الراوي في القرآن الكريم!

هناك الكثير من النماذج التي يظهر فيها جليا الفهم الغير منطقي للتركيبات اللغوية, إلا أننا سنركز هنا على موضوع واحد وهو موضوع “الضمائر في القرآن”[1] أو مسألة “الراوي” أي على لسان من يُحكى القرآن الكريم!

القرآن كتاب الله, إلا أن الملاحظ أن الحديث فيه عن الله يكون غالبا بصيغة الغائب, وأن
الضمائر فيه تسير بشكل غير مألوف, وكنت عندما أقرأ القرآن يلفت نظري موضوع الضمائر هذا, ولكن كانت الإجابة التي تريح الذهن هي ما لُقناه في المراحل الدراسية من أن هذا أسلوب بلاغي معروف في اللغة!

وأنا لم أكن أرى فيه شيئا مثيرا جدا, أن ينتقل الحديث من المتكلم إلى الغائب أو من المفرد إلى الجمع أو العكس, ولكن كنت أقرأ ذات مرة في كتاب ناقش هذا الموضوع وفصله تفصيلا رائعا. وأنا وإن كنت أرى أن هذا الموضوع جائز في اللغة العربية, ولكنه يسبب الكثير من اللبس وفيه خروج عن المألوف

وبداهة فإن الأسلوب المباشر أفضل وأكثر وضوحا, وهو ما يجب أن يظهر جليا في القرآن, فرأيت أن كلامهم جيد وخاصة أنهم يكادون يتفقون معي في النهج الذي أتبعه. ينطلق قولهم هذا من فهم آية “و َمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى : 51]

” فهذه الآية غاية في الوضوح – مثل باقي آيات القرآن – وعلى الرغم من ذلك لم يفسرها أحد من المفسرين كما ينبغي!, فالكلمة تُقرأ بدون أي دلالة في الذهن, لذا فلنجزأ الآية جزءا جزءا حتى نُفهّمها لهم!:
الآية تتكلم عن طرق كلام الله للبشر, وهي ثلاثة:
1- الوحي وهو الإعلام الخفي[2].
2- من وراء حجاب.
3- أن يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء.


والنوع الثالث هو ما حدث مع النبي (ص), حيث جاءه جبريل وأوحى إليه الكتاب بإذن الله . ولزيادة التوضيح, نقول: كلنا نقر أن القرآن كلام الله, ولكن هناك آيات توضع على لسان غير الله مثل:
“و َقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الفرقان : 30] “ فهذا من كلام الله ولكنه محكي على لسان الرسول لأنه هو الذي سيقول ذلك

ومثل : “و َقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ [القصص : 38]”

فكذلك هذا الكلام محكي على لسان فرعون ولكنه من كلام الله , فالخلاصة أن القرآن كله من عند الله وهو كلام الله, ولكن الحكاية على لسان أفراد مختلفين, فهو يحكى على لسان موسى وعيسى والرسول والملائكة ويحكى من الله وعلى لسان النبي, وهكذا دواليك. فمن الذي يحكي عن الله في عامة القرآن, حتى أننا نجد أن الحديث عنه غالبا يكون في صيغة الغائب: “إن الله غفور رحيم, وقال الله, ضرب الله مثلا …..”

ففي هذه الأمثلة وكثير غيرها, يكون الحديث عن غائب, فأنا لا أتكلم عن نفسي, وقال: قال عمرو كذا! وفعل عمرو كذا”, وإنما أقول: قلت كذا وفعلت كذا! فمن المتكلم في هذه الآيات؟

الناظر يجد أن معظم القرآن يُحكى على لسان الملائكة, لذا نجد أن الحديث عن الله غالبا ما يكون على سبيل الحكاية.
فإذا نحن انتبهنا إلى هذه النقطة زال الإشكال في فهم الضمائر في القرآن, حيث أن الكثير من الأفعال التي نسبت إلى الله حكيت على لسان الملائكة على أساس أنهم المباشرون لفعل هذا الشيء, ولنبدأ ببعض الآيات الواضحة في الدلالة على الملائكة ونبدأ بسورة النجم, حيث يقول الله عزوجل ” فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم : 10]”
,
فالحديث هنا من الله عن جبريل عليه السلام وعلى النبي (ص), ولقد كانت كلمة “عبده” هنا تثير لي مشكلة كبيرة جدا, إذ كيف يقول الله عزوجل عن سيدنا محمد (ص) أنه عبد لجبريل عليه السلام ؟
وكنت أحاول أن أجعل الحديث هنا عن الله عزوجل, ولكن لم يكن هناك أي ذكر لله عزوجل من أول السورة, فيجب حمل الكلام هنا على جبريل عليه السلام, ويجب ألا نتحرج من هذه الكلمة فقد استعملها الله عزوجل فلا يجوز لنا أن نستثقلها وخاصة أن كلمة “عبد” لا تعني فقط العبودية الدينية بل هي واسعة المعاني.

ونحن لا نستعملها في حياتنا بمعنى أن العبيد يعبدوننا بل نعني أنهم تحت إمرتنا, فكذلك الرسول لا يعبد جبريل عليه السلام.
فإذا انطلقنا من هذه الآية وعرفنا أن القرآن يٌٌحكي على ألسنة الملائكة سواء جبريل فردا أو هم عامة, على أساس أنهم المباشرون لكثير من الأعمال في هذا الكون, وأنهم هم الذين تولوا تربية الإنسان وتعليمه في بدايته – مع سيدنا آدم وبعده, ولا يزالون يقومون بأدوار عدة في حياة الإنسان– انتظم فهمنا كثيرا للآيات وتحركت الآيات بشكل طبيعي مألوف. فمن ذلك قوله تعالى على لسان الملائكة:

“تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً و َمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً [مريم : 64,63] 
فقد استعمل الله عزوجل كلمة “عبادنا” بالنسبة للملائكة, والآية واضحة الدلالة جدا في أن الحديث هنا على لسان الملائكة, أي أنهم هم الذين سيورثون المتقين الجنة يوم القيامة – بأمر الله طبعا– وأنهم لا يتنزلون إلا بأمر الله فله ما بين أيديهم وما خلفهم …..,

فلا يصح بحال من الأحوال أن نقول أن الكلام في الآية الأولى عن الله وفي الثانية عن الملائكة, بل كلاهما محكي على لسان الملائكة [3], والسياق قبل وبعد الآية يحتم الحمل على ذلك.

فإذا فهمنا أن الحديث عن الله بصيغة الغائب هو من كلام الله, ولكنه محكي على لسان الملائكة زال الإشكال, وأن الحديث إذا كان عن الله بصيغة الغائب ثم انتقل إلى الجمع أو العكس فيكون الحديث عن الله من الملائكة ثم عن الملائكة أو عن الملائكة ثم عن الله.

[1] هذا الموضوع منقول بتصرف كبير من كتاب “مفاتح القرآن والعقل”, من إصدرات جمعية التجديد, مع بعض الإضافات.

[2] للوحي بصورة عامة عدة أنواع منها الوحي عن طريق توارد الخواطر وهذا الوحي وارد لكل البشر حتى يومنا هذا وهو عندما يقع الإنسان في مأزق أو يفكر في مشكلة علمية تستحوذ على كل تفكيره، تأتيه فكرة أو خاطرة ما فيها الخروج من المأزق أو حل المشكلة العلمية ” كتفاحة نيوتن”.

وهذا النوع من الوحي جاء في الكتاب في قوله تعالى : “وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين [القصص : 7] “,
ومنها الوحي عن طريق المنام وهو أحد أنواع الوحي للأنبياء و بالنسبة لغير الأنبياء يسمى المبشرات وهو الرؤيا الصادقة, ومازالت الرؤيا الصادقة ظاهرة شائعة بين الناس بغض النظر عن التقوى وهي ليست حلما. لقد جاء الوحي في المنام إلى إبراهيم: ” فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين [الصافات : 102] “ ,

هنا جاء الوحي بإعطاء أمر من الأوامر. وكذلك الوحي عن طريق البرمجة العضوية- طبقا لعلمنا القاصر – في الكائنات الحية أو الوظيفية في ظواهر الطبيعة: وذلك عن طريق تخزين معلومات وأوامر في البنية الجينية للخلايا كقوله تعالى: ” وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون[النحل : 68] “. “ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون [النحل : 69] ” .

[3] للملائكة دور عظيم في حياة الإنسان و في تسيير الكون, و نذكر هنا بعضا من وظائف الملائكة حتى يتذكر الإنسان فضل الله عليه في تسخيرهم له, ويتذكر دورهم في حياته:

1- حفظ الإنسان من كثير من المخاطر: “لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِاللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ [الرعد : 11], “وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ [الأنعام: 61]” فالملائكة تقوم بحفظ الإنسان من كثير من المخاطر التي يتعرض لها وقد ينجو منها بطريقة غريبة , ولا يتفكر كيف نجا من هذا الموقف, ويظن في نهاية المطاف أنها صدفة!!.

2-إنزال العذاب بالأقوام الطاغية الظالمة “و َلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَِ إنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [العنكبوت: 33 ,34] .3-توفي الأنفس “وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ [الأنعام : 61] .

4-مراقبة الإنسان وتدوين أعماله التي اقترفها “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [قـ :,18 16,17]. تثبيت المؤمنين ونصرتهم في ساحات القتال نصرا معنويا وماديا: “إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال : 12]” اهـ
منقول بتصرف من كتاب “التوحيد عقيدة الأمة منذ آدم”, من إصدارات جمعية التجديد.

وتدبر معي أخي في الله هذه الآيات على هذا الأساس وانظر كيف سيرتفع الإشكال: “وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف : 143] “
يقول جل -إن لم يكن كل- المفسرين أن الضمير في “ميقاتنا” يعود على الله والضمير في “ربه” يعود على الله أيضا, وهذا الكلام بعيد جدا, إذ أنه من المفترض أن يقال “وكلمناه” أو فلما “تجليت أو تجلينا” ولكن أن يقال “ميقاتنا و ربه” فهذا غير مألوف وغريب.
وكانت هذه الآية تسبب لي حيرة كبيرة, وذهب ذهني في فهمها إلى أفهام عجيبة! ولكن إذا فهمنا أن الكلام محكي على لسان الملائكة وأن الضمير في “ميقاتنا” يعود على الملائكة أي لما جاء موسى للميقات الذي حددته له الملائكة, وكلمه ربه أي الله عزوجل فيكون الكلام مستقيما تمام الاستقامة ولا وجه للغرابة فيه.

ونذكر آية أخرى, وهي قوله تعالى على لسان الملائكة: “وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود : 101]”
فإذا فهمنا أن الملائكة هي التي تقول: وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم, وأن آلهتهم لم تغن عنهم شيئا من دون الله, لم يكن هناك أي وجه للغرابة في هذه الجملة من انتقال من متكلم إلى غائب أو من جمع إلى مفرد, ولكن أن نقول أن “ظلمناهم” محكية من الله وليست على لسان الملائكة فيكون من الأولى أن يقال “ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دوننا أو من دوني لما جاء أمرنا أو أمري”,
ولكن إذا فهمنا أن هذا على سبيل الحكاية على لسان الملائكة, التي باشرت هذا الفعل, فيكون الكلام قد سار في المسار المألوف .

ونضيف آية أخرى, استعصت على كثير من المفسرين, وهي قوله تعالى: “و َنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ [الواقعة : 85]”
حيث احتاروا كيف يكون الله عزوجل أقرب إلى الإنسان منا, فهذا يفيد المادية والتحيز, فالله كما هو معلوم قريب من كل شيء: “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة : 186] “ ولكن لا يمكن نعته بأنه أقرب من شيء إلى آخر.

لذا وجدنا منهم من قال أن المراد من ذلك هو الملائكة, أي أن الله عنى الملائكة, وهذا التخريج وإن كان صحيحا ولكن لا يمكن أن يكون الكلام محكيا عن الله ويكون المقصود من قوله “نحن” الملائكة, إذ أن الله ليس واحدا منهم حتى يقول: “نحن ” و يقصدهم هم, أما إذا كان الكلام محكيا على لسان الملائكة أي أن الملائكة هي التي تقول للبشر: ” و َنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ “ فيستقيم المعنى ويصير كالمألوف في الكلام.

ونذكر آية أخرى أُشكلت على السادة المفسرين وهي قوله تعالى: “قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [الأنبياء : 112]” .
حيث سببت لهم جملة ” وربنا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ” إشكالية عظيمة في الفهم, ألا وهي من قائل هذه العبارة؟
ذهبت التفاسير إلى أن القائل هو الرسول (ص), ولكن إذا نحن نظرنا إلى الآية وجدنا أن شطرها الأول إنشائي والشطر الثاني خبري, وهناك خلاف في جواز عطف الخبري على الإنشائي, وبطبيعة الحال ثمة تقدير محذوف -عندهم- وهو قوله “-وقل- ربنا الرحمن المستعان”!

وهذه هي آفة المفسرين فلا مانع من تقدير محذوف و القول بتقديم أو تأخير حتى يستقيم الفهم, وكل شيء جائز في اللغة والأمثلة على ذلك في اللغة كثير! ولكن بقولنا نحن أن الرواية على لسان الملائكة, يستقيم المعنى بدون أي تقدير لمحذوف أو خلافه.

ونذكر آية أخرى تؤيد تماما ما ذهبنا إليه, وتبين هذه التقسيمة والراوي, وهي قوله تعالى: ” شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ [الشورى : 13]”

فهذه الآية بدأت بالحديث عن الله اتفاقا بأنه شرع لنا ما وصى به نوحا, والحديث عن الله بصيغة الغائب ثم تحول إلى المتكلم الجمع, فقالت الآية: “وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ”, فلو قلنا أن الكلام هنا محكي على لسان الله عزوجل لكان معنى هذا أنه حكى عن ذاته بالغائب المفرد ثم انتقل إلى المتكلم الجمع وهذا يسبب لبسا

أما إذا قلنا أن الكلام هنا محكي على لسان الملائكة فيكون متسقا مع النظام الطبيعي المألوف فيكون أن الملائكة تقول أن الله شرع لنا ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك –على سبيل التبليغ فهو أساسا من الله– وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين, فيكون الكلام مستقيما والدلالة واضحة, فالملائكة هي التي تبلغ الوحي أو هي التي توحي إلى البشر من الله فهم الواسطة فلو قيل أنهم أوحوا إلى الأنبياء كان ذلك على سبيل الحقيقة.


وختاما نذكر آية أُشكلت على السادة المفسرين, وهي قوله تعالى: “فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود : 74]”

حيث تعجبوا كيف يجادل إبراهيم عليه السلام الله عزوجل! وقالوا المراد من ذلك الملائكة, ولكن هذا لا يستقيم إذا كان الكلام محكيا عن الله عزوجل, أما إذا كان الكلام محكيا على لسان الملائكة فلا لبس ولا إشكال, أي أن إبراهيم جادل رسل الملائكة بعد البشرى في قوم لوط, لم يهلكون إذا كان فيهم المؤمنين؟

ولعل القارئ يعجب من كثرة المحكي على لسان الملائكة في القرآن, ولكن كل هذا يزول إذا نظر الإنسان إلى القرآن من زاوية سليمة ففيه الكثير من الآيات التي تُحكى على لسان الملائكة لتوضح دورهم وفضلهم. لذا نقول:

جل ما ورد في القرآن من صيغة الجمع ثم خولفت الصيغة إلى غائب أو مفرد فاعلم أنه محكي على لسان الملائكة, لكونهم الفاعل المباشر, وجل ما أُخبر به عن الله بصيغة الغائب فهو محكي على لسان الملائكة, وهذا كثير جدا في القرآن, فإذا قرأنا مثلا:
“َو قَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ [النحل : 51] “ فأيهما أكثر منطقية وجريان مع المألوف؛ أن يكون هذا محكيا على لسان الملائكة أم يقال أنه محكي من الله عن الله ؟! وعندما يقال “و َإِلَـهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة : 163] ” , و”إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [طه : 98]”, و
غير ذلك كثير آيات, وردت عن الله بصيغة الغائب ثم يظهر بعد ذلك مباشرة ما يُشعر باختلاف المتكلم.
سيقال: ولكنه من المشتهر في اللغة أن يتكلم المرء عن نفسه بصيغة التعظيم أو التواضع.

نقول: نعم هذا مشهور ومألوف في اللغة, ومنه قوله تعالى:
“وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء : 25]”,
ولكن أن أتكلم عن نفسي بصيغة المتكلم المعظم لنفسه ثم انتقل إلى صيغة المفرد الغائب, فهذا هو الغير مألوف, فإذا قلتُ: “نحن أمرنا بفعل كذا وإرسال كذا ثم استقبلنا الضيف وأكرمناه وأدينا حقه” فهذا ما لا حرج فيه لغة أوعقلا, ولكن تأمل معي واستسغ هذه الجملة: “نحن أمرنا بفعل كذا وإرسال كذا ثم استقبل عمرو الضيف وأكرمه وأدى حقه”, فأي قارىء سيفهم أن “عمرا” هنا شخص آخر غير المتكلم, وسيخرِّج البلغاء لهذه الجملة و أمثالها مائة تخريج و وجه بلاغي!,

ولكنا نعود ونسأل: أيهما أكثر ألفة و منطقية وشهرة في الاستعمال اللغوي المتوقع في كل اللغات وليس العربية فقط , الوجه الأول أم الثاني؟
بطبيعة الحال هو الوجه الأول, وهذا ما لا يجادل فيه اثنان. لذا نقول بلا تحرج أن القرآن كلام الله ولكن معظمه محكي على لسان الملائكة وأننا وُصفنا بالعباد لهم. ولا يتحرج المرء من ذلك فالله عزوجل هو الإله الواحد الأحد والرب الأوحد و الفاعل الحقيقي والموجد لكل شيء ولكنه يجعل لكل شيء سببا ومن هذا كثير وواضح في القرآن, فالله عزوجل يقول: “اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر : 42] ,

ويقول في موضع آخر: “و َلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ [الأنفال: 50], ثم يقول في موضع آخر ” ُقلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة:11]”.

ولا تعارض في هذا كله بل كله من الله وهؤلاء هم الأسباب المباشرة, فكما أن الإنسان المسلم لا يرى حرجا من ذلك, فلا حرج أيضا من أن يُفهم قوله تعالى: “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق : 16]” أنه محكي أيضا على لسان الملائكة وأنهم أيضا هم فقط الوسائل أو الأسلوب

فلقد قال الله في آيات أخرى أنه هو الذي باشر الخلق مثل “إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ [ص : 71] “ ومثل “قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ [ص : 75] “ ومثل “ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة : 21] “, وآيات كثيرة جدا في القرآن فبنفس آلية عمل الملائكة بإذن الله في التوفي تعمل كذلك في الخلق[1] , فالله خالق كل شيء ومتوفي الناس وما هؤلاء إلا أدوات ووسائل ونحن كذلك.

وبهذا الفهم العادي للضمائر الذي عليه الناس في العالم كله من أن الحديث عن الذات بصيغة الغائب لا يكون من المرء نفسه إلا إذا كان على سبيل الحكاية, وأن الحديث عن الفرد بصيغة الجمع المتكلم ثم الانتقال إلى الغائب غير مألوف أيضا, أما الحديث عن الجماعة بالجمع والحديث عن المفرد الغائب بصيغة الغائب فهذا هو الذي عليه الناس في كل العالم, ولا يحتاج المرء لأي درجة من العبقرية ليفهم هذا الموضوع[2].

[1]سنعرض لهذا الأمر بتفصيل أكبر عند الحديث عن خلق الإنسان.

[2] أرجو أن لا يعتقد البعض أننا ندعو إلى تقديس الملائكة, فهذا القصد لم يخطر لنا على بال, فالملائكة عباد مكلفون مختارون مثلنا تماما, ولكنهم قاموا بأدوار في حياتنا ولا يزالون, فلا يصح أن نبخسهم قدرهم.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

هل الفلسفة .. فلسفة؟…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.