطابق مراحل خلق آدم عليه السلام

بمراحل خلق عيسى بخلاف كل النظريات الأخرى , فعلى الرواية الإسرائيلية تحول آدم من الطين إلى بشر وعيسى لم يكن كذلك , وعلى الأخذ بأقوال الداروينيين فآدم تطور وعيسى لم يتطور بل خلق في رحم . فآدم أخذ من التراب ومر بمراحل مختلفة ثم أودع في رحم أرضية سواءا كانت نباتية كما نرجح أو حتى ذات أصل حيواني ولكنه أودع في رحم وخرج منه إنسانا كاملا كما خرج عيسى عليه السلام

وإذا قلنا أن هذا ما حدث مع عيسى عليه السلام من أخذ خلية ” جنين ” ذات أصل ترابي ووضع في رحم السيدة مريم ثم نما حتى صار إنسانا كاملا فهو قول محتمل لا ترده اللغة أو العقول وهو تأويل معقول للآية والله تعالى أعلى و أعلم . [8]

وننتقل الآن إلى نقطة أخرى وهي الدليل على أن الله عندما بدأ خلق الإنسان لم يبدأ الخلق بإنسان واحد بل ببشر كثيرين :
فنقول الأدلة على ذلك كثيرة ومتناثرة في القرآن ولكن المشكلة في الإسرائيليات التي تصد عن الفهم المباشر للآيات , فالله عزوجل يقول ” وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ [الأعراف : 11] “

فالآية تذكر الخلق بصيغة الجمع ولا مبرر لصرف الآية عن ظاهرها والقول بأن المراد منها هو المفرد , حيث أن هذا يعد تعسفا في الـتأويل , ثم إنها تذكر الخلق وتستعمل ” ثم ” في الحديث عن السجود لآدم وهذا يفيد أن السجود لآدم كان بعد فترة طويلة من الخلق عندما تعلم الأسماء وهناك آيات أخرى تذكر المخلوقين بصيغة الجمع ولكن سنذكرها في سياقها .

أما الدليل على أنهم كانوا يتصرفون كالحيوانات ولا يعقلون فمنه قوله تعالى ” وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة : 30] ” [9].

ففي هذه الآية دليل واضح على أن البشر كانوا جمعا ولس فردا , وكانوا يقتلون بعضهم بعضا لأنهم لم يكونوا يعقلون , حيث تعجبت الملائكة عندما علمت أن الله سيجعل هؤلاء المتخلفين خلفاؤه في الأرض .

وبطبيعة الحال وردت الإسرائيليات التي تمنع الفهم الصحيح للآية وتصرفه عن ظاهره المراد فقال العلماء توفيقا بين الروايات والآية : ليس المقصود من ” من يفسد فيها ويسفك الدماء ” أن البشر كانوا يفعلون ذلك فعلا , بل ربما علمت الملائكة بذلك أو أنهم اعتقدوا أنهم سيتصرفون مثل الجن الذين كانوا قبلهم على الأرض فيفسدون في الأرض .

وهذه أفهام وأوهام لا تقدر على مكاتفة النص بل يجب علينا أن نغض الطرف عنها ونأخذ بما جاء في القرآن الكريم فالملائكة لم تكن تعترض أو تتعجب بل كانت تصف ما رأت , والقرآن نفسه يصف الملائكة بأنهم لم يكونوا يعلمون شيئا عن صفات هؤلاء , ومن يرى في النص غير ما قلنا فليقل به [10].

إذا فالنص القرآني يتكلم عن خلق الإنسان إما بصيغة المفرد الذي يراد ويحتمل منه الجنس مثل ” بشر , إنسان , خليفة ” وكلها ألفاظ تحتمل ما قلناه بشدة فإذا جاءت الآيات التي تذكر ذلك بصيغة الجمع وجب حمل ذلك على الجماعة .
إذا فالجماعة البشرية كانت جماعة همجية , ولأسباب يعلمها الله اختار الله آدم عليه السلام ” إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران : 33] “

فاختار الله آدم وعلمه ” وعلم آدم الأسماء كلها ” و معنى الاسم الصفة المميزة , والموسوم هو الموصوف , فعلم الله صفات الأشياء المميزة لها لكي تكون علامة مميزة لها , ونحن نتوقف في تأويل هذه الاسماء[11] 

فالله عزوجل عممها وقال ” كلها ” , و أنا لم يظهر لي معنى مرجح أحمل الآية عليه , فمن العلماء من قال إن المراد من الأسماء أسماء الله
ومنهم من قال أسماء – أي الصفات المميزة – للبشر وكيف يتصرفون , ومنهم من رأى أنها الأسماء الموجودة في اللغة , ولكن في كل قول جانب راجح وجانب مرجوح , لذا نتوقف في تأويل هذه الكلمة , حتى يأتي من يفتح الله عليه ويعطي فيها تأويلا جازما جامعا مانعا .

ثم قال الله بعد ذلك ” ثم عرضهم على الملائكة ” , فما عود الضمير في ” عرضهم ” ؟
اختلف المفسرون في عود الضمير في هذه الكلمة لأن الضمير ” هم ” لجمع المذكر لا يعود إلا على العاقل , فأولوا الضمير كالعادة واختلفوا في عود الضمير اختلافا شنيعا , ولكن إذا عدنا بالضمير على العاقل كما تقول اللغة وهو ” من يفسد فيها ” , فمن اسم موصول عام للمفرد والجمع

فلما قال الله ” هم ” علم أن هذا الاسم الموصول للجمع .
فيكون مفهوم الآية ” ثم عرض الله هؤلاء الناس على الملائكة ” , وبطبيعة الحال كان هذا العود للضمير مرفوضا من المفسرين لأنهم كانوا يرفضون وجود أناسا آخرين مع آدم عليه السلام , ولكن هذا ما تقوله الآيات .

وبعد أن عرض الله البشر على الملائكة قال لهم ” أنبؤني بأسماء هؤلاء إن كنتمصادقين “ فأمرهم أن يخبروه بصفات البشر فقط , لا صفات الأشياء الموجودة في الطبيعة , ولم تكن الملائكة تعرف ما هي صفات و طبيعة هؤلاء البشر , فردوا على الله بكل تقديس وقالوا ” سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ” .

وهنا يأمر الله آدم أن يعلمهم – البشر وليس الملائكة – فقال ” قال يا آدم أنبأهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم ما لا تعلمون ” .

إذ أنه ليس من المنطقي أن يسأل الملائكة عن أسماء البشر فلا يعرفون فيأمر آدم أن يخبرالملائكة بأسمائهم فيخبرهم بصفاتهم وماذا يعملون وكيف يتصرفون في هذه الدنيا , فالملائكة أدرى بحالهم ولكنهم لا يعرفون أحوال البشر .

ويجب أن لا نفهم من هذه الآيات أن الله كان يخاطب آدم كما نخاطب بعضنا بعضا ” وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى : 51] “

فالله خاطب آدم بطريقة غير الخطاب بين البشر ويجب أن لا نعتقد أن الإنباء كان في دقيقتين أو شيء من هذا القبيل بل أخذ فترة لا يعلمها إلا الله , وعندما أنهى آدم عليه السلام وعلمهم وبلغهم أمر الرب حدث شيئين متتالين :

1- خاطب الله الملائكة قائلا ” قال ألم أقل لكم إني أعلم ما لا تعلمون ”
2- تمت مكافئة آدم عليه السلام بأن أمرت الملائكة بأن تسجد له – و يجب أن لا يفهم السجود وضع الجبهة على الأرض فالملائكة لهم خلقة غير خلقتنا فيجب أن يكون السجود مناسبا لخلقتهم لا خلقتنا – و أدخل ومن معه جنة أرضية أي حديقة غناء كثيفة الأشجار تستر من فيها .

و نورد هنا دليلين آخرين على أن البشر كانوا في البدء جماعات همجية , ثم اصطفى الله آدم ليعلم البشر :
الدليل الأول : قوله تعالى ” الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ [السجدة :7 ,8 , 9] ” .

فهذه الآيات دليل أكبر من واضح على ما نقول به , ولكن طبعا قلبت عند التعامل معها من قبل المفسرين , و لننظر أولا كيف فسروا هذه الآيات ثم ندلي بدلونا , ونعرض هنا ما ذكره الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآيات , حيث قال ما نصه

” ثم لما ذكر خلق السموات والأرض، شرع في ذكر خلق الإنسان فقال : { وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ } يعني: خلق أبا البشر آدم من طين !!.

{ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ }

{ ثُمَّ سَوَّاهُ } يعني: آدم، لما خلقه من تراب خلقه سويا مستقيما، { وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ } ، يعني: العقول، { قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ } أي : بهذه القوى التي رزقكموها الله عز وجل ” اهـ
إذا المفسر الجليل ابن كثير يرى أن ” الإنسان ” المذكور في الآية هو آدم عليه السلام , ولا حرج في هذا الفهم بالنسبة للأرضية المعرفية في ذلك العصر .

ثم علق على الجزء التالي تعليقا مقبولا , ولكن أن يعود فيجعل الضمير في قوله ” سواه ” عائدا على آدم عليه السلام فهذا ما لا يقبل بأي حال من الأحوال , فالآيات ذكرت ” ثم ” مرتين , فقالت أن مراحل الخلق مرت كالتالي :

1- بدء خلق الإنسان من طين , ثم
2– جعل النسل من ماء مهين : أي عن طريق التزواج , وليس عن طريق الخروج أو الخلق من الأرض , ثم تسوية هذا الكائن ونفخ الروح .

ولكن لما كان هذا الترتيب يجعل نفخ الروح بعد بدء الحياة وليس سببا فيها[12], فكان لا بد أن يخالف هذا الترتيب ويترك , ويصبح الحرف ” ثم ” بلا مدلول , فهي دوما تفيد الترتيب والتراخي , ولكنها هنا لم تفد أي شيء , بل ربما أنها أفادت هنا معنى ” قبل “.

و طبعا الإمام ابن كثير لم يلق بالا لما يقول كأن إلغاء معنى ” ثم ” وقلبها وجعلها بمعنى ” قبل ” أو بدون أي معنى لا يعني شيئا
ولكنا نجد في الكتاب الذي قالوا عنه أنه فيه كل شيء إلا التفسير توقفا مع هذه النقطة و طبعا نعني تفسير الفخر الرازي , الذي انتبه إلى أن هذا الترتيب يقول بعكس ما يقول به تماما فعلق عليه ثم التف حوله بمهارة وبراعة

, فنجده يقول : ” وعلى ما ذكرتم يبعد أن يقال : { ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } عائد إلى آدم أيضاً لأن كلمة ثم للتراخي فتكون التسوية بعد جعل النسل من سلالة ، وذلك بعد خلق آدم

واعلم أن دلائل الآفاق أدل على كمال القدرة كما قال تعالى : { لَخَلْقُ السموات والأرض أَكْبَرَ } [ غافر : 57 ] ودلائل الأنفس أدل على نفاذ الإرادة فإن التغيرات فيها كثيرة وإليه الإشارة بقوله : { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ . . . ثُمَّ سَوَّاهُ } أي كان طيناً فجعله منياً ثم جعله بشراً سوياً ، وقوله تعالى : { وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } إضافة الروح إلى نفسه كإضافة البيت إليه للتشريف ” اهـ

فهذه الآيات تخبرنا الترتيب الذي حدث عند الخلق , بدأ الخلق من طين وخروج الناس من الأرض ثم انتقال الناس إلى مرحلة أخرى وهي مرحلة التزاوج

وانتقال النسل إلى مرحلة التكون من المني , ثم تسوية الإنسان ونفخ الروح فيه
ولو كان ما يقولون به صحيحا لما وجد هذا التريب بتاتا في القرآن لأنه عكس ما هو موجود في أدمغة السادة العلماء , و لكن ها هو الدليل واضحا على أن الإنسان وجد وتناسل قبل نفخ الروح .

قد يسأل سائل : ولكن ما هو الروح إذا كان الإنسان خلق وعاش وتناسل قبل أن ينفخ فيه الروح ؟[13]
و الذي نراه – والله أعلم – أن المراد من الروح هنا القدرة على التفكير , فالإنسان كان موجودا ولكنه يتصرف كحيوان , فأعطاه الله القدرة على التفكير والمشاعر , ومع المقدرة على التفكير نشأت اللغة , ومع نشأة اللغة ظهرت الحضارة وتميز الإنسان عن الحيوان , ولذا يرسل الله الملك كما جاء في الحديث لينفخ الروح في كل جنين , وبسبب اختلاف نفخة الروح هذه في كل إنسان يختلف الناس في ذكائهم ومشاعرهم . [14]

ونود أن ننوه هنا أن الإنسان يجب عليه ألا يعتقد أن روح الله شيء مادي , فحتى التصور الشبحي للروح هو مادي , ويستحيل أن يكون نفخ جزء من الله في البشر , فالله كما قلنا ليس واحدا , بل هو أحد لا يتركب من أجزاء , لذا يستحيل أن يكون التصور المألوف مطابقا للواقع .

و نحن نقول قد يكون المقصود من الروح شيئا آخر لم نصل إليه , ولكنه لن يكون أبدا شيئا من الله , فالله لا يتجزأ , ولكنه شيء منسوب إلى الله , كما يقال بيت الله .

إذا وكما رأينا عزيزي القارىء , فإن آيات السجدة دليل جد واضح وصريح على ما ذهبنا إليه , ولا يؤول هذه الآيات إلا متعسف , متبع لما وجد عليه الآباء , والله المستعان .

والدليل الثاني : قوله تعالى ” و َرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [الأنعام : 133] “

فالله تعالى يتوعد البشر بأنه من الممكن أن يذهبهم ويستخلف – كما استخلفنا من قبل – ” ما ” يشاء , فهذا دليل على أن الجنس المستخلف سيكون غير عاقل , بدليل قوله تعالى ” ما ” , ولقد انتبه المفسرون إلى هذه النقطة , ونورد ما قاله الإمام الرازي في تفسير هذه الآية , حيث قال ما نصه :

” { وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم } يعني من بعد إذهابكم لأن الاستخلاف لا يكون إلا على طريق البدل من فائت . وأما قوله : { مَا يَشَاء } فالمراد منه خلق ثالث ورابع ، واختلفوا فقال بعضهم : خلقاً آخر من أمثال الجن والإنس يكونون أطوع ، وقال أبو مسلم : بل المراد أنه قادر على أن يخلق خلقاً ثالثاً مخالفاً للجن والإنس قال القاضي : وهذا الوجه أقرب لأن القوم يعلمون بالعادة أنه تعالى قادر على إنشاء أمثال هذا الخلق فمتى حمل على خلق ثالث ورابع يكون أقوى في دلالة القدرة
فكأنه تعالى نبه على أن قدرته ليست مقصورة على جنس دون جنس من الخلق الذين يصلحون لرحمته العظيمة التي هي النواب ، فبين بهذا الطريق أنه تعالى لرحمته لهؤلاء القوم الحاضرين أبقاهم وأمهلهم ولو شاء لأماتهم وأفناهم وأبدل بهم سواهم . ثم بين تعالى علة قدرته على ذلك فقال : { كَمَا أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيَّةِ قَوْمٍ ءاخَرِينَ } لأن المرء العاقل إذا تفكر علم أنه تعالى خلق الإنسان من نطفة ليس فيها من صورته قليل ولا كثير ، فوجب أن يكون ذلك بمحض القدرة والحكمة ، وإذا كان الأمر كذلك فكما قدر تعالى على تصوير هذه الأجسام بهذه الصورة الخاصة ، فكذلك يقدر على تصويرهم بصورة مخالفة لها .” اهـ

فالإمام الرازي والمفسرون انتبهوا إلى وجود ” ما ” ولم يأولوها هذه المرة ويجعلوها في العاقل , ولكن الإمام الرازي عاد ففقد الإنطلاق من النص , فبدلا من أن يربط بين ” كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ” ويخبرنا من هم هؤلاء ” القوم الآخرين ” قال كلاما إنشائيا جميلا لا علاقة له بالنص , ولكن الآية كما ترى عزيزي القارىء دليل واضح فيما نقول , فالله يتوعد أنه من الممكن أن يذهبنا ويستخلف من بعدنا أي جنس آخر

|و سيكون هذا بنفخ الروح فقط , فهذا هو الفارق الوحيد بيننا وبين الحيوانات نفخة الروح الإلهية – , كما أنشأنا من ذرية قوم آخرين ألا وهم الهمج , فهم كانوا حيوانات لا عقل فيها ثم نفخ فيها الروح فصار منها الإنسان , وهذا ما سيحدث إن لم نرتدع , يؤخذ جنس آخر , وينفخ فيه الروح فيصير عاقلا , ويستخلف في الأرض .

وهذا دليل أكثر من واضح على أننا لم نكن مثل أصلنا , بل خرجنا من ذرية قوم آخرين هم الهمج , والله أعلم .
قد يقول قائل : و لكن كلامك هذا كله مبني على أساس أن جنة آدم جنة أرضية , و لا بد أن القرآن وضح هذا أيضا أيما توضيح , فهلا عرضت الدليل من القرآن على أن هذه الجنة كانت أرضية ؟

نقول : الكلام في النص القرآني واضح و صريح بأن آدم كان في جنة أرضية , و لذا نجد أن الخلاف على كون جنة آدم أرضية أو سماوية حادث من أيام السلف ولولا الروايات الإسرائيلية لما ظهر القول بأنها كانت جنة سماوية , و لأن منطلقنا كالعادة هو القرآن , فنستخرج منه الدليل على أن جنة آدم كانت جنة أرضية :

1- عندما تكلم الله عن خلق البشر قال “ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه : 55] “ , فالبشر خلقوا من الأرض , ولم يبدأ الخلق بفرد .

فما المبرر لرفع آدم إلى السماء ثم إهباطه مرة أخرى ؟ هذا طبعا على فرض أن آدم خلق منفردا ثم خرجت منه حواء .
2- قال الله عزوجل ” قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [الأعراف : 25] ” ومن المعلوم أن تقديم الضمير يفيد الحصر , والله تعالى قدم هنا ” فيها ” , فالله يخاطب البشر قائلا تحيون في الأرض فقط وتموتون فيها فقط ومنها تخرجون , فكيف يتم الحصر وآدم عليه السلام عاش في الجنة ؟

3- لو كان آدم في جنة الخلد ما استطاع إبليس أن يدخل إليه , ولا يمكن أن نتقبل الرواية الإسرائيلية من أن إبليس دخل الجنة في بطن الحية , فأين كانت الملائكة حينئذ ؟ ! .

4- أهم إثبات على أنها كانت جنة أرضية هو وصف جنة الخلد في القرآن ووصف جنة آدم , فبينهما فارق شاسع وانظر في وصف الجنة في القرآن وقارن بينه وبين وصف جنة آدم القادم

وتأمل الفارق :
” إن لك أن ألا تجوع فيها ولا تعرى و َأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى [طه : 118,119]

فهل هذا وصف جنة الخلد , هل خلاصة الأمر في الجنة أن لا أجوع فيها وألا أتعرى وألا أعطش فيها وألا أتعرض فيها للشمس ؟

ثم ما الفائدة من المن على آدم عليه السلام بشيء لم يره ؟ وكيف يمن عليه بعدم التعرض للشمس وهو لم يرها في الجنة أم أنه رأها في الجنة ؟
فلا بد لكي أمن على شخص ما من أقارن له بين ما أعطيته وبين ما كان عليه , فأين رأى آدم الشمس وحرها ؟

5- عندما دخل إبليس ليغوي آدم , ماذا قال له ؟
قال الله تعالى حاكيا ما قاله إبليس “فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى [طه : 120] “

فإبليس يمني آدم عليه السلام بأنه إذا أكل من هذه الشجرة فإنه سيعيش إلى الأبد أي سيكون له الخلد , وهذا يحتم أن يكون آدم عليه السلام رأى الموت وعرفه وعرف أن مآل الناس كلهم إلى الموت ومن هذا المدخل دخل إليه إبليس ومناه بالخلد , أما إذا كان في جنة الخلد فكيف يمنيه إبليس بشيء يفترض أن آدم لم يره – فكل ما في الجنة لا يفنى – , فلم ينبغي أن يستثنى من هذه القاعدة آدم ويكون هو الذي سيموت ؟

والدليل الأكثر وضوحا هو قوله ” وملك لا يبلى ” فلو كان آدم في الجنة وليس معه أحد فعلى من يكون ملكا ؟ هل يكون ملكا على الله والملائكة ؟ !! تعالى الله عن ذلك

أما إذا قلنا أنه كان على الأرض وكان معه بشر آخرين ورآهم آدم يموتون فمناه إبليس بألا يموت ويصير خالدا – مثل الملائكة التي كان يعرف أنها لا تموت – , وأنه سيصبح ملك لهؤلاء البشر, إذا أكل من هذه الشجرة فيكون هذا متفقا مع الآيات , وننوه أن شبيه هذا المعنى ورد أيضا في آية سورة الأعراف عندما قال له ” َقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف : 20] ” التي أسيء فهمها وتفسيرها.[15]

6- قال الله عزوجل مخاطبا الهابطين من الجنة “ قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة : 38] “

هنا خاطب الله الهابطين مستعملا صيغة الجمع فلو كان آدم وحواء في جنة الخلد واهبطا منها , فلم يستعمل الله معهما صيغة الجمع ولم يقل ” اهبطا ” , بل ويؤكد ذلك بقوله تعالى ” جميعا ” ؟

فالتأكيد بالجمع لا يعطي أي إمكانية إلا أن يكون الهابطون جماعة , أي اهبطوا جميعا ولن يستثنى منكم أحد , فإذا استعمل الله صيغة الجمع وكان الهابطين في جنة أرضية وهم جماعة وقلنا بهذا القول فلا لوم علينا

ولا يمكن القول أن إبليس من ضمن المخاطبين كما قال بعض الأخوة لأن معنى ذلك أن الله وعده أنه سيرسل إليه رسلا وهدى وهذا ما لا يقول به أحد, ومن لديه قول آخر فليسمعنا إياه !!.

قد يقول قائل : لقد قال الله تعالى ” اهبطوا ” , ألا تجد أن هذا يرجح أنهم كانوا في الجنة التي في السماء ؟


نقول : بالعكس , هذه الكلمة تؤكد كلامنا أكثر من كثير من الاستنباطات , فلو كان آدم في جنة الخلد كما يقال وطرد منها , فكيف يهبط منها بدون مركبة فضاء ؟ فلا يمكن أن يوجه الخطاب إلى آدم , بل ينبغي أن يوجه الخطاب لمن سينزله , ثم إننا لم نجد في أي آية من آيات القرآن التي تتحدث عن الخلق أي إشارة إلى أن آدم رفع
فلم لم يذكر هذا ؟

أما إذا قلنا أن هذه الجنة كانت مرتفعة فعلا فكانت على قمة جبل أو ما شابه , في مكان بعيد عن الهمج , فخوطبوا بالهبوط و قيل لهم ” اهبطوا ” [16]

 فلا حرج .

ونكتفي بهذا القدر من الأدلة على أنهم كانوا جماعة وليس فردا واحدا خرج منها و زوجه , و أنهم كانوا على الأرض وبسبب نسيان آدم عليه السلام أخرجوا من الجنة الأرضية وبدأت رحلة الشقاء على الأرض .

قد يسأل سائل : وما الدليل إذا على أن هؤلاء الناس كانوا محنيي الظهور بعض الشيء كما تقول ؟
نقول : أما الدليل على أنهم ربما يكونا محنيين بعض الشيء ثم استقامت ظهورهم فيما بعد هو قوله تعالى ” يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الإنفطار : 7] “

فالآية تحث الإنسان على ألا يتهاون بالله العلى العظيم الذي خلقه فأحسن خلقه وأتمه فعدله.
ولنا هنا وقفة مع كلمة ” فعدلك ” , ما المراد منها ؟

نقول ” عدل ” كما جاء في اللسان ” ( عدل ) العَدْل ما قام في النفوس أَنه مُسْتقيم وهو
ضِدُّ الجَوْر عَدَل الحاكِمُ في الحكم يَعْدِلُ عَدْلاً وهو عادِلٌ من قوم عُدُولٍ ……… وفي أَسماء الله سبحانه العَدْل هو الذي لا يَمِيلُ به الهوى فيَجورَ في الحكم ……….. وقد قال غير الفراء في قراءة من قرأَ فَعَدَلك بالتخفيف إِنه بمعنى فَسَوّاك وقَوَّمك من قولك عَدَلْت الشيء فاعْتَدل أَي سَوّيْته فاسْتَوَى ……………….. ويقال لكل من لم يكن مستقيماً حَدَل وضِدُّه عَدَل يقال هذا قضاءٌ حَدْلٌ غير عَدْلٍ ………. ” اهـ

و نورد هنا ما ذكره الإمام الرازي في تفسير هذه الآية , حيث قال ما نصه :
” { فَسَوَّاكَ } أي جعلك سوياً سالم الأعضاء تسمع وتبصر ، ونظيره قوله : { أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } [ الكهف : 37 ] ……. وثالثها : قوله : { فَعَدَلَكَ }

وفيه بحثان :
البحث الأول :
قال مقاتل : يريد عدل خلقك في العينين والأذنين واليدين والرجلين فلم يجعل إحدى اليدين أطول ولا إحدى العينين أوسع ، وهو كقوله : { بلى قادرين على أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ } [ القيامة : 4 ] وتقريره ما عرف في علم التشريح أنه سبحانه ركب جانبي هذه الجثة على التسوي حتى أنه لا تفاوت بين نصفيه لا في العظام ولا في أشكالها ولا في ثقبها ولا في الأوردة والشرايين والأعصاب النافذة فيها والخارجة منها ، واستقصاء القول فيه لا يليق بهذا العلم ،

وقال عطاء عن ابن عباس : جعلك قائماً معتدلاً حسن الصورة لا كالبهيمة المنحنية ، وقال أبو علي الفارسي : عدل خلقك فأخرجك في أحسن التقويم ، وبسبب ذلك الاعتدال جعلك مستعداً لقبول العقل والقدرة والفكر ، وصيرك بسبب ذلك مستولياً على جميع الحيوان والنبات ، وواصلاً بالكمال إلى ما لم يصل إليه شيء من أجسام هذا العالم .” اهـ

فقد ذكر الإمام الفخر الرازي عدة احتمالات ولكنا نرى أن المراد منها قول ابن عباس , لأن الآية تحكي مرحلة الخلق مرحلة من بعد مرحلة , فتحكي مرحلة الخلق فالتسوية فالعدل , ولو كان المراد منها ما رواه مقاتل فلا جديد عند إضافة هذه الكلمة , إذ أن ما قاله مقاتل يدخل في قوله تعالى ” سواك ” , و لا يدخل في قوله ” عدلك ” , وبداهة لا يمكن أن يكون اللفظان مترادفين , إذا فالعدل غير التسوية , لذا نرى أن رأي ابن عباس هو الأرجح .


وهذه الكلمة ” عدل ” وردت بقرآتين بتسكين النون وبتشديدها , فحتى على قراءة التشديد فالمعنى متفق مع ما ذهبنا إليه , فإذا كانت بالتشديد فهي تفيد التعديل أو التحوير بلغتنا المعاصرة , واستقامة الظهر نوع من التعديل أو التحوير , فعلى القراءتين المدلول الذي نقول به أولى من غيره .

فما المانع من أن يكون الإنسان منحنيا ثم عدله الله أي جعله مستقيما ؟
وأنا أعلم أن هذه الرأي لن يعجب الكثيرين لأن فيه تشابها مع نظرية التطور , ولكن يجب أن لا نرفض شيئا من باب التعصب , ولنسأل أنفسنا :
ألا يخرج الإنسان من بطن أمه لا يستطيع الجلوس ؟ ثم يستطيع بعد ذلك الجلوس ثم الوقوف ثم المشي , والله عزوجل يقول “ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم : 54] .

و الآيات القرآنية كما قلنا تتحرك على أكثر من مستوى , فهذه تصدق في المرحلة الحالية وفي مرحلة خلق الإنسان الأول , فلا مانع من أن يكون الإنسان الأول خرج من الأرض محني الظهر – مرحلة ضعف – ثم استقام ظهره وبذلك يكون سرى عليه قانون الله في الخلق من البدء بضعف ثم الانتقال إلى حال آخر وانظر ذلك واضحا في جميع مخلوقات الله!

أما لماذا حملنا هذه الآية على الإنسان الأول وليس على المولودين الذين يخرجون من بطون أمهاتهم , فنقول نحن لم نقصرها على الإنسان الأول بل أردنا التركيزفقط على هذا المدلول من مدلولات الآية , وإلا فإن الآية تصدق على الواقع المعاصر أيضا , والله أعلم.

إذا كما رأينا واضحا من خلال استقراء آيات القرآن المتعلقة بهذه المسألة , وجدنا أنها تصب كلها في مصلحة ما نقول به ولم نؤول حرفا واحدا , فنخرج من هذا كله أن آدم خُلق بطريقة طبيعية , و ليس كتمثال , وخُلق وسط جماعة من الهمج[17]

 ثم اصطفاه الله وعلمه ثم أدى آدم رسالته على أكمل وجه , و ولا تزال عملية التطور والتقدم مستمرة منذ أن نفخ الله الروح في البشر .

وبعد أن أنهينا مسألة خلق الإنسان في القرآن , نذكر هنا بعض النقاط المتعلقة بهذه المسألة من باب زيادة التوضيح :
قلنا أن آدم كان معه بشرا أخرين , واختار الله آدم وجماعة ليكونوا في الجنة , و اصطفى الله منهم آدم ليعلم الناس , فأين ذهب باقي البشر ؟

نقول : نحن نتوقف في هذه المسألة فليس عليها دليل أو برهان , فلا نقول أن آدم علمهم كلهم , أو أن الله أهلكهم كما قال بعض الأخوة , بل نتوقف في شأن هؤلاء الهمج .

كيف تمت عملية خلق الحيوان ؟
نقول : تبعا لفهمنا فالقرآن لم يعرض لهذه المسألة , ولكنا نرى أنه جرى بنفس الطريقة التي تم بها خلق الإنسان , أي الأرحام الأرضية لأن كلا الخلقين ينتميان إلى الطائفة الحيوانية ولذا لم يعرض لها , طبعا مع الفارق أن الإنسان هو الوحيد الذي نفخ فيه الروح .

قد يرى البعض أن عرض القصة في القرآن يوحي بخلاف ما نقول به .
نقول : النظرة السطحية بدون أخذ أي دلالات في الذهن لما يقرأ قد تؤدي إلى ذلك , ولكن من يقرأ النص فقط وليس أي شيء آخر سيجد ما نقول به واضحا , فعلى سبيل المثال اعترض علي أحد الزملاء ذات مرة في مسألة كون آدم عاريا فقال لي : كيف تقول ذلك والله تعالى يقول “ يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأعراف : 27] ”

وعلى الرغم من أن هذا كان بعد نفخ الروح وليس قبله ولا علاقة له بالمسألة فقلت له : ” اقرأ الآية إن الآية تقول إن الجنة كانت هي لباسهما , فجملة ” ينزع عنهما لباسهما ” بدل من ” أخرج ” فالإخراج هو نزع اللباس, فعندما خرجا من الجنة نزعا عنهما لباسهما “

و اللباس لفظ عام ومعناه الستر والإحاطة , وليس ما يرتديه الناس فقط , أما اللفظ
المستعمل في القرآن لما نرتديه فهو ” الثياب ” .

أما ما يحسبه البعض موافقا للنص التوراتي من آن العورة كانت مختفية عنهما ثم لما أكلا من الشجرة ظهرت لهما فليس له أساس في القرآن , فالله تعالى يقول ” فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ [الأعراف : 22] “

فالآية لم تقل بدت لهما ” سوءتهما ” بل قالت ” سوءاتهما “, فلو كان الحديث عن العورة لقيل ” سوءتهما ” , وليس المراد من السوءة العورة بأي حال , فالله تعالى قال على لسان ابن آدم لما قتل أخيه ” فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة : 31] “

فهل كان ابن آدم نادما لأنه عاجز عن أن يغطي مؤخرة أخيه مثلا , أم أنه كان نادما لعجزة عن مدارة سوء عمله ؟
فالمراد من السوءة هو الفعل السيء , ونلاحظ أن آدم وحواء عندما ظهر لهما سوء عملهما بمخالفة الأمر الإلهي طفقا يخصفان[18] ” عليهما ” وليس عليها , فلو قال الله : ” عليها ” لكان كل كلامنا عبثا

والفارق بين الاثنين :
أنه طبقا لما في الآية ” عليهما ” أنهما أخذا يغطيان أنفسهما من ورق الجنة , فهما يريدان أن يتواريا , وهو شعور طبيعي عند كل من يفعل فعلا سيئا ويراه من عصاه فهو يحاول أن يتوارى عنه بأي شكل , حتى ولو اكتفى بإغلاق عينيه حتي لا يواجهه .

أما ” عليها ” فهي تعني أنهما طفقا يغطيان عورتيهما فقط أي هذا الجزء من جسمهما .
بل إن الدليل الأكبر على أن المراد من ” سوءاتهما ” هنا ليس عوراتهما أو الأعضاء التناسلية هو قوله تعالى ” كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا ”

فهل أخذ إبليس آدم وحواء وأخرجهما من الجنة ليريهما أعضائهما التناسلية أما كانا يستطيعان رؤيتها في الجنة ؟
ولا أعتقد أن أحدا يقول أن الجنة كانت مظلمة , إذا فلا بد من فهم السوءات أنها سيء العمل والعاقبة وليس العورات الجسدية

و نخرج من هذا كله أن القرآن عرض القضية عرضا دقيقا ولكن الآفة هي عدم التدقيق
فيما يقوله النص وعدم محاولة ربط الآيات بعضها ببعض , والاعتماد على الإسرائيليات في التفسير , والله أعلم .
لم يقول الله ” يا بني آدم “, ما دام أن هناك بشر ليسوا من نسل آدم ؟

نقول : أما خطاب الناس في القرآن بقوله تعالى ” يا بني آدم ” فهذا ليس من باب الغالب , ولكنه حقيقة , فالله لم يقل يا أولاد آدم , بل قال ” يا بني آدم ”
وذلك لأن آدم أب لجميع الناس أبوة معنوية فهو ” أبو الإنسانية ” من حيث أنه هو الذي علمهم وفهّمهم فيكون أبا لهم , ولا يعد هذا من باب المجاز فاللغة تتوسع في معنى : ” الأب ” و ” الابن ” , و هذا ما ذكرناه من قبل .

و الذي أرجحه بجوار ذلك أن أكثر الموجودين على الأرض الآن من ذرية آدم عليه السلام , فالخلق بدأ بعدد يعلمه الله , وتناسل هذا العدد و أنجب ثم أرسل الله الرسل , وكان من لا يؤمن من البشر يهلك , وكان هذا الإهلاك من الله للعصاة حتى يحافظ على الجماعة المسلمة من الضياع والاندثار

و أنا أعتقد أن أكثر الهالكين لم يكن من ذرية آدم , و إنما كان من ذرية الآخرين , أما ذرية آدم عليها السلام فكان معظمها حسنا خيرا , بدليل قوله تعالى ” إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [آل عمران : 33]

فهؤلاء الأنبياء كانوا من ذرية آدم , فهم نسل مبارك , إذا ومع إهلاك الله للجماعات الكافرة قل عدد البشر ذوي الأصول الخبيثة وزاد عدد الأناس الأخيار ذوي الأصل الصالح المطهر .

و أما الدليل على أن هناك أناسا ليسوا من ذرية آدم عليه السلام هو قوله تعالى “ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً [مريم : 58]

, فلو لم يكن هناك أناسي آخرين ليسوا من ذرية آدم لما كان التخصيص له معنى ولكان اللفظ زائدا لا معنى له , و هذا ما لا يمكن , فيجب القول أن هناك بشر موجودين الآن ليسوا من ذرية آدم , و أنا أرجح أن الأوربيين منهم , والله أعلم .
وهناك ما يشير في الروايات الشيعية إلى وجود هذا الصنف , حيث أنهم يروون في هذا الشأن ” ذهب الناس وبقي النسناس ” وطبعا ليس المقصود الحيوان الذي نراه في الغابة وحديقة الحيوان .

و القول بوجود بشر مع آدم عليه السلام يحل إشكاليتين كبيرتين , ألا وهما :
1- إشكالية الزواج :
فكما جاء في الروايات أن حواء كانت تلد في البطن ذكر و أنثى , وكان ذكر البطن يتزوج أنثى البطن الأخرى , ولكن هذا لا ينفي أنهم لا يزالون أخوة , وهذا الذي استطاع مؤلفو الروايات أن يجدوه لحل هذه الإشكالية

أما نحن فنقول بكل سهولة أنه كان يوجد مع آدم عليه السلام بشر آخرون , وكان الأولاد يتزواجون بطريقة طبيعية بدون الحاجة إلى الزواج من الأخوة , و توجد العديد من الروايات الشيعية التي تنفي أن يكون أولاد آدم قد تزوجوا من أخواتهم , وروي ذلك أيضا عن أبي مسلم الأصفهاني الذي قال أن الله أنزل لهم حوريات من الجنة للزواج .[19]

2- إشكالية تنوع البشر .
فنحن نجد من البشر الأبيض والأسمر و الأصفر و الأحمر والزنجي , فكيف تنوع هؤلاء إلى هذا الحد طالما أن أصلهم من واحد ؟ أما القول بوجود بشر مع آدم عليه السلام , فإن هذا يحل المشكلة , والله أعلم .

و بما أننا نتحدث عن خلق الإنسان لا بد أن نعرض لقوله تعالى ” وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف : 172] “
حيث أن كل أهل الأثر تقريبا يقولون أن المراد من ” بني آدم ” هو آدم عليه السلام .!!!

و نحن نقول إن المراد هو ذرية آدم المباشرة وليس آدم نفسه كما تقول الروايات , فمن العجب العجاب أن الله تعالى يقول ” بني آدم ”

ونجد الرواية تأتي فتقول هو آدم ذاته وتقبل الرواية ويتمحك في تأويل القرآن حتى لا ترد الرواية , فإذا لم يكن هذا هو التنطع فماذا يكون , ومتى نرد الروايات التي تخالف القرآن إذا لم ترد هذه الروايات ؟

, ونعرض للقارىء هنا نموذجا من الروايات التي أوردوها في تفسير هذه الآية :
” روى مسلم بن يسار الجهني أن عمر رضي الله عنه سئل عن هذه الآية فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال : « إن الله سبحانه وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون » فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل؟

فقال عليه الصلاة والسلام : « إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله الله النار » وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة من ذريته إلى يوم القيامة » وقال مقاتل : « إن الله مسح صفحة ظهر آدم اليمنى فخرج منه ذرية بيضاء كهيئة الذر تتحرك ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فخرج منه الذر سوداء كهيئة الذر فقال يآدم هؤلاء ذريتك .

ثم قال لهم : { أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى } فقال للبيض هؤلاء في الجنة برحمتي وهم أصحاب اليمين ، وقال للسود هؤلاء في النار ولا أبالي[20] وهم أصحاب الشمال وأصحاب المشأمة ثم أعادهم جميعاً في صلب آدم » ،

فأهل القبول محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال ، وأرحام النساء . وقال تعالى فيمن نقض العهد الأول { وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مّنْ عَهْدٍ } [ الأعراف : 102 ] وهذا القول قد ذهب إليه كثير من قدماء المفسرين كسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وعكرة ، والكلبي ،” اهـ

ولقد ضعف الشيخ الألباني هذا الحديث بسبب سنده !!! , ولو كان السند صحيحا لقبلوه على الرغم من المخلافة الصريحة للنص القرآني , وبطبيعة الحال أخذ أهل الأثر بهذه الرواية قاطبة , ولكن المعتزلة لم يقبلوا هذه الرواية فردوها لمخالفتها الصريحة للقرآن

ونحن نردها كذلك لأن :
الآية تقول : { مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ } و لا شك أن قوله : { مِن ظُهُورِهِمْ } بدل من قوله : { وَإِذْ أَخَذَ } فيكون المعنى : وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم فقط . وعلى هذا التقدير : فلم يذكر الله تعالى أنه أخذ من ظهر آدم شيئاً , وطبعا التقديم هنا ليفيد الحصر فلا يدخل آدم مثلا في هذه العملية وحتى لا يظن أن هذه العملية تحدث مع جميع أبناء آدم , بل هي حصلت مع أبنائه الصلبيين فقط .


و كذلك : أنه لو كان المراد أنه تعالى أخرج من ظهر آدم شيئاً من الذرية لما قال : { مِن ظُهُورِهِمْ } بل كان يجب أن يقول : من ظهره ، لأن آدم ليس له إلا ظهر واحد ، وكذلك قوله : { ذُرّيَّتَهُم } لو كان آدم لقال ذريته .

الحجة الثالثة : أنه تعالى حكى عن أولئك الذرية أنهم قالوا : { إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا من قبل } وهذا الكلام يليق بأولاد آدم ، ولا يليق أن يكون محكيا عنه عليه السلام لأنه عليه السلام ما كان مشركاً .

أما كيف تمت عملية الأخذ فهذا ما لا نعلمه ونفوض فيه إلى الله , و لكن الغرض من العملية هو واضح وهو الإشهاد .
أما لماذا حدثت مع بني آدم و لم تحدث مع أبيهم , فالذي نراه أن آدم اصطفاه الله دونا عن باقي البشر , فكانت فيه مزية معينة بهذا الإصطفاء

و مع مجيء ذريته استجد عليهم أمر يستحق هذا الأخذ , فهم إما فقدوا شيئا من أبيهم وإما اكتسبوا شيئا ما كان ينبغي لهم أن يكتسبوه , فحدثت لهم عملية الأخذ هذه , ولا نقول أن عملية الأخذ هذه كانت عملية تعديل جيني أو ما شابه كما رأى بعض الأخوة

فالله أعلم بما حدث وكيف حدث , ولكن كل ما نود قوله أنه تم حدوث عملية معينة لأولاد آدم وليس لآدم نفسه وبسبب هذه العملية تمت إقامة الحجة على الناس إلى يوم القيامة , فلا يولد إنسان إلا و الحجة مقامة عليه بعدم الشرك أو الكفر بالله , والله أعلم .

لا بد من الانتباه إلى أن آدم عليه السلام و من كان معه في هذه المرحلة كانوا يرون الملائكة , والدليل على هذا قوله تعالى “ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه : 117] “

فلو لم يكن آدم يرى الملائكة – و إبليس كان واحدا منهم كما أسلفنا الذكر – , لكانت الإشارة بقوله تعالى ” هذا ” فاقدة الدلالة , فالإشارة لا تكون إلا مع وجود مشار إليه , فيحتم هذا أن آدم و من معه كانوا يرون الملائكة , الذين كانوا يعلمونهم أشياءا كثيرة .

و أيضا الدليل على أنه كان يرى إبليس لعنة الله عليه , قوله تعالى ” وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف : 21] ” , فهذا دليل على أن إبليس كان ظاهرا لآدم , و إلا كيف أقسم لهما ؟

إذ لا يعقل أنه قاسمهما في الوسوسة .
وطبعا هناك أدلة أخرى كثيرة على دور الملائكة و أن البشر كانوا يرونهم , ولكن هذا سنعرض له عند الحديث عن التأويل التاريخي للقرآن , والله المستعان .

إذا نخرج من هذا المبحث أن آدم عليه السلام لم يكن وحيدا , وأنه خلق من الأرض و لكن بطريقة طبيعية وليس بطريقة إعجازية , وذلك عن طريق الخلق في الأرحام الأرضية , وبعد ذلك اصطفاه الله واختاره ليعلم البشر , و أن ما يقوله السادة العلماء في تأويلهم للآيات لا يتفق مع القرآن ,

ونخرج بأن القرآن أعطى تصورا كاملا متكاملا غير منقوص أو أدبي لا مقابل له , وعلينا أن نسير في الأرض لننظر كيف بدأ الخلق والله أعلم .

تم ولله الحمد والمنة ووقانا الله الزلل .

[1] نحن نرى أن هذا التفاعل تم عن طريق الملائكة التي كانت تأخذ الخلايا الحيوانية وتضعها في الأرحام الأرضية حتى يتم اكتمال النمو و خروج الحيوان من الأرض .

[2]محمد شحرور , الكتاب والقرآن قراءة معاصرة .

[3]كم ستكون فرحة الشيعة غامرة عندما يثبت أن المجموعة الشمسية اثنى عشر كوكبا ! .

[4]ظهر لي هذا الفهم في أواخر الصف الدراسي الثالث الجامعي , و كنت مترددا فيه في باديء الأمر ثم ثبت عليه فيما بعد في أوائل الصف الدراسي الرابع .

[5]أنا أرى أن استعمال كلمة ” خلية ” لهذا المدلول استعمال خاطىء , والأولى استعمال كلمة ” سلالة ” فهي التي وردت في القرآن ويتطابق وصفها مع حال ” الخلية ” , ونلاحظ أنها بالإنجليزية cell, وبالألمانية Zelle, ويلاحظ التشابه الشديد بين بناء الكلمات و بين ” سلّ ” العربية .

[6]يمكننا أن نفهم هذه الآيات أيضا على أنها في مرحلة واحدة وهي مرحلة الخلق العادية هذه الأيام وليس مرحلة خلق الإنسان الأول من الأرض مباشرة , فالتراب هو أصل المواد الغذائية التي يأكلها الإنسان , ومن هذه المواد يتكون المني أو البييضات , و الذي ينشأ منهما الجنين بعد ذلك .

[7]المتدبر في القرآن يجد أنه أيضا ينفي مسألة أن آدم خلق كتمثال ثم نفخ فيه الروح , فمن ينظر في القرآن يجد أن الله تعالى يقول ” و َإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ [الحجر : 28]

فالله تعالى قال للملائكة ” إني خالق بشرا من طين ” , ومن البدهي أن البشر كائن حي , فإذا كان الله سيخلق تمثالا ثم ينفخ فيه الروح لقال ” إني خالق كهيئة البشر ” , كما قال عيسى عليه السلام ” أخلق لكم من الطين كهئة الطير ” , فعيسى عليه السلام كان يشكل تماثيل على هيئة الطير , أما الله فخلق بشرا وليس كهيئة البشر , و تأمل الفرق .

[8]طبعا نحن لا ننفي أن يكون خلق المسيح عليه السلام تم بشكل آخر إعجازي , ولكنا نذكر هنا احتمالية للفهم .

[9]و من ذلك قوله تعالى ” هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً [الإنسان : 1] “ ولكن العجيب أن السادة المفسرون فسروها تفسيراعجيبا , فقالوا كما أورد الإمام الرازي :

: ” اتفقوا على أن { هَلُ } ههنا وفي قوله تعالى : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية } [ الغاشية : 1 ] بمعنى قد !!، كما تقول : هل رأيت صنيع فلان ، وقد علمت أنه قد رآه ، وتقول : هل وعظتك هل أعطيتك ، ومقصودك أن تقرره بأنك قد أعطيته ووعظته ، وقد تجيء بمعنى الجحد ، تقول : وهل يقدر أحد على مثل هذا ، وأما أنها تجيء بمعنى الاستفهام فظاهر

والدليل على أنها ههنا ليست بمعنى الاستفهام وجهان الأول : ما روي أن الصديق رضي الله عنه لما سمع هذه الآية قال : يا ليتها كانت تمت فلا نبتلي ، ولو كان ذلك استفهاماً لما قال : ليتها تمت ، لأن الاستفهام ، إنما يجاب بلا أو بنعم ، فإذا كان المراد هو الخبر ، فحينئذ يحسن ذلك الجواب الثاني : أن الاستفهام على الله تعالى محال فلا بد من حمله على الخبر .” اهـ

إذاً فهم السادة العلماء أن هل بمعنى ” قد ” !!, وبدلا من أن يقولوا أن الله يعلم هذا الأمر فهو يعرضه علينا من باب السؤال , لنسأله نحن لأنفسنا فنتحرك لنجيبه , فنبحث في عملية خلق الإنسان , قالوا إن هذا محال على الله , إذا فالاستفهام خبر , فاقرأ و تعجب !! .

[10]درسنا هذه الآية في دروس العقيدة في الثانوية الأزهرية ولقنونا التبرير المذكور وقبلناه كرأي مقبول وبدون أي اعتراض , فقد كنا لا نزال شبابا أغرارا نصدق كل ما يقال لنا .

[11]يمكننا القول أن الأسماء التي علمها آدم هي صفات الأشياء المرتبطة بها, وهذه الصفات هي العلاقة بين الدال والمدلول والتي على أساسها نشأت اللغة , ولكن كما قلنا نتوقف إلى أن يظهر الله لنا أو لغيرنا فيها فهما شافيا .

[12]كما قلنا سابقا فالقرآن لم يذكر الروح أبدا على أنها سبب للحياة أو أنها تخرج عند الموت , بل يذكر دوما ” النفس ” أو ” الأنفس ” , وتتبع هذا في السنة , فنجد دوما أن الرسول المعصوم كان يقول دوما ” والذي نفس محمد بيده ” , فلم يرو عنه مرة أنه قال ” والذي روح محمد بيده ” , والناس هم الذين خلطوا بين الروح والنفس وجعلوهما واحدا , وطبعا نحن نعرف من السبب في هذا الخلط .

[13]طبعا أكثر المسلمين يتصور الروح شيئا أقرب إلى الشبح موجود بداخلنا , ويخرج هذا الشبح عند الموت من الإنسان ويحلق في الفضاء إلى أن يصعد إلى السماء , وطبعا ترسخ هذا التصور بسبب أقوال العلماء و أفلام السينما !! .

[14]نحن لا ننفي أن للبيئة وللتربية دور كبير في نسبة الذكاء وفي تشكيل المشاعر , ولكن هذا يتوقف بدرجة أساسية على القابلية الداخلية النابعة من الروح .

[15]من ينظر في تفسير هذه الآية يجد أن السادة العلماء قلبوها تماما , فبدلا من أن يفهموا الآية كما هي , قالوا إن معنى الآية ” ما نهاكما ربكما عن تلكما الشجرة لئلا تكون ملكين و تكونا من الخالدين ” أي أن الشيطان أقنع آدم أن الله عزوجل ما منعه عن هذا الشجرة إلا لكي لا يكون آدم ملكا أو من الخالدين .

وهذا الفهم خاطىء تماما , فالآية لم تقل هذا المعنى بتاتا , وطبعا عند السادة العلماء الدليل من كلام العرب !! , ولكن نحن عندنا الدليل من القرآن , ولن نفترض وجود محذوف فيه , فنفهم الآية كما هي , أي أن الشيطان قال لهما ” أنا لا أعتقد أن الله نهاكما أنتما عن هذا الشجرة , فالنهي ليس موجها إليكما إلا في حالة كونكما من الملائكة أو كونكما من الخالدين ” , – ونحن نتوقف هنا في نوع الخالدين المخالف للملائكة – وبما أنكما لستما من الملائكة أو من الخالدين , فيمكنكما أن تقربا هذه الشجرة .

والأمثلة على ذلك كثيرة في اللغة , و من أمثلته الموجودة في القرآن قوله تعالى ” قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنعام : 145] “
فماذا يفهم القارىء من هذه الآية ؟

القارىء سيفهم أن الله يحكي على لسان النبي ص أنه لا يوجد صنف محرم من الطعام في هذه الشريعة إلا أن يكون واحدا من هذه الأصناف الأربعة , إذا فشرط التحريم اندراج الطعام في هذه الأصناف , و إن لم يكن منها فليس بمحرم . فكذلك الآية السابقة تقول أن إبليس خدع آدم و أوهمه أنه لا يدخل في الأصناف المواجهة بالخطاب لأنه ليس من الملائكة أو الخالدين .

والملاحظ أن الله عزوجل عندما خاطب آدم وزوجه قال لهما ” و َنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ [الأعراف : 22] “
فلو كان المعنى الذي يقول به المفسرون صحيحا , لكان من باب أولى أن يعاتب الله عزوجل آدم وزوجه قائلا ” لم سمعتما للشيطان وشككتما في كلامي ؟ ”
والسادة المفسرون لا يتحرجون أن يقولوا أن آدم عليه السلام شك في ربه , و شك أن الله لم يخلص له النصح , فهل يمكن أن يقبل هذه من إنسان عادي , فما بالنا بإنسان مختار ومصطفى ؟ , ولا حول ولا قوة إلا بالله .

[16]طبعا من الممكن أن يفهم الهبوط على أنه قريب من معنى النزول فكما قال سيدنا موسى “ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ………. [البقرة : 61] ” , فهنا الهبوط والله أعلم لا يستلزم أن يكون من علو , ولكنه قريب من معنى النزول , كما يقال نزلت في الفندق , ونزلت عليه ضيفا . وهناك من يفهم أن الهبوط في هذه الحالة كان هبوط درجة و منزلة .

[17] قد يتحرج البعض من القول أن آدم عليه السلام كان همجيا أو عاريا و لكن لا حرج في ذلك فكلنا نولد عراة ولا نفقه شيئا ونتصرف كالحيوانات تماما ثم نبدأ في اكتساب كل المعارف تدريجيا وهذه هي سنة الحياة .

[18]الخصف كما جاء في المقاييس هو : الخاء والصاد والفاء أصلٌ واحدٌ يدلُّ على اجتماعِ شيءٍ إلى شيء. وهو مطّرِدٌ مستقيم. فالخَصْف خَصْفُ النَّعْل، وهو أن يُطَبَّق عليها مثلُها. والمِخْصَف: الإشْفَى والمِخْرزُ. قال الهذلي
حَتَّى انتهَيْتُ إلى فِراشِ عَزِيزةٍ *** سَوداءَ رَوْثَةُ أَنفِها كالمِخْصَفِ
يعني بِفراشِ العَزيزة عُشَّ العُقَاب.
ومن الباب الاختصاف، وهو أن يأخذ العُرْيانُ على عَوْرته ورقاً عريضاً أو شيئاً نحْوَ ذلك يَسْتَتِرُ به. والخَصِيفة: اللَّبنُ الرائبُ يُصَبُّ عليه الحليب.

ومن الباب، وإن كانا يخْتلفانِ في أنّ الأوّل جَمْعُ شيءٍ إلى شيء مطابقةً، والثاني جَمْعه إليه من غير مطابقة، قولُهم حَبْلٌ خَصِيفٌ: فيه سوادٌ وبياض. قال بعضُ أهلِ اللُّغة: كل ذي لونينِ مجتمعين فهو خَصِيفٌ. قال: وأكثر ذلك السَّوادُ والبياضُ . وفرس أَخْصَفُ، إذا ارتفَعَ البلَق من بطنه إلى جنْبَيه. اهـ
ونلاحظ أن ابن فارس ذكر هذا المعنى تأثرا بالفهم التوراتي للآية .

[19]و نذكر هنا رواية عن الإمام جعفر الصادق تنفي هذه الخرافة وخرافة أخرى هي خلق حواء من ضلع آدم الأيسر حيث تقول الرواية ” سأل رجل جعفر الصادق : كيف بدأ النسل من ذرية آدم فإن عندنا أناسا يقولون : إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى آدم أن يزوج بناته بنيه , و أن هذا الخلق كله أصلهم من الأخوة والأخوات , فقال الإمام جعفر الصادق : سبحان الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا , يقول من يقول ذلك أن الله عزوجل جعل أصل صفوة خلقه و أحبائه و أنبيائه ورسله والمؤمنين والمسلمين والمسلمات من الحرام , ولم يكن له من القدرة ما يخلقهم من الحلال , وقد أخذ ميثاقهم على الطهر والحلال والطيب ؟ قال زراره ثم سئل عليه السلام عن خلق حواء , وقيل له إن أناسا عندنا يقولون : إن الله عزوجل خلق حواء من ضلع آدم الأيسر الأقصى , قال سبحان الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا , يقول من يقول هذا , أن الله تبارك وتعالى لم يكن له من القدرة ما يخلق لآدم زوجا من غير ضلعه , وجعل لأهل التشنيع سبيلا إلى الكلام , يقول إن آدم كان ينكج بعضه , إذا كانت من ضلعه , ما لهؤلاء , حكم الله بيننا وبينهم .” اهـ

[20] في الحديث ترسيخ واضح لعقيدة الجبر .

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

سؤال: هل يمكن للعلم أن يثبت شيئا حكم العقل بإستحالته؟

جاءني سؤال يقول:استاذ عمر هل فعلا يمكن للعلم ان يثبت شيئا حكم العقل باستحالته ؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.