حول نقد الذات

ارتبط النقد في “تراثنا” العربي بالنقد الأدبي, حيث ظهر منذ العصور “الإسلامية” المبكرة نقاد للمنتج الأدبي المقدم من الشعراء –في المقام الأول- والخطباء والكتاب والأدباء, شكلوا حركة نقدية تقبلها واستوعبها المجتمع, فكانوا يبرزون مواطن الضعف والقوة في هذا المنتوج.

وظهرت تيارات أخرى عديدة للنقد وإن لم تحمل هذا الاسم, فكان منها تيار النقد الأخلاقي, والذي تحمله الخطباء والوعاظ, فكانوا ينقدون أفعال “العوام”, ويذكرونهم بالمسلك الأسمى الذي عليهم الاقتداء به!

كما ظهرت انتقادات لبعض “الأفكار” أو الأحكام “الدينية الإسلامية”, إلا أن هذه الانتقادات كذلك لم تحمل في تراثنا اسم “النقد”, (وذلك لأن النقد هو في الأساس فرز الجيد من الرديء من النقود, وبالتأكيد لا يوجد: رديء في الدين!!) وإنما حملت اسم “الشبهات” والتي –من المفترض- أن العلماء المسلمين قاموا بالرد عليها وتفنيدها! ولو اقتصر الأمر على التفنيد لكان الأمر لا يزال في إطار “النقد والرد”, أو النقد والنقد المضاد

ولكن المشكلة أن “رجال الدين” قاموا بزندقة وتكفير من يقول بأقوال معينة أو يطرح تساؤلات معينة بل ويدرس بعض العلوم! والذي ترتب عليه خفوت وتواري الأصوات المعارضة, وسيادة الصوت الواحد, الذي لا يُسأل عما يفعل!

وفي مسار عملية النقد لم يكن العرب المسلمون استثناءً, وإنما كانوا كغيرهم من الأمم, فبدأ النقد لديهم –كفعل أممي- موجها إلى “الآخر”, منطلقاً من الاستعلاء عليهم! حيث ساد القول بأن العرب أفضل من غيرهم من الأجناس, (والذي ترتب عليه ظهور الحركات “الشعوبية” الفارسية, والتي تذم العرب والعربية) وساد الاعتقاد –ولا يزال- بأن المسلمين أفضل الأمم

وكالعادة كان القدر الأكبر من “النقد” موجهاً إلى “الآخر القريب” وليس الآخر المختلف تماماً, فكان النقد الشديد للشيعة, وكيف أنهم “أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى”!! والنقد للمذاهب الفقهية والعقدية الإسلامية (بل إننا وجدنا –ولا نزال- النقد الشديد بين أصحاب مدرسة الحديث, والذين يؤلفون رسائل في تصحيح حديث, والرد على من ضعفه –أو العكس- ويصل النقد فيها إلى القذف!!), ثم بعد ذلك النقد لأهل الكتاب, ويخفت النقد بقدر زيادة الاختلاف!

ولا حرج في صدور النقد بهذا الشكل فهذا مسلكٌ مألوف من كل البشر في كل العصور, (فلا يزال الغرب المسيحي يوجه النقد اللاذع لأبناء العمومة وجيرانهم: المسلمين, أكثر من غيرهم!)

ولكن كان من المفترض أن يظهر –بعد قرون- تيار نقدي “إسلامي” يقيم المنتوج الفكري “الإسلامي” بشكل عام, إلا أنما حدث كان هو العكس, حيث هُزم التيار النقدي “العقلاني” الذي كان موجودا على الساحة الإسلامية: المعتزلة, وبدأ دوره في الخفوت.

نعم نُقر بوجود انجازات مقبولة لتيار آخر وهو التيار الصوفي, حيث قدم العديد من التقعيدات في عملية النقد, إلى أن هذا النقد كان –في المقام الأول- نقدا ذاتياً وليس نقداً مجتمعياً, حيث كانت تُطبق هذه “النقود” على من ينضم إليهم, لمن يقرر أن يتصوف, ومن ثم اقتصر دورها على الصوفية, ناهيك عن أنها لم تكن نافعة ولا مناسبة ل “العوام”, بله أن تكون نقدا لمنظومة الفكر الإسلامي, إذ يمكن القول أن الصوفية قدموا أنفسهم كتيار موازي لتيار الفكر الإسلامي وليس كتيار ناقد!!

ومع غياب تيارات النقد الذاتي, وقع المسلمون فيها وقع فيه السابقون من تقديس الذات, وذلك بسحب القداسة من “الفكرة/ العقيدة” إلى الذات, فإذا كان “الإسلام” هو الدين الصحيح, وهو بكل تأكيد خير الأديان, إذا هم بوصفهم حاملو الدين هم “خير أمة” وما يؤمنون به صحيحٌ لا محالة! وذلك لتلاشي الفاصل بين “الدين” كنصوص مقدسة, وبين آراء وأقوال الفقهاء والمفسرين, فلم تعد مجرد تفسيرات للدين وإنما هي الدين!

وأصبح نقد هذه الأقوال هو نقد للدين! وكما أن الله لا يُسأل عما يفعل, أعطي للحاكم درجة قريبة من هذه, فأصبح لا يجوز نقد أفعال الحاكم على الملأ, ويُنصح في الخفاء, والشورى غير ملزمة له, وهكذا قام الأفراد بإنزال هذه المرتبة لأنفسهم, فالوالد حاكم مطلق التصرف في أسرته, فليس لزوجته أن تراجعه فيما يقول,

وعلى الزوجة والأبناء السمع والطاعة له فيما يقول, وأصبح مثال الخليل إبراهيم وابنه إسماعيل هو المثال المعتمد في الأسرة حول وجوب طاعة الوالدين, وإلا دخل الابن دائرة العقوق! ولا يزال كثيرٌ من المسلمين البالغين يتحرجون من مخالفة أي أمر للوالدين, حتى لو كان تعسفيا!!

ولأن الخطأ –حتى في كثير من الأمور الصغيرة والمتشابهة- ارتبط عند المسلمين بالضلال, والضلال ارتبط بالهلاك (رغما عن وجود نصوص دينية تخالف هذا!!), ولأن المسلمين لم يفلحوا في القضاء على فخر الجاهلية, كان من العسير جداً على المسلم العربي أن يستمع للنقد, فتقبله يعني اقراره بالخطأ, اقراره بنقصه, بمحدودية فكره, وهو ما لم يُرب عليه, وهو ما لم يجد له أثرا في تراثه, وإنما رُبي على أن يطيع الصغير الكبير, حتى يكبر فيأمر فيطاع!

إنما مسالة الحوار هذه غير موجودة!! ويمكن القول أن الحوار اقتصر على الحوار الذاتي, الذي يجريه المرء مع ذاته, وبطبيعة الحال فإن الإنسان –غير الناقد- يتفنن في تبرير أفعاله وإبراز نفسه أمام نفسه بمظهر الصالح المستقيم, بينما يسلط سهام النقد على الآخرين!

إنني أعي أن حدوث حالة من النقد “الذاتي” هي حالة من الصعوبة بمكان, وذلك لأنها تحتاج –على المستوى الفردي- إلى درجة جيدة من النضج الأخلاقي والعقلي, وذلك لأنها تعني نقد أداة النقد ذاتها,

فالإنسان ينقد الآخرين بعقله, ومن ثم فالنقد والعيب والإشكال دوما في “الآخر”, وأن ينتقل إلى احتمالية أن يكون الإشكال فيه هو ذاته أمر عسير, لأن فيه نوع من نزع القداسة عن الذات, نوع من هدم فكرة “التميز” المسيطرة لديه –ولدى الجميع-, مطالبة بخوض غمار المجهول, وإصلاح الذات, ومن ثم فقدان الهوية,

فأنا أنا, وأنا أعرف ذاتي, فإذا تغيرت فمن ستكون, لا أعلم!! وإذا كان هذا على المستوى الفردي فما بالنا بالمستوى الجمعي, والذي يتطلب حدوث نقد ذاتي وجود تيار كامل حتى يبدأ الجمع في الانتباه –أو الاستجابة-, بينما الصوت الفردي لا يصل بأي حال إلى الجماعة.

إنني عندما أتحدث عن النقد, فإنني أتحدث عنه كنقد فقط, مجرد تسليط الضوء, وكيف أنه ظاهرة صحية في البناء الفكري لأي مجتمع حتى يكون لافتا للأخطاء والعيوب الموجودة, فإذا على صوت النقد, فإن التساؤل اللاحق سيكون تساؤل الإصلاح, وهو ما قد يقوم به الناقدون أو يقوم به غيرهم!

ما يهمني هو تقبل النقد ونزع القداسة عن الذات! ما يهمني هو أن نرى أنفسنا مستحقين للنقد, فمقدساتنا هي مقدساتنا نحن, وبالتأكيد هي ليست مقدسات الآخرين, ومن ثم فلا نتوقع منهم سوى أنهم سيتعاملون معها باعتبارها “أساطير الآخرين” أو الأولين! كما نتعامل نحن معها! وكذلك

“أوثاننا السياسية” منظوماتنا المتحجرة, لن يهدمها إلا معاول النقد … النقد الذي ينقلنا من التمترس خلف “التطبيق” ينقلنا خطوات إلى الوراء إلى “النظرية” نفسها, وذلك لأن النفس والكيانات السياسية والمنظمات تستعصي على الإصلاح بتغيير الوجوه والهياكل, بينما يبقى الوضع على ما هو عليه, وترقص الشعوب لإزاحة فرد, بينما “المفرخة” لا تزال تعمل, وتنتج غيره من الوجوه!

في الختام: قد يرى القارئ أن هذا المقال فيه نقد قاس, بل وربما تجني على المنظومة الفكرة الإسلامية, وأنا أقر أن تقديمي المقال بهذه الطريقة هو إجراء متعمد, فقد كان بإمكاني الحديث عن النقد بشكل عام, وكيف كان للنقد دور هام في تقدم الأمم, وكيف أن أوروبا لم تنهض إلا بعد إجراء مراجعات جذرية لأفكارها –بالتوازي مع نهب الأمم الأخرى!!-

وكيف أنها لم تفعل هذا إلا بعد أن أجبرت عليه إجبارا, بعد الحروب الطويلة فيما بينهم والتي سفكوا فيها دماءهم!! وكيف أن الإسلام ربانا على “محاسبة الذات” وهو نوع من النقد, وكيف … الخ, كان بإمكاني القيام بهذا ولكني رأيت أن يكون المقال نفسه محاولة سريعة للنقد الذاتي, ليبصر القارئ بنفسه كيف كان رد فعله عندما قرأ هذه الكلمات,

هل رأى أن الكاتب “معاد” للإسلام؟!! وأن لدينا الكثير والكثير الصالح, أم أن بالمقال جزء من الصواب وكثيرٌ من المبالغة, أم أننا فعلا بحاجة إلى الكثير والكثير من الأصوات الناقدة, حتى يبدأ العقل الجمعي في التفكر!!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

اجتهاد جديد غير مسبوق حول صدقة الفطر

بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد وسلام على عباده الذين اصطفى، ثم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.