امتاز التصور الإسلامي للأنبياء عن باقي التصورات سواءا الأرضية منها أوذات الأصل الإلهي منها الذي ناله القسط الوافر من التحريف بأنه قدم تصورا منطقيا مثاليا للأنبياء لا يرقي إليه عامة البشر , وعلى الرغم من اعتراف القرآن وإقراره أن الأنبياء ربما يرتكبوا من الأخطاء بعضها , إلا أن هذه الأخطاء أخطاء ! نابعة عن سوء تقدير وتخطيط وليست عن تعمد المعصية .
وبغض النظر عن هذه النقطة فإنا نجد أن الرأي المنتشر بين عامة المسلمين هو أن الأنبياء هم النموذج المثالي الذي أختاره الرب الخبير ليكون قدوة للبشر , لذا حاول المفسرون قدر الإمكان دفع الشبهات عن هؤلاء الأنبياء حتى يظلوا على هذا القدر من السمو الخلقي !
والعجيب أن السادة المفسرين أخذوا يلوون أعناق بعض الآيات القرآنية حتى يبرأوا النبي أو أخوته من الأنبياء مما نعتهم به القرآن ! ثم وقعوا هم في فخ التسليم بما تقولته الإسرائيليات عليهم , فرفضوا الحق القرآني واتبعوا الباطل الإسرائيلي .
والموضوع الذي نناقشه اليوم هو نموذج لهذا المسلك العجيب من المفسرين حيث وصموا النبي سليمان عليه السلام بالسرقة والسفه في آن واحد !
على الرغم من كونه مشتهرا بسليمان الحكيم ! وقد يعجب القارئ من هذه الدعوى ويسأل : أين وصمه المفسرون بهذه الصفات ؟ فنقول : إقرأ وستكتشف بنفسك كيف اُتبعت الإسرائيليات في فهم الكتاب العزيز :
اتهم السادة المفسرون سيدنا سليمان بالسرقة عند تناولهم للآية : ” قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل : 38] “
فنجد أن السادة المفسرين يطبقون على أن ” يأتيني ” في ” يأتيني بعرشها ” بمعنى ” يحضر لي ” , و نجد أنهم قاطبة قد نسوا أن هذا الفعل تحت أي مسمى هو سرقة , فسواء كان هذا من أجل هدايتها أو اختبارها , فهو شاؤا أم أبوا سرقة , فهذا الفهم لا يقبل .
ونحن نقر أن ” أتى ب ” يأتي بهذا المعنى فعلا , ولقد جاء بهذا الاستعمال في القرآن في آيات عدة , منها قوله تعالى “ُكلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران : 93] “
ولكن نفس التركيبة تأتي بمعنى آخر في القرآن الكريم وفي مألوف استعمالنا وليس في غريبه , وهذا المعنى والمدلول الشهير هو ” الفعل ” , ف ” أتي ب ” تأتي بمعنى فعل الشيء , وذلك مثل قوله تعالى : ” قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأعراف : 106] “ . أي فافعلها وقم بها إن كنت من الصادقين , ومثل قوله تعالى “قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء : 88] “ فليس المقصود هنا بأي حال أن يذهبوا فيحضروا قرآنا من مكان إلى مكان آخر وإنما المقصود الإنشاء والصنعة , ومثل قوله تعالى ” وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة : 23]” فهل المقصود هنا الإحضار ؟
بداهة لا , فهذا الاستعمال معروف حتى في لغتنا العادية وذلك مثل قولنا ” أتيت بالشيء على أمثل وجه ” أي قمت به و فعلته على أمثل وجه .
إذا فالأولى أن نفهم أن طلب سيدنا سليمان من مستشاريه كان منحصرا فيمن يستطيع أن يقوم بعمل عرشها قبل أن يأتوه مسلمين , وتأمل المشاكلة في قوله تعالى ” يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي “ , وليس فيمن يحضر له عرشها , و كأن كون الإنسان نبيا كافيا في أخذ حاجيات الناس بدون إذنهم !! .
فإذا نحن فهمنا هذه الآية على هذا النحو لزم علينا أن نفهم الآية التالية و هي قوله تعالى ” قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ [النمل : 41] “ فهما مغايرا للمألوف فلقد قال المفسرون : إن سليمان عليه السلام أمر أتباعه أن ينكروا لها عرشها أي اجعلوا العرش منكراً مغيراً عن شكله كما يتنكر الرجل للناس لئلا يعرفوه ، وذلك لأنه لو ترك على ما كان لعرفته لا محالة , وهذا الفهم غير مقبول لأنه مترتب على إحضارهم العرش و هم لم يحضروه |
إذا يجب أن نفهم هذا الأمر على نحو آخر, ألا وهو:
أن يقال أن نكروا هنا المراد منها جعل عرشها نكرة بالمقارنة بهذا العرش , فإذا رأت هذا العرش عرفت مقامها ومقدرتنا ومنزلتنا , فتترك الكبر وتتفكر , أما أن يقال نكروا بمعنى غيروا فما المراد منه , و ما الذي يجعلها تهتدي , إذ لو كان المراد كما يدعون أن يبرزوا لها مقدرة سليمان لتركوا العرش – الذي سرقوه ! – كما هو حتى تتأكد أنه عرشها فتعرف بمقدرة سليمان الجبارة .
إذا بهذا الفهم المأخوذ من اللغة الراجح لاتباعه قواعد العقل والشرع نكون قد برأنا سيدنا سليمان من السرقة , وننتقل إلى النقطة الثانية وهي اتهامه بالسفه !
وهذا ما قاله السادة المفسرون عند تفسيرهم ! لقوله تعالى ” قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [النمل : 44] ”
فبدلا من أن يوضح لنا السادة العلماء لم أسلمت ملكة سبأ بعد رؤيتها الصرح , وجدناهم يروون أخبارا عجيبة في تعليل فعل سليمان فقالوا : ” وزعموا أن الجن كرهوا أن يتزوجها فتفضي إليه بأسرارهم لأنها كانت بنت جنية ، وقيل خافوا أن يولد له منها ولد فيجتمع له فطنة الجن والإنس فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشد ، فقالوا إن في عقلها نقصاناً وإنها شعراء الساقين ورجلها كحافر حمار فاختبر سليمان عقلها بتنكير العرش ، واتخذ الصرح ليتعرف ساقها ” اهـ ,
و لست أدري أي أسرار هذه التي يخافون أن تكشفها له , وهم مسخرون عنده بأمر الله ؟ !! , وهل بلغ بنبي الأمر مرسل أن يبني صرحا ممردا من أجل أن يرى ساقي امرأة؟ هذا سفه لا يقبل ويجب التنزه عنه . والحق يقال أنهم لم يهملوا تماما سبب إيمانها فوجدناهم يقولون ” فلما قيل لها هو صرح ممرد من قوارير استترت ، وعجبت من ذلك واستدلت به على التوحيد والنبوة ، فقالت : { رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى } فيما تقدم بالثبات على الكفر ثم قالت : { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سليمان لِلَّهِ رَبّ العالمين } ” اهـ
و لكن هل كون الصرح من قوارير كاف لكي يؤمن الإنسان ؟ بداهة لا يؤمن الإنسان لوجود صرح عال ضخم مبني بطراز مختلف على مستوى عالى من التقدم , مهما كانت درجة التقدم , ولكن لماذا أسلمت إذا ؟
نقول الغرض من إدخالها الصرح – والله أعلم – أن تمر بهذه التجربة , فلقد بني سليمان عليه السلام صرحا من الزجاج الشفاف تجري من تحته المياه , بحيث تعتقد أنها ستمر من فوق الماء
ونظرا لأن الزجاج كان شفافا لا يرى , فقد كشفت عن ساقيها , فهنا قال لها سليمان عليه السلام أنه صرح ممرد من قوارير , ففهمت ملكة سبأ الدرس الذي أراد لها سليمان أن تفهمه , وهو أنه ليس كل ما لا يرى ليس موجودا , فهي كانت تعبد الشمس لأنها تراها , فأعلمها أن هناك إله وراء الشمس لا نراه بأعيينا ولكنه موجود ونحس كلنا بوجوده وبفعله و بأثره في الكون وهو المستحق العبادة.
فانظر أخي في الله كيف أن أفعال الأنبياء كلها من أجل حكمة , وكيف فهمت الملكة العظيمة الدرس الذي أعطاه لها سليمان .
إذا الغرض من هذه القصة عرض المستوى العظيم لملك سيدنا سليمان عليه السلام وكشف تدليس اليهود في عرض تاريخه , و إظهار كيفية التعامل مع نعمة الله و استخدام الحكمة في الدعوة إلى الله .
والعجيب أن سمعت هذا القول من مستشرقة ألمانية في إحدى الندوات – وليست هي التي عرفتني به – فعجبت كيف أنها تفهم كتابنا أكثر من بعض المفسرين !
وبهذا نكون قد برأنا النبي الكريم من هذه التهمة الملصقة به كما ألصقت به أختها السابقة , هدانا الله وإياكم إلى سواء الصراط .