في المبتدأ ماذا أقصد ب “الخطاب الشبابي” الذي أود نقده؟! لأن هذا التعبير غير متداول، إذ يُسمع عن: الخطاب الديني، الخطاب الثقافي، الخطاب العلمي. لذا أوضح فأقول: لا أقصد بهذا “الخطاب” الموجه من الكبار إلى الشباب وإنما: الانتاج “الفكرفني” الفردي الصادر من الشباب والموجه غالبا لهم كذلك.
ونتوقف مع هذا “التعريف” القصير للخطاب الشبابي لنحاول أن نستشف منه بعض السمات، فأقول: الملاحظ في الخطاب الشبابي أنه خطابٌ ذاتي لأنه من الشباب وإلى الشباب .. يعبر عن طموحاتهم .. تفكيرهم .. اهتماماتهم .. أنشطتهم .. احتياجاتهم، وهو خطاب غير متعد لا يصلح إلا للشباب فمن الصعب أن يخاطَب به الجيل الأصغر أو الأجيال الأكبر.
وهو كذلك “فرداني”، خطاب فردي بسيط يقوم به فرد -أو مجموعة صغيرة من الأفراد- كل ما يحتاجه هو كاميرا ومساحة تسجيل، فهو إذا ليس إنتاجا مؤسساتيا.
والتعبير عنه بأنه “فكرفني” مقصود، للإشارة إلى أنه إنتاج فكري ممزوج غالبا بصبغة فنية ما، إذ من الصعب جدا أن ينتج الشباب “فكرا” مجردا، لذا نجد أنه يغلب عليه الصبغة المرئية أو السمعية.
فإذا تساءلنا حول “المحتوى” الذي يقدمه الخطاب الشبابي، نجد أنه محتوىً متنوع، يبرز فيه: التعليم وتبسيط العلوم، والتبسيط بشكل عام سواء كانت فنوناً أو مهارات أو غيرها، حيث يقدم فيها الشباب أنفسهم ك “وسائط ناقلة” للمعرفة، -وليس منتجة- إذ من الصعب أن يقدم الشباب فكرا ذاتيا خاصا بهم. ولا يقتصر الأمر على هذا وإنما يتعداه كذلك إلى الترفيه، والقيام بعمل دعاية وترويج لمنتجات تجارية، (وتقوم نسبة من الفتيات بعرض أجسادهن بطرق مختلفة لجذب الكثير من المشاهدات)
وبالإضافة لذلك فإن الخطاب الشبابي منشغل بتقديم “الأحدث” في كل الأمور!: تعرف على الإصدار الأحدث من برنامج/ جهاز كذا! أحدث الأبحاث العلمية في التنحيف وإنقاص الوزن! أحدث النظريات العلمية في مجال …! دراسة علمية حديثة تثبت …!
فإجمالاً نجد تركيزا على “الحداثة” والتحديث، فهما مطلوبان كهدف في ذاته! وهو ما يجعل “وجه/وجهة” المستقبِل مركزة على المستقبَل!
وبالتوازي مع الحديث فهناك انشغال بتقديم “الجديد”، من خلال محاولة طرق مساحات “بِكر” غير مطروقة مثل تعليم اللغات بطرق حديثة والتعريف بالآخر وثقافاته .. الخ.
فإذا تركنا التعريف –والذي هو لا محالة غير دقيق!- وأردنا أن ننتقل إلى النقطة المحورية، والتي هي نقد هذا الخطاب، قد يستوقفنا القارئ متسائلا: ما الإشكاليات في هذا الخطاب؟ ألم يقم هذا الخطاب ب “تبسيط العلوم” وتقديمها بشكل مرئي لشريحة من الجمهور لم تكن تقرأ أصلا؟! وكذلك قام بتقديمها بشكل مسموع مما أتاح الفرصة لكثير آخرين أن يتلقوا المعرفة وهم يقودون بدلا من أن يضيع هذا الوقت؟!
فأقول: لا يعني نقد ظاهرة ما أنها “شيطانية” مفسدة، فيقينا بها الكثير من الجوانب الإيجابية ولكن كذلك يوجد بها مشاكل لا يلتفت إليها كثيرون ونحن ننبه إليها، حتى يحاول القائمون عليها تقليل هذه المشاكل وحتى ينتبه المستهلكون إلى هذه المشاكل فيقللون أو يعدلون من طريقة استهلاكهم لهذا المحتوى.
وبعد هذا التوضيح أبدأ في سرد “سلبيات” لهذا الخطاب الشبابي فأقول:
كانت بداية الخطاب الشباب “تكنولوجية تقنية ترفيهية”، إذ توفر لبعض أفراد هذه الأجيال من المعارف التقنية –بسبب التطور التكنولوجي السريع- ما لم يتوفر للأجيال السابقة، ومن ثم بدأوا بتقديم محتوى تعليمي تعريفي تقني، وهذا جيد، ولكن المشكلة أن الأمر اتسع وتمدد حتى شمل جل إن لم يكن كل مجالات الحياة، والتي معارفهم فيها لا محالة محدودة وقاصرة.
وهذا التمدد “الكمي” للإنتاج الشبابي في كل مجالات الحياة أدى إلى مشكلة كبيرة، وهي مشكلة “الحجب” وإيجاد قطيعة “معرفية ووجدانية” مع الأجيال الماضية والتراث كإنتاج فكري، ومع الأجيال المعاصرة الأكبر سنا كخبرة، وذلك لأن الخطاب الشبابي يُقدم بطريقة مبسطة ممتعة تغطية لجوانب حياتية كثيرة لم يكن الخطاب القديم يُعنى بتقديمها، إذ كان يُكتفى بتناقلها كخبرات شخصية من أفراد لآخرين وليس كخطاب جمعي، ومن ثم فلم تعد المشكلة: لماذا أترك الممتع واستمع إلى “الجاف”؟! وإنما أصبحت هي “تضخم” “الذات” عند الشباب، والتي أعاقتهم عن التعرف على الكثير من المعارف غير الذاتية! فتاريخ المجتمع الذي ينتمون إليه –بل وربما العائلة كذلك- لا يعرفون عنه إلا قشور القشور، وكثير من المعارف الأخرى لا يُجدون وقتا لاستكشافها لامتلاء يومهم بالمحتوى “الذاتي” عن الملبس والمأكل والزينة والترفيه والصراعات واكتساب المال بذكاء ووو.
وبالإضافة للقطيعة مع المعارف حدثت قطيعة مع الأجيال السابقة، فلكون الخطاب الشبابي –غير العلمي- خطاباً “ذاتيا” نابعا من شباب لهم نفس الأفكار فهو أكثر إقناعا من الخطاب الصادر من الأجيال الأقدم، والتي تحمل فكراً آخر بحكم تقدم العمر واختلاف المنظور، ومن ثم لم يعد الشباب مجبورين –معرفيا- على السماع للأكبر سنا –كما كان أبد الدهر الحال، فمن أين سيستقون معارفهم سوى من الكبار؟!- بينما يمكنهم الآن أن يسمعوا لشباب مثلهم (أصبحوا يُنظر إليهم ك “قدوات” لهم خبرات حياتية!!!) يقدمون لهم إجابات لتساؤلاتهم وتصورات حياتية –يرونها- أكثر واقعية وأكثر نفعا ومعارف مناسبة لواقعه ووو.
ونتيجة للإنصات إلى الذات –وليس إلى الآخر- ازدادت وعلت نسبة التمرد –الموجودة فطرياً- عند الشباب، حتى وصل الحال بنسبة كبيرة –لا أعلمها- إلى التمرد على المسارات والإلزامات المجتمعية والأخلاقية والدينية والمقدمة لهم من “الكبار”، سواء كان هذا التمرد والرفض فكريا أو قوليا أو فعلياً!
(مثلما صار الحال مع النسويات اللاتي يرفضن ما يأتي من الذكور لمجرد كونهم ذكورا!!)
ولن نلقي في هذا السياق مسئولية حجب المقروء على الخطاب الشبابي وإنما هو ذنب “التقنيات” الحديثة! إذ تسببت “مزية” الحصول السهل على المعرفة (ببعض من الدقة ربما: المعلومة) سواء مسموعة أو مقروءة إلى تراجع القراءة بدرجة كبيرة!! ولكن ما يمكننا أن نلوم عليه هو “الإكثار” من التلخيصات/ الخلاصات، فهي وإن كانت مفيدة من ناحية، إلا أنها من ناحية أخرى تصد كثيرين عن القراءة، فلماذا أقرأ إذا كان يمكنني الحصول على الخلاصة أو “الزيتونة/ اللُب” في دقائق!!
فإذا تركنا هذه الزاوية وانتقلنا إلى الامتداد “الزمكاني” للخطاب الشبابي –غير العلمي-، وجدنا أن الخطاب الشبابي خطاب “لحظي”، ابن بيئته الصغيرة بأحداثها الراهنة “القصيرة جدا”، و “الفلوجات” خير مثال على هذا! لذلك فمن الصعب أن يشاهده أفراد من بلد أخرى، ولن نتحدث عن صعوبة أن يظل مشاهَدا مطلوبا لأجيال قادمة، وإنما بعد أشهر من إنتاجه، لأنه يقدم “مسائل/ قضايا” سطحية ذاتية “فارت” وأثارت ضجة ثم انتهت وظهر غير أخرى تفور وتثير الضجة فيُلتفت إليها … وهكذا.
وإذا كان هذا الخطاب قصير الامتداد زمانيا ومكانياً فمن الصعب جدا أن يكون “عميقا”، وغالبا ما ستطغى عليه “السطحية”! ومن أوجهها: التعليق على المنتج الفكري (وليس الشروحات .. لأن الشروحات تطويل وتقتضي استقصاء وتتبع، بينما التعليق لا يشترط هذا)، كذلك نجد التركيز في هذا المحتوى على الجزئيات وربما “جزئيات الجزئيات”، ومن الصعب جدا أن يتم تقديم “كليات”!!
فإذا انتقلنا إلى مسألة “الغاية” من الخطاب الشبابي، وجدنا أنها بدرجة كبيرة هي: الربحية عن طريق الشهرة، -ثم يأتي بعد ذلك: نشر المعرفة-، ولأن الغاية الرئيسة من الخطاب هو التربح فإن هذا يُحتم على مقدمه العديد من الأمور مثل تقديمه بشكل جد مثير، ربما الخداع في العناوين، تقديم محتوى مثير أصلاً، التركيز على محتوى يخاطب أكبر شريحة ممكنة، الاهتمام ب “شكل” وطريقة تقديم المحتوى أكثر من “الجوهر”، عن طريقة زيادة كم “المرئيات” في المحتوى، بل وربما التمثيل أحيانا من أجل مزيد من الجذب والتشويق! ومقدمة أي موضوع التي ربما كانت تأخذ سطرين أصبح يُبذل فيها مجهود كبير لإيجاد مقدمة جذابة “تغري” المتابع –الملول- أن يكمل مشاهدة المحتوى.
ولأن جيل الشباب لا يزال في مرحلة “تكوين” ذاته، فإننا نجدا تركيزا كبيراً على الجوانب العملية، على العمل ومهاراته وكيفية الوصول إليه والنجاح فيه. وليس في هذا أي مشكلة، المشكلة هي في جعل النجاح في الحياة “هدفا للحياة”!! وكذلك في لغة “الخطاب” المادية المهيمنة والمسيطرة (والنابعة من الفكر الرأسمالي الغربي المادي!)
ولذلك نجد أن النسبة الأكبر من المحتوى المقدم يُركز على الماديات .. وربما يتناول المعنويات .. ولكنها تُقدم –غالبا- من منظور مادي كذلك! وكما هو متوقع فإن كم “الروحانيات” في هذا الخطاب قليل! وهذا القليل لم يخل من سطحية ومادية .. حتى إننا وجدنا من يستخدم مصطلحات تجارية مأخوذة من لغة “البيزنس” في الخطاب الروحي!!
وبالإضافة إلى اللغة المادية فإن الخطاب الشبابي غالباً ما يُقدم باللغة العامية/ الدارجة، وقليل جدا منه ما يُقدم بلغة عربية فصيحة.
في الختام أقول:
ذكرت هنا أهم انتقاداتي للخطاب الشبابي، ولا يزال هناك غيرها، ولكن لا يتسع المجال لذكرها في مقال، ولكن يمكنني أن أجمل فأقول:
إن الخطاب الشبابي أفلح في أن يحقق امتدادا “أفقيا” فحقق –حتى الآن- انتشاراً على مستوى الكمّ، فهل سيستطيع في العقد القادم مثلا أن يتلافى كثيراً من هذه الانتقادات ويحقق انتشارا على مستوى الكيف؟ مرتفعاً من مستوى “الأكلات السريعة” إلى درجة “الغذاء الصحي” الفكري المفيد؟! وهل سيستطيع أن ينسجم مع المنتوج الفكري الكلي فلا يكون عائقا حاجزا؟!
“أتمنى” هذا!