حول الإيمانات

أخذوك معهم في جدالهم حول الإيمان، هل يزيد وينقص أم يزيد ولا ينقص.
ولكنهم كلهم -تقريبا- قدموا لك الإيمان ك “كيان” واحد
فلم يحدثك أحدهم أن هناك “إيمانات” عديدة كثيرة!
نعم تترابط وتتراتب ولكنها في نهاية المطاف متعددة وليست واحدة.
وحتى لا يكون الكلام عاما عائما غائما، أوضح لك فأقول:
إذا كنا نتحدث عن الإيمان في الإسلام تحديدا، والذي هو دين “نصي” قائم على الوحي

فهناك:
الإيمان بالمصدر وهناك الإيمان بالمحتوى.
ولا يعني الإيمان بالأول الإيمان ب “تفاصيل” وجزئيات الثاني.
نعم الإيمان بالأول يفترض “التسليم” بالثانية .. أنك مسلم أن ما في القرآن صحيح لأنه من عند الله
ولكن هذه قناعة عقلية كلية!
مجرد نتيجة لمقدمة .. وهذا ليس الإيمان.

فلا يعني مثلاً كوني مؤمن بأن القرآن من عند الله أني “آمنت” بكل ما فيه!ولا حتى بأكثره!!
لأسباب عدة، منها أنك لا تعرف أصلا القدر الأكبر منه ولم يدخل وجدانك ولم يزد عن كونك قرأته مرة أو مرات.
ولهذا تجد نفسك -أو غيرك- يتصرف في مواقف كثيرة تبعا لما رُبي عليه، ويخالف القرآن وذلك لأن ما في القرآن لم يزد لديه عن “معلومة” في رأسه
بينما إذ أخذ يجادل نفسه ليفعل المعصية أو حاول أن يبرر لنفسه ما يفعل فهذا يعني أن لديه “إيمان” متعلق بهذه المسألة.

إن القرآن يحتوى كما كبيرا من “القضايا” التي تحتاج إما إلى تلقين متكرر من آخرين حتى ترسخ لديك، أو إلى النظر والتفكر فيها قضية قضية على انفراد
وبقدر عدد القضايا التي لُقنت أو نظرت ستكون قد آمنت
لذا سنجد أن هناك من المسلمين من يؤمن ب 5 % من القرآن، ومنهم من يؤمن ب 10 % وهكذا!
وكلما ازدادت الملازمة للنص ازداد الإيمان لأنه يدخل إلى عقل وقلب الإنسان “قدر” جديد من محتواه.

لذا فإن الرسول الكريم نفسه والذي لم يكن فقط مؤمنا بأن القرآن من عند الله و إنما متيقن، لكونه هو من يستقبل الوحي، كان مأمورا بأن “يحقق” الإيمان بما فيه، بأن يقرأ القرآن ويتدبره حتى ترسخ حقائقه بداخله وحتى يعيش تبعا له
وحتى تنشئ له هذه القراءة والتفكر -والتسبيح- ارتباطا واتصالا بالله عزوجل، فيكون ذاكرا له مستحضرا له.
وذلك لأن قدر كبير من المحتوى الذي كان يأتيه في القرآن كان جديدا عجيبا بالنسبة له، فلذا كان بحاجة إلى أن يتفكر فيه ليبصرويؤمن كيف يمكن أن يكون.
فالرسول الكريم مثلا عندما وُعد في المرحلة المكية في مرحلة الاضطهاد بالنصر والتمكين والظهور، كان متعجبا من هذا! فكيف يحدث هذا ووالواقع المحيط به مخالف لهذا تماما
ولهذا قيل له:
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ

ولهذا كان هو -والمؤمنين- بحاجة إلى ما يثبت لديهم أن العاقبة ستكون لهم! فنعم الله وعدهم بهذا ولكنهم بحاجة إلى ما يثبت لديهم هذا
ولهذا كان القصص من أحوال السابقين
ولهذا قيل له:
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ

ولهذا نفهم لماذا قال الخليل إبراهيم عليه السلام:
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
فالخليل إبراهيم يوحى إليه ويكلمه الله ويعلم أن الله على كل شيء قدير
ولكن هذا إيمان كلي لا يوجد تحته إيمان تفصيلي يقنع العقل ويسكن القلب
فالواقع المشاهد مخالف لهذا، ولهذا كان “مثل” ذبح الطير، ليفهم سيدنا إبراهيم ويتحقق لديه الإيمان الجزئي بهذه القضية.

إذا فالإيمان بالمصدر منفصل عن الإيمان بالمحتوى، والإيمان بالكلي بحاجة إلى التدعيم بالجزئي، والتسليم لا يعني تحقق الإيمان
ولهذا نفهم قول الله تعالى:
قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ
فهم سلّموا أن محمدا رسول وأن القرآن من عند الله ولكن الإيمان لما يدخل في قلوبهم بعد.

وبهذا نفهم قول الله العليم:
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا “مَعَ” إِيمَانِهِمْ
فهذه الآية دليل صريح على أن هناك “إيمانات” عديدة وليس إيمانا واحدا
وليس كما فعل المفسرون إذ فهموا حرف الجر “مع” بأفهام عدة غير معناه الأصلي
وذلك لسيطرة التصور الشمولي للإيمان عليهم!
وبهذا نفهم كيف قدّم الله التوبة على الإيمان في أربع آيات في القرآن: “تاب وآمن”، وكانت مثار عجب للمفسرين
إذ كيف تسبق التوبة الإيمان، ولكن بقولنا فلا إشكال.

إذا فالإيمان “اكتساب” مستمر -قد- يقوم به الإنسان طيلة حياته، وليس مجرد “حالة” حصلت في لحظة ما، ترتب عليها أن يشهد الإنسان أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

الشك

بعض “القارئين” -تقليدا لبعض الفلاسفة- يمدحون ويزينون لك:“الشك”وأنه ضروري لتحقيق المعرفة .. وبناء الذات والحضارة!!!!!!! …

تعليق واحد

  1. İstanbul su tesisatı kaçak tespiti Mutfaktaki su sızıntısının kaynağını akustik cihazlarla buldular. Dolaplara zarar vermeden tamir ettiler. Yılmaz S. https://www.canoaclublegnago.it/2012/10/18/uskudar-tesisatci-tikaniklik-acma/

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.