النبات المقدس

النبات “المقدس”
لا خلاف أن الإنسان هو خلق الله المكرم, وأنه سيد الكائنات على الأرض, فهو الخليفة المختار, الذي سُخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعا! وعبر الزمان ارتفعت درجة “تقدير” الإنسان لنفسه, فأصبح الإنسان هو مقياس الصواب والخطأ عند كثيرين,
وأصبح التوجه العام هو المحافظة على الإنسان وعدم المساس به, ومن ثم تم تضييق نطاق أحكام الإعدام في كل القوانين, بل وتم إلغاءها في بعض الدول, فلم يعد هناك حكم بالإعدام بتاتا!

وفي بدء رحلة الإنسان على الأرض كان الإنسان يكتفي باستهلاك النعم الموجودة أمامه, ثم أدرك أنه يستطيع “انتاج” هذه النعم, ولكن هذا الانتاج يحتاج إلى استقرار وإلى “اتحاد”.

وعندما استقر البشر واتحدوا انتقلوا إلى المرحلة التالية, والتي لا يزالون عليها حتى الآن وهي مرحلة “الإنبات”! فالناظر في جل النشاط البشري الاسترزاقي/ الاكتسابي سيجد أنه قائم على “التنمية والرعاية”, فالأرض مخلوقة قابلة لاحتضان البذور, والبذور مقدرة قابلة للنمو والإنبات, والحيوانات كذلك تحبس في مكان واحد وتُغذى بانتظام, لتكبر فتنتج اللحوم والألبان والجلود والأسمدة .. الخ.

قد يقول قائل: ولكن “التعدين” يمثل جزءً كبيرا حاليا في الانتاج المعاصر وهو ليس إنباتا, وإنما: استخراج ومعالجة! فأقول: نعم, لا يزال البشر في تعاملهم مع “المعادن”, مثل تعامل الإنسان مع الثمار في مرحلة “الجمع والالتقاط”, حيث كان يكتفي بقطفها واستهلاكها, ثم انتقل إلى مرحلة زرعها وانتاجها بنفسه! فمن يدري ربما يفلح البشر في البعيد الآجل في “إنبات” المعادن .. من يدري؟!


الشاهد أن الإنسان أفلح في إنشاء المجتمعات ثم الحضارات ك “راع” للنباتات والحيوانات, وبقدر توفر “المصادر الطبيعية”, وتبعاً لقدرة الإنسان على تنظيمها وإدارتها نشأت الحضارات, ولا ننسى مثلا أن الحضارات الإنسانية الكبيرة مثل الحضارة القبطية القديمة والحضارة الصينية والسومرية نشأت حول أنهار!

فشق الإنسان الترع وضرب الطرق وأنشأ السدود, وعبر آلاف السنين تواصلت عملية “الإصلاح” في الأرض, فمسيرة البشرية كانت –ولا تزال- جعل الحياة على الأرض أيسر وأسهل للإنسان.

ولم تكن هذه المسيرة, مسيرة إصلاح الأرض, لحنا موسيقياً عذبا, وإنما كان هناك الصراعات بين البشر حول امتلاك الأرض ذات الموارد, فكانت الحروب الدامية, وكذلك الصراعات بين الأشخاص وإخوتهم من أبناء البلد الواحد, وكان هناك كذلك السرقات والاستحواذ بدون وجه حق!! ومن ثم وضعت كل جماعة قوانين تنظم العلاقة بين أفرادها وتحدد عقوبات المخالفين, ثم فيما بعد وُضعت الاتفاقيات بين الجماعات والأمم المختلفة والتي تنظم العلاقات فيما بينهم, وحقوق وواجبات كل فرد في أراضي الجماعة الأخرى.

قد يقول القارئ: لم تُخبرنا حتى الآن ما هو النبات المقدس؟ فأقول: لقد أخبرت بالفعل,
فالنبات المقدس هو عملية إنبات النبات والحيوان وإصلاح الأرض, وهو ما يمكننا أن نسميه ب “العمران”, فهذا العمران اعتبره رب القرآن “مقدسا”
فالناظر في كلام الرب نجده يؤكد على حفظ حياة الإنسان, وأن عقوبة “القتل/ الإعدام” لا تكون إلا في حالتين اثنتين: قتل النفس والإفساد في الأرض: “
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً … [المائدة : 32]

ومن ثم فإن المحافظة على النبت المقدس: العمران, أهم من حياة الفرد, وذلك لأن يضيع الدور الرئيس لوجود البشر على الأرض: “… هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا .. [هود : 61]“,

فنحن من الأرض ولإعمارها خُلقنا, واختبارنا في هذه الحياة في الإعمار, ولا ننسى أن اعتراض الملائكة الرئيس على استخلاف البشر (الهمج) كان: “..
 قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة : 30],
فالإفساد في الأرض هو عودة إلى ما قبل النفخ من الروح وانتكاسة إلى الحيوانية!!


لهذا ومن أجل المحافظة على الجمع الحي وعلى جهود السابقين عبر آلاف السنين في إصلاح الأرض لا بأس من هلاك بعض البشر المفسدين: “… وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة : 251]“, 
أحيانا يكون احتلال أقوام لغيرهم, على الرغم مما فيه من التدمير, أحيانا يكون فيه الخير لهم, لإزاحة الرؤوس الفاسدة, وإعطاء نبتة المجتمع الفرصة لتنمو من جديد, فيصبح لدى أفراد هذا المجتمع الفرصة في أن يعملوا وينتجوا, ويمارسوا شعائرهم الدينية كما يشاؤون:
… وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً … [الحج : 40]
ورغما عن أن القرآن أكثر من الحديث عن “الفساد” في الأرض, وعن المفسدين في الأرض وعقابهم الشديد, فذكر لنا نماذج للمفسدين في الأرض
وأشهرهم: “”
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ … [الكهف : 94]“, ورهط قوم صالح: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ [النمل : 48], رغما عن هذا فإن الحديث عن “الإفساد في الأرض” غائب في الخطاب الديني, وذلك ربما لأنه مصطلح عام غير محدد المعالم, والعقلية “الفقهية” تريد حدودا واضحة للمسألة, لذلك أُغفل الحديث عنه كلية, رغما عن أهميته لنشأة الحضارة والحفاظ عليها وعلى البيئة!

في الختام:
قبل أيام كنت أقود السيارة عائداً إلى المنزل فلمحت شابين يقلّبان قطعة أرض, سٌقيت بالماء فتحول لونها من الرمادي إلى الأسمر, لون الطين الجميل, فقلت: قد لا يدرك هذا الشابان عظمة ما يقومان به, وربما يستثقلانه, وربما يحلمان بعمل آخر –يظنونه- أنظف!!
إن هؤلاء لا يدركان أنهما يشاركان فعلياً في غرس بذرة الحياة على الأرض! تلك الأرض التي منها خُلقنا وفيها نعود, وعليها نسعى, وبها نُختبر!
فالله الحكيم لم يخلق البشر عبثاً على الأرض, ولم يتركهم هملا, وإنما أراد بحكمته أن يهب الأرض “عقلا”, وحري بالعقل أن يؤدي دوره كعقل .. وإلا فعدمه خير من وجوده, ف “الفطرة” قبله –ومعه- موجودة وهي كافية لاستمرار الحياة .. ولكن في مسارات أخرى!!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نقد رفض التعقل

من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.