التقدم في مجتمعاتنا الحديثة

أيها الفكار: ألا ترى أنها مبالغة, أن تنفي التقدم عن مجتمعاتنا الحديثة وتقول إنها انتكست؟!!
ألا ترى كل هذه التكنولوجيا التي لم تكن موجودة مسبقا؟!!
لقد تغير وجه العالم تماما!!
أم أنك ممن يبحثون عن العيوب ليبرزونها!!

فأقول: مبدئيا أنا لم أنف التقدم “التقني”,
ثانيا: أنا قلت إن الدليل المستخدم هو “الفرد البشري”,
لذا دعني أزن لك مجتمعاتنا الحديثة ب “الفرد”, وسترى كيف أنها انتكست .. وبشدة!

هناك احتياجات/ حقوق أساسية للإنسان, هذه الاحتياجات للأسف أصبحت أكثر تعقيداً وأصبحت صعبة المنال في حياتنا المعاصرة:
فإذا بدئنا بأهم احتياج وهو “ممارسة الجنس” في إطار سليم آمن,
وجدنا أن الأجيال السابقة كانت تتزوج مبكراً .. متوسط من 18- 22 سنة, الآن تأخر سن الزواج لأسباب عديدة, فأصبح الشاب يتزوج في نهاية العشرين أو بداية الثلاثينيات.

هل تعلم وتتخيل كمية الكبت الذي يتعرض لها شاب في بداية حياته, عندما يطالب بالاستمرار في مقاومة هذه الرغبة الجارفة لمدة تزيد عن عشر سنوات
(هي تقريبا ثُلث فترة قدرته الجنسية)
وهل يعدل هذا الحرمان شيء؟!
وكذلك عندما أطالب الفتاة بألا يكون لها شريك حياة؟!!
إذا فالسابقون كانوا لا يعانون من الحرمان الجنسي ولا العاطفي في أهم فترات العمر.
(في الغرب يسمحون لك بممارسة الجنس هكذا, ولكنهم يرفضون الزواج في سن مبكرة)

فإذا انتقلنا للحق/ الاحتياج الثاني وهو التعلم … للعمل/ الاكتساب
وجدنا أن السابقين كانوا يتعلمون لفترات قصيرة, تعليما بسيطاً يؤهلهم لبدء العمل
(لم يكن هناك ما يُعرف ب: سوق العمل أصلا)
وبهذا ينضج الإنسان مبكرا/ في الوقت المناسب ويستطيع إنشاء بيت وتكوين أسرة وهو في مقتبل العمر.
وحتى في العقود الأخيرة ومع ظهور التعليم النظامي كان من الممكن أن يتعلم الإنسان لسنوات قليلة ثم يبدأ في العمل.
بينما في زماننا هذا طالت فترة التعليم كثيرا, ولا تزال تزداد طولا,
ولم يعد التعليم النظامي كافيا, بل أصبح لزاما أن يدرس الطالب ويتعلم بشكل جانبي بالتوازي مع التعليم النظامي, حتى يستطيع أن يكون قادرا على التنافس في سوق العمل!!
وهكذا تأخرت فرص الإنسان في الزواج, وكذلك تأخر نضجه, فأصبحنا نجد شبابا في بداية العشرينات
ولا يزالون ب “شخصية/ نفسية” أطفال, تابعين ل “ماما وبابا”, الذين يرعونهم ويتولون الإنفاق عليهم, وليس لديهم القدرة ولا الجرأة على مواجهة الحياة.
(ونغض الطرف عن أن التعليم الآن أصبح موجها “للعمل”, ففقد العلم قداسته)

فإذا انتقلنا إلى الاحتياج الثالث: السكن,
وجدنا أن أسعار الوحدات السكنية أصبحت جد مبالغ فيها, وأصبح تقريبا من المستحيل أن يشتري شاب شقة سكنية -ولا يحلم بمنزل-, وأصبح الطبيعي هو الاستنزاف الشهري في الإيجار, (بعد البحث المطول عن شقة إيجار مناسبة) والتنقل من فترة لأخرى إلى شقة جديدة.
وأتذكر أن أحد الأصدقاء حكى أن جدته استطاعت شراء منزل -من وراء جده- من مبالغ اقتطعتها من مصروف المنزل (كان الجد ميسور الحال)
فهل هناك امرأة تستطيع الآن أن تشتري منزلا (وليس شقة) بكل مصروف البيت لسنين؟!!
إن المساكن كانت متوفرة ولهذا كانت رخيصة الثمن, أما الآن فقد قلت المساكن وارتفعت أسعارها بشكل لا علاقة له بالمستوى الاقتصادي في البلد,
وهكذا يظل الإنسان في الأعم الغالب “ساكن غير مالك!!”

فإذا انتقلنا إلى الاحتياج الرابع وهو: العمل
وجدنا أن فرصة الحصول على عمل جيد أصبحت ضعيفة, (رغما عن السنوات التي أنفقت في التعلم), والآن يُسحب بشكل تدريجي مزية: العمل/ التعاقد الثابت, وأصبح التوجه إلى “العمل الجزئي” المؤقت!
وهكذا فقد الإنسان بدرجة ما الأمان والثبات الذي كان يحققه له العمل! وأصبح في حالة قلق مستمر.
(ونغض الطرف عن أن النجاح في العمل نفسه, أصبح معتمدا بدرجة كبيرة على الدعاية, بدلا من أن يكون بشكل كلي على الإتقان والإبداع)
نعم المستوى الاقتصادي أصبح أفضل من السابق, ولكن مع كثرة المتطلبات والالتزامات لم تعد الرواتب كافية, فمتوسط الرواتب لا يزال متأخرا عن تغطية الاحتياجات, فنعم زاد الدخل, ولكنه لا يزال في الأعم الغالب غير كاف.

فإذا انتقلنا للاحتياج الخامس وهو “العيش في الطبيعة”
وجدنا أننا عُزلنا طيلة العام -وأعمارنا- عن الطبيعة, وأصبحنا نحتك بها في أيام قلائل عند الذهاب إلى المصيف أو الغابة أو ما شابه, وأصبحنا ندور ونطوف بين أبنية خرسانية مكئبة! وأصبح الواحد منا بحاجة إلى ملايين لكي يستطيع العيش في تلك المجتمعات “المنغلقة” .. التي توفر لك الطبيعة حولك!
أو بكل بساطة يعود إلى الريف ويترك صخب المدينة.
ونكتفي بهذا القدر, لأننا لو تحدثنا عن الآثار النفسية للحياة المعاصرة على البشر فسنرى كوارث.

وأعتقد أنه قد وضح للقارئ من خلال هذه الخطوط العريضة للاحتياجات الإنسانية أننا تراجعنا وبشكل كبير عم كان عليه السابقون ..
نعم على المستوى الجزئي أصبحت حياتنا أيسر, وأصبحنا نستطيع الاستمتاع بأمور لم يحلم بها أجدادنا
ولكن على المستوى العام فنحن نعاني ونئن
بدون أن ننتبه إلى أن المشكلة في “شكل” ونظام المجتمعات المعاصرة
القاهرة!
التي جعلت “لحظاتنا” أكثر إبهارا وبريقا
بينما جعلت “أعمارنا” أكثر بؤسا

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

الأدب مع الله

سبحانك ربنا المتعالتباركت ربنا الكبيرجلت عظمتك يا عزيزمتفرد أنت بوحدانيتكمتكبر أنت عن كل مثلبةلك الكبرياء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.