الزائر لمتحف تاريخ الفنون في العاصمة النمساوية فيينا سيجد عرضا لعباءة الملك النورماني روجر الثاني المطرزة باللغة العربية، من كتب له العالم الجغرافي الشريف الإدريسي كتاب روجارأو نزهة المشتاق في اختراق الأفاق، إبان القرن السادس الهجري حين كان للمسلمين حضارة في في صقلية ووجود ثقافي ومعرفي مهيمن حيث ابقى الحكام الجدد” النرومان” على علماء المسلمين وإدارييهم بل كان البلاط عربي الهوى، كما أن آل هوهانشتاوفن الجرمان الأصل من كانت العربية لغتهم الثقافية وكان يتقنها الملك فريدريك الثاني لأنها لغة علوم الفلك والرياضيات على الرغم من أنه قام فيما بعد بمحاربة المسلمين في الجزيرة واعتقالهم في معسكرات في باري جنوب إيطاليا حتى تم استرقاق و تنصير المسلمين قسرا.
وبحلول القرن 14 الميلادي اختفى وجود المسلمين وإن بقت منتجاتهم الحضارية والثقافية وكذا الأمر في إسبانيا حيث كان الحكام الكاثوليك الإسبان حين احتلوا اشبيلية كُتب بالعربية على أسقف القصر العز لمولانا السلطان دون بدرة بالعربية فعلى الرغم من العداوة السياسية كانت العربية والثقافة الاسلامية رمزا للرقى المعرفي حتى اختفى وجود المسلمين في شبة جزيرة ايبيريا في القرن 17 اللهم بعض المسلمين سرا من بقى من اسلامهم أهداب، و اختفت تلك الحضارة و لم يبق منها سوى الأثار التي تدر ملايين اليوروهات على إسبانيا الرسمية المتنكرة لهذا الماضي.
بحلول القرن التاسع عشر الميلادي كان العالم الإسلامي بأكمله تحت الحكم الأوروبي سواء كان المسلمون أغلبيات أم أقليات، وبدأ العمل على تغيير نظم التعليم والقضاء وادخال فكرة الدولة القومية الحديثة التي تحتاج الى موظفين يتخرجون من مدارس حديثة يكونون ليس فقط نواة المنظومة الجدية بل لتكوين عقل جديد ونخبة جديدة لتغيير شكل المجتمع الذي كان على سبيل المثال كان يعيش على منجزات ونظم الحضارة الاسلامية التي دخلت ثقبا أسودا من القرن 17 الميلادي حين توقف الانتاج العلمي وركدت العلوم الشرعية والفكر بشكل عام اللهم اجتهادات وفتاوى في مسائل قضائية فرعية. لذا حين دخل نابليون مصر لم تكن هناك مؤسسة علمية مؤثرة في المجتمع سوى الأزهر، الذي تراجعت فيه العلوم الرياضية و الطبيعية بل حتى علوم الفقه و الأصول والحديث كان تقوم على كتب المتأخرين و لم يعد الطلبة يدرسون العلوم الطبيعية كما كان الأمر في قرون النهضة العلمية في القرون الست الأول أو حتى أمهات الكتب في العلوم الشرعية بل تم الأكتفاء بالشروح و الحواشي لمشايخ من عصر الركود و الجمود.
أمام هذا الاكتساح الغربي للعالم الاسلامي بدأت تظهر حركات إصلاحية في الهند ومصر والمغرب العربي وغيرها من أقطار العالم الاسلامي تدعو الى التجديد والانفتاح على أدوات وعلوم عصر الثورة الصناعية الأولى لكن دون وعى بفلسفة و مرجعية تلك النظم المعرفية والتعليمية وما ستحدثه من أثار على المجتمع، فضلا عن القيام بمراجعة علمية منهجية للتراث الضخم لاجيال متعاقبة في مجال المعرفة والتعليم فكان ضغط الواقع الإمبريالي أكبر من أي عملية اصلاح هادئ ينبع من داخل النسق الحضاري المسلم. و كانت العاقبة وخيمة فبدخول المدارس التبشيرية كاثولكية وبروتاستنتية في القرن ال19 عشر في مصر والشام وغياب أي رؤية لدى المؤسسات العلمية التقليدية التي رفعت شعار حماية التراث فبدأ الشقاق المجتمع بين خريجي المدارسي الجديدة القائمة على النظام الغربي الحديث التي بثت في عقول الطلاب نماذج معرفية جديدة مع تهميش التاريخ ومنتجات الحضارة الإسلامية لأن هذا النمط من التعليم كان الهدف منه السيطرة والاستلاب الثقافي والادراكي لتلك الدول لتحقيق المصالح الإمبريالية السياسية والإقتصادية فبدأت معارك التراث و الحداثة ولم تنته حتى يومنا هذا في القرن ال21.
بحلول القرن ال20 ومع فشل الدولة القومية الغربية الجذور في العالم السلامي في تحقيق نفس معدلات النمو الاقتصادي والرخاء الحاصل في الغرب، وهذا نتيجة ان العالم العربي والإسلامي لم تك لدية ثورة علمية أو معرفية مضارعة لما حدث في الغرب بل كان يقلد كما كان يقلد في الفقه من المذاهب : فوجدنا مدارس امريكية، كندية، ألمانية, فرنسية و جامعات غربية تخرج انسان وظيفي تكنوقراط يتعلم معارف وأفكار لا علاقة له بمجتمعه أو مصالح هذا المجتمع بل كل الهدف اتقان لغات و معارف يطلبها السوق لخدمة الرأسمالية الغربية وشركاتها الناهبة للقارات. أذا تكوين نخبة تخدم الاحتلال الجديد أو غزو الأفكار وابادة النظم المعرفية التي شكلت جذور تلك المجتمعات فبعد 100 سنة من تكون الجامعات الأهلية على النمط الغربي واستقدام فروع من جامعات أجنبية كما يحدث الآن في دول الخليح بل منها ما يدرس الإستشراق تحت مسمى الدراسات الإسلامية بأساتذة أجانب وهذا الخبل حدث في مصر حيث كان الملك فؤاد يرجو من جولدتسيهر المستشرق المجري التدريس! في جامعة القاهرة!
و ماذا كانت النتيجة؟ عقليات شوهاء لا تعرف لغتها ولا تاريخيها ولا تراثها ولا حتى الحداثة بشكل علمي منهجي دقيق و عميق، بل اصبحت هناك أجيال لا تجيد العربية كبعض دول المغرب العربي حيث البصمة الفرنسية المزمنة والخليج و الآن مصر بدأت تشهد هذة الظاهرة في أندية الصفوة الأطفال في سن مبكر يغنون بالانجليزية دون الوعى بخطورة ما يحدث من ابادة معرفية للرؤية الكونية الاسلامية الغائبة ولا يعني أن تلك الأجيال التي أصبحت غريبة عن ثقافتها ومجتمعها لا تصلي أو تصوم بل يحرص اباءهم على جلب محفظ خاص بالقرأن من أجل ذر الرماد في العيون. بل هم تحولوا بشكل غير واع لجنود احتلال محلي تمثل مصالح غربية متمثلة في شركات محاماة ومحاسبة دولية وكيانات غربية ضخمة تشيع قيم مادية استهلاكية تزيد الفقر كما تسحق الفقراء في مجتمعنا و تقسمه الى طبقات ممزعة .هذا المزج غير المتراكب بين نظم معرفية و تعليمية و اقتصادية غربية مهيمنة على واقع الناس اليومي فرض بقوة خارجية تؤثر بالسلب على وعى وادراك الإنسان العربي و المسلم مما يضغط نفسيا عليه نتيجة التناقض بين ما يؤمن به من قيم دينية اصيلة وما يعيشه من مفردات الواقع الدخيل والمصاغ من حضارة غالبة.
فالعالم الاسلامي بفقدانه منظومة معرفية و تعليمية تعبر عن قيمه و مصالحه ليست فقط فقدان للعلم والوعى بل ضياعا للحرية: حرية اختيار رؤيتنا للعالم بنظم تخدم تلك الرؤية.
في الختام، الاحتلال والإمبريالية العسكرية هى أضعف أنواع الإستعمار لذا أود أن استشهد هنا بموظف في الأدارة الانجليزية الاستعمارية في الهند: ألا وهو السير ماكولاى وهو مهندس إخضاع الهند من خلال التعليم حيث قال: “لابد أن يشعر السكان ( في الهند) بدنية معارفهم الأصيلة و ضرورة استبدالها بالمعارف البريطانية الحديثة”. فالرجل كان يعرف ان التحكم في الشعوب والبلاد يبدأ بتغيير التعليم. لقد قاوم المسلمون الاستعمار العسكري الكلاسيكي ونجحوا في اخراجه من بلادهم فبطولات عبد القادر الجزائري، عمر المختار، وعبد الكريم الخطابي شاهدات على ذلك، لكن خرج المحتل بجسده وبقيت أفكاره ونظمه ونخب كونها على أعينه. و هذا هو لب الفشل الذريع، لأن الاختراق الفكري والثقافي أشد خطورا وأخبث أثرا بل الإبادة المعرفية هي مقدمة لاغتيال أمة بأكملها.
و الله أعلم
بقلم :أحمد أمير