ماذا حرم النبي على نفسه ولماذا؟

كان مطلع سورة التحريم من الآيات التي تسبب لي إشكالا كبيرا! وذلك للغموض المحيط بالشيء الذي حرمه الرسول على نفسه! فهل هو العسل؟! وهل هذا الموقف كاف لنزول سورة من القرآن!أم هو مارية؟

وإذا كان مارية فلم الوعيد الشديد الوارد في السور لكل أزواج النبي, إذا كان هذا الموقف متعلق بواحدة أو اثنتين من أزواجه!

ولماذا يُتوعدن بالطلاق بسبب أن النبي اختلى بمارية في يوم ليس يومها وفي بيت غيرها!

كل هذه التساؤلات كانت تظهر عند النظر في هذه الآيات! إلى أن قرأنا الآيات مرة أخرى, وقرأنا الروايات المصاحبة لها, واستطعنا أن نحدد ما ما المحرم فعلا! وماذا كان سبب التحريم

وأول ما نبدأ به هو مناقشة الروايات الواردة بشأن هذه الآيات, والتي تتركز كلها حول السيدة عائشة:

من الحوادث الشهيرة التي ارتطبت بالسيدة عائشة, تحايل السيدة عائشة لتمنع النبي من شيء يحبه, وكان ذلك التحايل سببا لأن حرّم النبي الكريم على نفسه هذا الشيء!

واختلفت الروايات في الشيء الذي حرمه النبي الكريم على نفسه, فقالت بعض الروايات أن الذي حرمه النبي على نفسه كان جاريته مارية, لأنه وطأها في يوم عائشة وفي غرفة حفصة, فأبصرته حفصة, فحرمها النبي على نفسه, واستكتمها الحديث! فنبأت به أم المؤمنين عائشة, فأنبأه الله بإنبائها إياها!

وقالت روايات أخرى أن السيدة عائشة احتالت على النبي الكريم, بسبب الغيرة, فاتفقت مع بعض أزواج النبي ليخبرنه أن به رائحة كريهة من العسل الذي شربه! فحرّم النبي الكريم على نفسه العسل! ثم نزلت سورة التحريم, وفيها يلومه الله عز وجل على تحريمه, ما أحل الله على نفسه!!

لذا نتوقف مع هذه الروايات, لنرى أيها كانت سببا للتحريم, وماذا حرّم النبي على نفسه فعلا؟!

إذا نظرنا في تفسير الطبري وجدنا أنه ذكر في سبب نزول هذه الآية الروايات التي قالت أن الذي حرّمه النبي على نفسه كان مارية! وذكر في ذلك روايات عدة, فقال:
“اختلف أهل العلم في الحلال الذي كان الله جلّ ثناؤه أحله لرسوله، فحرّمه على نفسه ابتغاء مرضاة أزواجه، فقال بعضهم:

كان ذلك مارية مملوكته القبطية، حرمها على نفسه بيمين أنه لا يقربها طلبًا بذلك رضا حفصة بنت عمر زوجته، لأنها كانت غارت بأن خلا بها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم في يومها وفي حجرتها.

ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي، قال: ثني ابن أَبي مريم، قال: ثنا أَبو غسان، قال: ثني زيد بن أسلم أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أصاب أمَّ إبراهيم في بيت بعض نسائه؛ قال: فقالت: أي رسول الله في بيتي وعلى فراشي، فجعلها عليه حراما؛ فقالت: يا رسول الله كيف تحرّم عليك الحلال؟ ، فحلف لها بالله ألا يصيبها، فأنزل الله عزّ وجل: “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ”
قال زيد: فقوله أنت عليّ حرام لغو. (…..)

عن ابن عباس، قوله: “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ” … إلى قوله: وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ” قال: كانت حفصة وعائشة متحابتين وكانتا زوجتي النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فذهبت حفصة إلى أبيها، فتحدثت عنده، فأرسل النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى جاريته، فظلت معه في بيت حفصة، وكان اليوم الذي يأتي فيه عائشة، فرجعت حفصة، فوجدتهما في بيتها، فجعلت تنتظر خروجها، وغارت غيرة شديدة، فأخرج رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم جاريته، ودخلت حفصة فقالت: قد رأيت من كان عندك، والله لقد سُؤْتَنِي.

فقال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: “واللهِ لأرْضِيَنَّكِ فَإنّي مُسِرّ إلَيْكِ سِرًا فَاحْفَظِيهِ”؛ قالت: ما هو؟ قال: “إنّي أُشْهِدُك أنَّ سُرِّيَّتَي هَذِهِ عَلَىَّ حَرَامٌ رِضًا لَكِ[1]” اهـ

والناظر في كتاب الطبري يجد أنه ذكر روايات كثيرة تقول أن المحرم كان مارية, وذكر روايتين تقريبا تقولان أن المحرم كان شرابا يحبه النبي!

ولم يذكر تفصيلا لهذا الشراب, فلم يقل أنه كان عسلا أو غيره, ولم يذكر له قصة! ولم يرجح الإمام الطبري في نهاية المطاف ما هو الشيء الذي حرمه النبي الكريم على نفسه!

فإذا نظرنا في كتاب البخاري وجدنا كثيرا من الروايات التي تتحدث عن أن المحرم كان عسلا, فنجده يقول:
“عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ زَعَمَ[2] عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْتَقُلْ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ. فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ, فَقَالَ: لَا بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ. فَنَزَلَتْ: “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ إِلَى إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ” لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ “وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ } لِقَوْلِهِ بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا” اهـ

فهذه الرواية تقول أن عائشة وحفصة هما من قاما بهذه الخدعة حسدا لزينب لأن الرسول كان عندها وشرب!
إلا أن البخاري يذكر لنا رواية أخرى تقول بغير ذلك, فيقول:
“عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَيُحِبُّ الْعَسَلَ وَكَانَ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ أَجَازَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو مِنْهُنَّ فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَاحْتَبَسَ عِنْدَهَا أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِي أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةَ عَسَلٍ فَسَقَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ شَرْبَةً فَقُلْتُ أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَوْدَةَ قُلْتُ إِذَا دَخَلَ عَلَيْكِ فَإِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ فَقُولِي لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَا فَقُولِي لَهُ مَا هَذِهِ الرِّيحُ.

وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ فَقُولِي لَهُ جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ وَسَأَقُولُ ذَلِكِ وَقُولِيهِ أَنْتِ يَا صَفِيَّةُ. (…….) فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ قَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا أَسْقِيكَ مِنْهُ؟ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِهِ.
قَالَتْ تَقُولُ سَوْدَةُ: سُبْحَانَ اللَّهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ قَالَتْ قُلْتُ لَهَا اسْكُتِي.” اهـ

فهذه الرواية تقول أن الرسول كان عند حفصة, فغارت عائشة, فقامت هي وسودة وصفية بهذه الحيلة, ولنا أن نتساءل: من تحايل على من؟
هل كانت عائشة وحفصة ضد زينب؟ أم عائشة وسودة وصفية ضد حفصة؟

وبغض النظر عن من قام بماذا, فإننا لا نجد في الروايتين ما يقول أن النبي حرّم على نفسه العسل, وإنما قال لا حاجة لي به, أو لن أعود إليه!

وفي جميع الأحوال فإن الموقف لا يستدعي بحال أن تنزل فيه سورة من القرآن! فهذا مما يحدث بين الأزواج, وهو أمر هين يسير!

[1] محمد بن جرير الطبري, جامع البيان في تأويل القرآن, المجلد الثالث والعشرون, تحقيق: أحمد محمد شاكر.

[2] الملاحظ أن بعض أسانيد هذه الرواية تكرر فيها “الزعم”! فنجد في هذه الرواية: “زعم عطاء أنه سمع” وفي رواية أخرى في البخاري كذلك نجد: ” زَعَمَ عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَزْعُمُ”!! وهذه الروايات كلها عن عبيد بن عمير! فإذا كان هناك شك في سماع عطاء, فهذا يسقط الروايات من الأساس!

نخرج من هذا أن القول الذي قال أن الذي حرّمه النبي على هو مارية هو القول الأرجح!

ولكن هل حرّم الرسول مارية بسبب ما جاء في الرواية, من أنه كان معها في يوم غيرها؟ أم لغير ذلك؟!

ننظر في سورة التحريم, لنبصر كيف ستؤكد أن الذي حرمه الرسول على نفسه هو مارية! وكيف ستبين لنا لماذا حرّمها الرسول على نفسه!

التحريم في التحريم

لم يتناول المفسرون مطلع سورة التحريم تناولا دقيقا كافيا, لهذا لم يروا فيها محددا لما حدث بين النبي الكريم وأزواجه!
ولهذا لم يُحكّموا السورة في الروايات, وإنما جعلوها تابعا لها, لذا ننظر في هذه السورة لنعرف كيف وافقت السورة الروايات وخالفتها:

“يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)”

تبدأ السورة بمعاتبة النبي الكريم على استمراره[1] في تحريم ما أحل الله له, وهذه هي أول نقطة لم ينتبه إليها المفسرون, وهي أن الله تعالى قال: “ما أحل الله لك” ولم يقل: “ما أحل الله” ولا: “ما أحل الله لكم”, وهذا يعني أن الشيء الذي حرمه النبي على نفسه هو شيء أحله الله له بشخصه! فما هو الشيء الذي أحله الله للنبي؟

إذا نظرنا في كتاب الله تعالى وجدنا أن الشيء الوحيد الذي أحله الله له فقط, هو: الأزواج, وذلك في قوله:
“يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ …… لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلَا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً [الأحزاب : 52]”

فيكون ما حرمه النبي على نفسه هو وطء زوج من أزواجه, ولقد فعل النبي الكريم هذا ابتغاء مرضات أزواجه, ولم يفعله ابتغاء مرضات زوج واحدة منهن!

(لاحظ أن الله قال: أزواجك, ولم يقل: زوجك!) وهذا يدل على أنهن كلهن كن يردن منه البعد عن مارية وهجرها, وذلك لأنهن غرن من اهتمام النبي الكريم بها لمّا أنجبت له الولد!

ثم يقول الله: “قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم”, فلماذا تتمسك يا محمد بتحريمك مارية, وقد فرض الله للمسلمين[2] تحلة الأيمان, والله مولى المسلمين, ينصرهم على من يعادونهم!

ثم تتحدث الآية عن موقف حدث بين النبي الكريم وبعض أزواجه, وذلك أنه أسر بحديث, فأُفشي هذا الحديث!
والعجب كل العجب أن المفسرين جعلوا الآيتين في موضوع واحد! على الرغم من أن الآية الأولى خاطبت النبي, والأخرى تكلمت عن النبي بصيغة الغائب, كما أنها بدأت ب “وإذ”! وهذا يعني أنها تتحدث عن موقف آخر سابق! فكيف يكون الاثنان في نفس الأمر؟!!

فأظهره الله على إفشاءها الحديث, فتوعد على بعض الإفشاء وأعرض عن بعض[3] -ولقد عرّف النبي ولم يعاقب ابتغاء مرضاتها أيضا!- فالله عز وجل يذكر هذا الموقف كتأكيد لحرص النبي على ابتغاء مرضاتهن!

ثم يقول الله تعالى مخاطبا أزواج النبي, أنهما إن يتوبا فقد مالت قلوبهما إلى الله مرة أخرى, بعد أن كانت مالت عن الحق بفعلهما!

وهذه الآية هي التي جعلت المفسرين يظنون أن الله تعالى يتحدث عن اثنين من أزواج النبي! على الرغم من أن الله تعالى قال: “قلوبكما”!

فهل لزوجي النبي قلوب أم قلبين؟! إن الله تعالى يخاطب بهذه الآية أزواج النبي واللاتي كن فريقين, فريق حرّض وفريق استجاب!

فيخاطب الله تعالى الفريقين إن يتوبا فقد صغت قلوبهما, وإن يتفقا ويتحدا عليه فإن الله هو مولاه! ثم جبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير[4]!
ثم يهدد الله تعالى أزواج النبي بأنه إذا طلقهن فسيبدله خيرا منهن, مسلمات مؤمنات … إلخ.

وهذا دليل على أن هذا الموقف صدر من كل أزواج النبي, فإذا كان هذا الموقف قد صدر من عائشة وحفصة فقط, فما ذنب باقي نساء النبي؟

وإذا كان قد صدر بالشكل الذي ورد في الرواية, فليس على عائشة أو حفصة أي حرج أو عتب!
فهل يتوعد الله أزواج النبي بالطلاق, لأن بعضهن رأين النبي مع جارية له في يومها, فحرمها النبي على نفسه؟!!
إن هذا الوعيد من الله جزاء لهن على مطالبتهن النبي ترك مارية, والوقوف صفا واحد للمطالبة بهذا الأمر! لذلك توعدهن الله عزوجل!

وليس هذا القول مجرد قراءة للآيات بدون سند تاريخي! فالسند التاريخي موجود إلا أن عليه بعض الغبش, وسنقوم بإزالته!

[1] لاحظ أن الله تعالى لم يقل: “لم حرمت ما أحل” كما قال في نفس السورة: “وإذ أسر”, وإنما قال: “لم تحرم”, وذلك لأن الله تعالى لا يؤاخذنا بتحريم الحلال, ويعد هذا من اللغو في اليمين, واللغو في اليمين لا يؤاخذ به المسلم, فعاتبه الله على بقاءه على التحريم على الرغم من أنه في حل منه!

[2] لاحظ أن الله تعالى استعمل في هذه الآية “لكم” ولم يستعمل “لك” لأن التحلل من الأيمان مفروض لكل المسلمين في سورة البقرة, وليس النبي فقط! بينما يلومه على تحريم ما أحله له في سورة الأحزاب!

[3] التعريف يأتي بمعنى التعريف! إلا أن له معان أخرى, فإذا نظرنا في لسان العرب لابن منظور وجدناه يقول: “أَعْرَفَ فلان فلاناً وعرَّفه إذا وقَّفَه على ذنبه ثم عفا عنه ….. والتعريفُ: الإعْلامُ.

والتَّعريف أَيضاً: إنشاد الضالة. وعرَّفَ الضالَّة: نَشَدها …… وفي حديث عَوْف بن مالك: لتَرُدَّنّه أَو لأُعَرِّفَنَّكَها عند رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم، أَي لأُجازِينَّك بها حتى تَعرِف سوء صنيعك، وهي كلمة تقال عند التهديد والوعيد.” اهـ
ونحن لا نزال نستعملها في العامية المصرية, فنقول عند التهديد والتوعد: هاعرفك!!

[4] أعجب ممن يصل الكلمة بما بعدها فيقول: “ِفَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ” ثم يقف! ثم يقرأ: “وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ”!

إن الله تعالى هو مولى المؤمنين, ولا يُعطف عليه في هذه المسألة أحد! ثم إنه قد قال في أول السورة: “والله مولاكم” وهذا يفيد الحصر!

وفي هذه الآية قال: “فإن الله هو مولاه”, فما فائدة “هو” إذاً, إذا كان سيُعطف عليه؟
الأصح أن تُقرأ الآية بهذا الشكل:
“وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ” “وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ”

تظاهر أزواج النبي عليه
المشهور من تاريخ النبي الكريم, أنه اعتزل أزواجه شهرا, وخرجت إشاعة تقول أن النبي طلق أزواجه أو سيطلقهن! وهذه الحادثة هي التي نتحدث عنها! والتي أُحيطت بقدر من التعمية!

فالناظر في الروايات الواردة بهذا الشأن لا يجد تعليلا مناسبا لهذا الهجر, ولهذا الإقدام على هذه الخطوة الكبيرة.
فنجد الإمام الطبري مثلا يقول:
” وقيل: إن هذه الآية نزلت على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم تحذيرًا من الله نساءه لما اجتمعن عليه في الغيرة. (……)

عن عمر، قال: بلغني عن بعض أمهاتنا، أمهات المؤمنين شدّة على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم وأذاهنّ إياه، فاستقريتهنّ امرأة امرأة، أعظها وأنهاها عن أذى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، وأقول: إن أبيتنّ أبدله الله خيرًا منكنّ، حتى أتيت، حسبت أنه قال على زينب، فقالت: يا ابن الخطاب، أما في رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ما يعظ نساءه حتى تعظهنّ أنت؟ فأمسكت، فأنزل الله: “عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ[1]” اهـ

فالرواية تقول أن الآية نزلت لما اجتمعت أزواج النبي عليه في الغيرة! كما يورد الإمام الطبري رواية أخرى عن عمر أنه بلغه شدة أمهات المؤمنين على النبي, وأنه أخذ يعظهن, ولم يوضح عمر –أو الرواة من بعده- فيما كانت هذه الشدة.
وهنا نتساءل:
ما هي الغيرة والشدة, التي اجتمع أزواج النبي الكريم عليها؟ هل كونهن يغرن من بعض؟ ليس هذا بالجديد ولا بالداعي إلى تطليقهن! ثم كيف يجتمعن أصلا وهن يغرن من بعضهن بعضا؟

أما إذا كانت الغيرة من مارية, فإن هذا عنصر يجتمعن عليه!
ثم تأتي رواية البخاري فتؤكد هذا الأمر, وإن كانت بحاجة إلى تفكيك الاشتباك فيها حتى يظهر الدليل فيها:
” أورد البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: “إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا”
حَتَّى حَجَّ وَحَجَجْتُ مَعَهُ وَعَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِإِدَاوَةٍ فَتَبَرَّزَ ثُمَّ جَاءَ فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْهَا فَتَوَضَّأَ فَقُلْتُ لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
“إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا”
قَالَ وَاعَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ هُمَا عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ.

ثُمَّ اسْتَقْبَلَ عُمَرُ الْحَدِيثَ يَسُوقُهُ قَالَ:
كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنْ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهُمْ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِمَا حَدَثَ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْوَحْيِ أَوْ غَيْرِهِ وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الْأَنْصَارِ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ فَصَخِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي فَرَاجَعَتْنِي فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي قَالَتْ وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُرَاجِعْنَهُ وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ فَأَفْزَعَنِي ذَلِكَ وَقُلْتُ لَهَا قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكِ مِنْهُنَّ ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي.
فَنَزَلْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا: أَيْ حَفْصَةُ أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟ قَالَتْ نَعَمْ فَقُلْتُ قَدْ خِبْتِ وَخَسِرْتِ أَفَتَأْمَنِينَ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَهْلِكِي لَا تَسْتَكْثِرِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءٍ وَلَا تَهْجُرِيهِ وَسَلِينِي مَا بَدَا لَكِ وَلَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يُرِيدُ عَائِشَةَ[2]-
قَالَ عُمَرُ: وَكُنَّا قَدْ تَحَدَّثْنَا أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ لِغَزْوِنَا فَنَزَلَ صَاحِبِي الْأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ فَرَجَعَ إِلَيْنَا عِشَاءً فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا وَقَالَ أَثَمَّ هُوَ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: قَدْ حَدَثَ الْيَوْمَ أَمْرٌ عَظِيمٌ.
قُلْتُ: مَا هُوَ أَجَاءَ غَسَّانُ قَالَ لَا بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَهْوَلُ طَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ؟

وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ حُنَيْنٍ: سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ فَقَالَ اعْتَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْوَاجَهُ فَقُلْتُ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ فَجَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي فَصَلَّيْتُ صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْرُبَةً لَهُ فَاعْتَزَلَ فِيهَا
وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا هِيَ تَبْكِي فَقُلْتُ مَا يُبْكِيكِ أَلَمْ أَكُنْ حَذَّرْتُكِ هَذَا أَطَلَّقَكُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ لَا أَدْرِي هَا هُوَ ذَا مُعْتَزِلٌ فِي الْمَشْرُبَةِ.
فَخَرَجْتُ فَجِئْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ فَإِذَا حَوْلَهُ رَهْطٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ فَجَلَسْتُ مَعَهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الْمَشْرُبَةَ الَّتِي فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لِغُلَامٍ لَهُ أَسْوَدَ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ. فَدَخَلَ الْغُلَامُ فَكَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: كَلَّمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ.
فَانْصَرَفْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ فَقُلْتُ لِلْغُلَامِ اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ فَدَخَلَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ.
فَرَجَعْتُ فَجَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الْغُلَامَ فَقُلْتُ اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ فَدَخَلَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ فَقَالَ قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ فَلَمَّا وَلَّيْتُ مُنْصَرِفًا قَالَ إِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي فَقَالَ قَدْ أَذِنَ لَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (…..)

فَاعْتَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ حِينَ أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَ قَالَ مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حِينَ عَاتَبَهُ اللَّهُ فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَبَدَأَ بِهَا فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ كُنْتَ قَدْ أَقْسَمْتَ أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا وَإِنَّمَا أَصْبَحْتَ مِنْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَعُدُّهَا عَدًّا فَقَالَ الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً فَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً.
قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّخَيُّرِ فَبَدَأَ بِي أَوَّلَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ فَاخْتَرْتُهُ ثُمَّ خَيَّرَ نِسَاءَهُ كُلَّهُنَّ فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ” اهـ

[1] محمد بن جرير الطبري, جامع البيان في تأويل القرآن, المجلد الثالث والعشرون, تحقيق: أحمد محمد شاكر.

[2] ليس هذا من كلام عمر وإنما هو إدراج صريح من الرواة, والحمد لله أنهم قالوا: يريد عائشة, ولم يدخلوها مباشرة في الرواية فيجعلونها: جارتك عائشة! والذي نراه أن الجارة هنا مارية وليست عائشة! وسيظهر من باقي الحديث.

ونبدأ في تحليل الرواية:
ابن عباس يسأل عمر فيقول أنهما عائشة وحفصة, ثم ينتقل الحديث مرة واحدة! ولن نقول أن ما قبل سرد عمر من كلام الرواة وإنما سنواصل التحليل:

يبدأ عمر بحديثه عن أن أهل مكة كانوا يغلبون نساءهم, فلما اختلطت نساء مكة بنساء الأنصار قلدنهن وأخذن يراجعن رجالهن, فلم علم عمر أن أزواج النبي يفعلن هذا, رأى أن هذا شيئا عظيما! ثم جمع ثيابه ونزل إلى حفصة!

ثم بعد ذلك يأتيه الخبر بأن النبي الكريم طلق أزواجه! فينزل عمر إلى حفصة مرة أخرى, ثم يسأل عن النبي فيجده معتزلا في مشربة له!

وهذا هو بيت القصيد, فالمشربة التي اعتزل النبي الكريم فيها هي مشربة مارية! فهي المكان الذي أنزلها النبي الكريم فيها, وفي هذا يقول ابن سعد:
“ومشربة أم إبراهيم، وإنما سميت مشربة أم إبراهيم لأن أم إبراهيم مارية كانت تنزلها، وكان ذلك المال لسلام بن مشكم النضري (…..)
وكان رسول الله معجبا بأم إبراهيم، وكانت بيضاء جميلة، فأنزلها رسول الله في العالية في المال الذي يقال له اليوم مشربة أم إبراهيم. وكان رسول الله يختلف إليها هناك وضرب عليها الحجاب، وكان يطأها بملك اليمين[1].” اهـ

فلماذا يعتزل النبي الكريم في المشربة تحديدا؟
لأن نساء النبي كن قد اتحدن عليه بسبب مارية, فتركهن أجمعين ونزل عند السيدة مارية القبطية!

وبعد ذلك نجد الرواية تقول أن النبي اعتزل نساءه شهرا بسبب الحديث الذي أفشته حفصة! ولست أدري ما علاقة هذا الكلام بالسابق له؟!

إن عمر كان يتحدث عن أن النبي كان سيطلق أزواجه, ثم بعد ذلك نجد أن الرواية تقول:
” فَاعْتَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ ….”
وأن عمر نزل ليحدثه, وأنه دخل عليه وأخذ يحدثه …. إلخ
فما معنى أن يعود عمر ليقول أن النبي اعتزل أزواجه بسبب الحديث؟! وما ارتباطه بالكلام السابق له؟
إن هذا القول ليس من قول عمر, وإنما هو من أحد الرواة, الذين حاولوا أن يربطوا هذه الرواية بروايات عائشة وحفصة!

ويدل على هذا أن الرواية جعلت آية التخيير تنزل في هذه المناسبة! مع أنها نزلت ضمن سورة الأحزاب في السنة الخامسة من الهجرة, والتي نزلت بعد غزوة الأحزاب!!

وآيات سورة الأحزاب التي تتكلم عن التخيير, تتحدث عن مطالبة أزواج النبي النبي بأن يوسع عليهن في الإنفاق! فنزل قول الله تعالى يخيرهن بين متاع الدنيا وبين البقاء مع النبي! فما العلاقة بين الموقفين؟!

فعلى قولهم فالنبي حرم مارية إرضاءً لعائشة وحفصة, فما المنطق أن يخير كل أزواجه بين البقاء معه وبين متاع الدنيا؟!

إن الذي ينبغي أن يلام في هذا الموقف –تبعا لرواياتهم- هو النبي, لأنه هو الذي أتى جاريته في غير يومها وفي غير بيتها!

ونحن ننزه النبي الكريم عن هذا, أفلا يستطيع أن يملك إربه حتى يأتي يومها, أو –على أقل تقدير- يأخذها إلى بيتها؟
أما تبعا لفهمنا الروايات والآيات, فإن اللوم كل اللوم يقع على أزواج النبي, اللائي شغلوه بمطالبتهن وبصراعاتهن, في ذلك الوقت الذي كانت المدينة فيه في حالة قلق شديد, بسبب الأنباء عن غزو غسان للمدينة, والتي بسببها سيخرج النبي في غزوة تبوك!

لذلك استحق هؤلاء هذا الوعيد بأن يطلقهن النبي وأن يبدله الله خيراً منهن, فهذا الوعيد درس لأزواج النبي حتى لا يدخلهن العجب, فيظنن أن لهن حصانة خاصة لأنهن أزواج النبي.

ولهذا ذكر الله عز وجل امرأة نوح وامرأة لوط, فلقد كانا تحت نبيين وخانتاهما, فلم يغن هذا عنهما شيئا! فليست العبرة بمن ينتسب إليه الإنسان, وإنما العبرة بما يقول ويفعل.

وبهذا يسقط استدلال الشيعة بهذه الآية والسورة على كفر عائشة, فهم يدعون أن الله ذكر امرأة نوح وامرأة لوط كمقابل للسيدة عائشة والسيدة حفصة!

فكما رأينا فليست السيدة عائشة وحفصة هم من تظاهرا على النبي, وإنما كل أزواجه قد تظاهرن للمطالبة بنفس المطالب!

وليس هذا الأمر من الكفر في شيء, وإلا لبيّن الله هذا, وإنما توعد بالطلاق والاستبدال, وهذا حال من يأتي بفعلة كبيرة تؤثر على الزواج وليس على الإيمان!

والسلام عليكم ورحمة الله

[1] محمد بن سعد, الطبقات الكبرى, المجلد الثامن, تحقيق: إحسان عباس.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نقد رفض التعقل

من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.