القرآن أنزل سورا وليس آيات متفرقات!

من المسلم به بين عوام المسلمين وعلمائهم أن القرآن أنزل مفرقا, ولم ينزل جملة واحدة, وذلك لوضوح قوله تعالى: “وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً [الإسراء : 106]”
وقوله: “وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً [الفرقان : 32]”

فالكافرون كان يريدون أن ينزل القرآن جملة واحدة حتى يعرفوا ما فيه وماذا سيقدم لهم, ولكن الله عزوجل بيّن أن طلبهم هذا مخالف للحكمة من طريقته التي ارتضاها في تنزيل القرآن.

فإذا تجاوزنا هذه المسلمة انتقلنا إلى النقطة التالية, وهي السؤال:
إذا كان القرآن أُنزل مفرقا, فكيف كان هذا الإنزال؟
المشتهر أنه كان هناك طريقتان في نزول القرآن, فإما أن تُنزل السورة كاملة, أو تُنزل آيات بحسب الحاجة, فلربما أُنزلت خمس أو عشر آيات أو أكثر, ولربما أُنزلت آية أو جزء من آية, وفي هذا يقول الإمام السيوطي في الإتقان:
“النوع الثالث عشر: ما نزل مفرقاً وما نزل جمعاً.

الأول غالب القرآن ومن أمثلته في السور القصار: اقرأ, أول ما نزل منها إلى قوله (ما لم يعلم) والضحى أول ما نزل منها إلى قوله (فترضى), كما في حديث الطبراني. ومن أمثلة الثاني: سورة الفاتحة والإخلاص والكوثر وتبت, ولم يكن والنصر والمعوذتان نزلتا معاً، ومنه في السور الطوال المرسلات. ففي المستدرك عن ابن مسعود قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار فنزلت عليه المرسلات عرفاً, فأخذتها من فيه وإن فاه رطب بها فلا أدري بأيها ختم: (فبأي حديث بعده يؤمنون) أو (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون), ومنه سورة الصف لحديثها السابق في النوع الأول. ومنه سورة الأنعام، فقد أخرج أبو عبيد والطبراني عن ابن عباس قال: نزلت سورة الأنعام بمكة ليلاً جملة, حولها سبعون ألف ملك. ” اهـ

وعلى قولهم, لم تنزل الآيات داخل السور المفرقة مرتبة, وإنما كانت تنزل هكذا حسب الحالة, فلربما أُنزلت آيات في آخر السورة أو وسطها قبل آيات في أولها, ثم ينزل الأول بعد ذلك, ولربما أُنزلت مرتبة, وهكذا إلى أن رُتب القرآن الترتيب الذي نحن عليه الآن في العرضة الأخيرة على الرسول الكريم, والذي استقر عليه المسلمون في آخر حياة الرسول وبعد وفاته.

وبعد أن عرضنا ما قالت به بعض الروايات, والتي صدّق عليها العلماء, ننظر في القرآن, لننظر؛ هل ما قال به العلماء الأفاضل هو ما قال به القرآن.

الناظر في القرآن يجد أنه يقولها صراحة, أنه أُنزل على شكل سور ولم ينزل على شكل آيات متفرقات! فكانت السور الطوال مثل البقرة وآل عمران والنساء تنزل جملة واحدة, كما كانت السور القصار مثل الإخلاص والكوثر والنصر تنزل جملة واحدة. وإذا كان القرآن تبيانا لكل شيء فمن البدهي والمنطقي أن يبين الهيئة التي أنزل بها, فإذا كان قد بيّن طريقة إنزاله المخالفة للطريقة التي أوتيها موسى, فلم يؤت الرسول الكريم ألواحا وإنما أنزل القرآن على قلبه, فقال تعالى: “قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة : 97]”

وإذا كان قد بيّن لسانه (لغته) فقال: “نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ [الشعراء : 193-195]”
وإذا كان قد بيّن أنه نزل مفرقا, أفلا يوضح طريقة الفرق هذه؟!
ونبدأ في تناول الآيات التي تصرح أن القرآن أُنزل على شكل سور وليس على شكل آيات:
ونبدأ بالآيات التي يخبر الله تعالى بعدم قدرة البشر على الإتيان بمثل القرآن, والتي قالوا أن الله تعالى تحدى فيها البشر, وبغض النظر إذا كان الأمر تحديا أو إخبارا فإن كليهما مؤدٍ إلى ما نقول به:

يقول الله تعالى في كتابه الكريم:
“وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة : 23]”
“أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [يونس : 38]”
“أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [هود : 13]”

هذه الآيات تقول صراحة أن الكفار لن يستطيعوا أن يأتوا بعشر سور من القرآن أو حتى سورة واحدة, وعلى قولهم فهي تتحداهم أن يأتوا بسورة أو عشرة, فلماذا يطالبهم الله عزوجل أن يفعلوا ما لم يفعله هو في كثير من الأحيان؟!
فإذا كان يُنزل على الرسول الكريم السور القصار فقط جملة واحدة, وأحيانا يُفرقها, وأما السور الكبار فينزلها على مرات متتاليات, بدون أي ترتيب للآيات, فينزل آخر السورة قبل وسطها, وقبل أولها؟!

التحدي لا يكون إلا إذا كانت السور, كبيرة كانت أو صغيرة, تُنزل جملة واحدة وعلى الآخرين أن يأتوا بمثلها. ونقدم لك عزيزي القارئ تصورا يقرب لك المسألة:
تصور أني شاعر كبير وأقول أني آتي بقصائد لم يأت به الأوائل ولن يستطيعها الأواخر, فقال لي الناس: قدّم ما عندك لنحكم, فقدمت لهم بعض أبيات من قصيدة, ثم بعدها بفترة قدمت لهم أبيات أخرى, وقلت لهم: هذه الأبيات لا أعرف موضعها من القصيدة, وسأخبركم فيما بعد, المهم أنها من القصيدة. وهكذا كل فترة, أقدم لهم بعض أبيات تضاف إلى القصيدة, وأحيانا كنت أحذف بعض الأبيات بعد أن أقدمها لهم, وأحيانا أقدم لهم أبياتا, فيعترض معترض أو يسأل سائل, فأضيف بعض الكلمات إلى القصيدة, وبعد فترة أقول لهم: الآن انتهت القصيدة, وهذا هو الشكل النهائي لها, وأتحداكم أن تأتوا بمثلها؟!

بالله عليك هل يُقبل مثل هذا الشكل من التحدي في أي مجال أدبي أو فكري؟! إن تفرد أي نص أدبي أو فكري, شعرا كان أو نثرا, يكمن في مجموعه, فالعناصر المعروضة في الموضوع الواحد يكمل ويصدق بعضها بعضا, إضافة إلى المحسنات البديعية المعتمدة على تراص الكلمات بجوار بعضها بعضا, والتي تقدم إيقاعا معينا أو تقابلا بين مفردات وأخرى, أما أن يكون الموضوع المعروض عبارة عن جمل مبتسرة, يفترض فيها الإكمال فيما بعد فليس فيها أي كمال أو تفرد!
إن قولهم هذا كمثل من قال أني رسمت صورة لا مثيل لها, ثم أخذ يعطينا قطعا صغيرة منها, إذا ركبناها مثل لعبة “البازل” فسنحصل على صورة رائعة! وقد تظل هناك بعض القطع, يقدمها لنا بعد سنوات طوال لنكمل الصورة! وعلى الرغم من ذلك يصر أن هذه الصورة, على الرغم من نقصها, تحفة فنية لا مثيل لها! ولن يأتي أحد بمثلها!!
ونلاحظ أن الله تعالى لم يخبر –لم يتحد- بأننا لا نستطيع أن نأتي بمثل بضع آيات, وإنما كان التحدي –الإخبار- بعدم القدرة على الإتيان بسورة, وإذا كانت الآيات المنزلة في كل مرة كافية شافية في قضية ما فإن إضافة غيرها يعد حشوا! أو نقضا للتناسق بين الكلام وبعضه.

وإذا كان الله تعالى يعتمد هذا الأسلوب في إنزال النصوص, فكان من الممكن أن يعتمده أيضا كفار قريش, فيردوا على محمد بجمل مرتبطة, ويقولون: هذا مثل ما أنزل عليك وسنكمله نحن أيضا فيما بعد, عندما تكمل أنت سورك!! ومن الممكن أن يفعله أي مدعٍ للنبوة في أي زمن, فيقدم بعض نصوص تتناول أي موضوعات, فإذا قيل له: وماذا في هذه النصوص, ليست على القدر من الفصاحة والبيان, كما أن موضوعها ليس على المستوى. أجاب: لقد فعل الله سابقا مثل هذا! –تعالى الله عن هذا- فأنزل جملا متفرقة على محمد, ثم جمعها فيما بعد فصارت معجزة أدبية! فلم تقبلونها مع محمد وترفضونها معي؟!

إن القول بتفريق سور القرآن دق لأكبر مسمار في نعش تفرد القرآن, وقضاء على تحديه بأن يأتي المخالف بسورة من مثله, فسيأتي المخالف ببعض جمل ويقول: أتيت بسورة من مثله, وباقيها سأكمله بعد سنة أو عشر سنين, كما حدث مع مزملكم؟! فكيف نرد على هذا؟!
أما مع القول أن القرآن أنزل على شكل سور كاملة متصلة, فلا مجال للمخالف للاعتراض أو المراوغة, وعليه إما الإتيان بسورة أو السكوت! وسيسكت!

الأدلة على نزوله على شكل سور
حتى لا يقول قائل: إن ما تقول به, مجرد استنتاجات من آيات, لا تقوى على مكاتفة الروايات, -على الرغم من أن كليهما ظني, إلا أن الروايات حتما أقوى من الاستنتاجات عند الكثرة-, نقدم الأدلة من القرآن على أنه كان ينزل على شكل سور وليس آيات متفرقات:

الناظر في كتاب الله تعالى يجد أنه يتحدث دوما عن نزول سور, ولم يتحدث أبدا عن إنزال آيات, فإذا نظرنا في سورة التوبة وجدنا هذه النقطة جد جلية, فنجدها تتكرر أربع مرات, فيقول الله تعالى:
“يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ [التوبة : 64]”
فالله تعالى يحكي حذر المنافقين من إنزال سورة تنبأ بما في قلوبهم, فالمنافقون في زمن الرسول يعرفون أن القرآن ينزل على شكل سور, لذلك كانوا في حذر وترقب لنزول سورة تفضحهم, ولو كان هناك نزول لآيات متفرقات لكان حذرهم أولى وأكبر من هذه الآيات, لأنه من الممكن أن يفضحوا في خمس أو عشر آيات, ولكن لما كان القرآن يُنزل سورا سورا كان الحذر من نزول سورة فاضحة كاشفة لما في الصدور.

فإذا انتقلنا إلى آية أخرى في سورة التوبة, نلتقي قوله سبحانه:
“وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة : 86]”
فهنا كذلك يتحدث الله تعالى عن إنزال سورة, وعن رد فعل المنافقين عند إنزال هذه السورة, ولو كان القرآن ينزل على شكل آيات لكان من الأولى الحديث عن رد فعل هؤلاء مع الآيات.
وننتقل إلى آية أخرى, فنجد قوله تعالى:


“وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة : 124]”

فالحديث هنا أيضا عن إنزال سورة, فالسورة كانت تنزل فيجمع الرسول الكريم الناس فيقرأها عليهم, فيتساءل المنافقون: ماذا في هذا؟ هل أثرت هذه السورة في أحدكم شيئا؟ فأما المؤمنون فيزدادون إيمانا وأما الذين في قلوبهم مرض فتزيدهم السورة رجسا إلى رجسهم. فالحديث هنا أيضا عن سور وليس عن آيات.

وبعد هذه الآية بآيتين فقط نجد قوله تعالى:
“وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون [التوبة : 127]”
فالله تعالى يحكي حال هؤلاء عند نزول القرآن, فبعضهم في مرة يتساءل عن تأثير السورة في الإيمان, وبعضهم في مرة أخرى يفر وينصرف, ولو كان هناك إنزال لآيات لكانت هذه الآية هي المناسبة للحديث عن هذا الموقف, فالآية السابقة تحدثت عن ردة فعلهم تجاه إنزال السور, فمن الأولى أن تتحدث هذه عن ردة فعلهم المماثلة عند إنزال الآيات. ولكن لما كان القرآن ينزل على شكل سور فقط, كان الحديث في هذه الآية كذلك عن شكل آخر لردة الفعل عند نزول السور.

وآيتي التوبة الأخيرة كافيتان لمن يبحث عن الحق, ولكن نكمل ذكر باقي الآيات حول هذه المسألة, حتى لا يقال أنها ذُكرت في سورة واحدة من سور القرآن فقط, فإذا نظرنا في أول سورة النور وجدنا قوله تعالى:
“سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور : 1]”

فالله تعالى يخبر أن هذه السورة أنزلت وفرضت, والعجيب أن هناك بعض الروايات التي تقول أنها لم تنزل على شكل سورة, وإنما أنزلت آيات متفرقات, فنجد في البخاري في رواية حادثة الإفك أن عشر آيات أنزلت جملة واحدة بعد الحادثة, من أول قوله تعالى: “إنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ” إلى قوله تعالى: “وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [النور : 11-20]”

ولست أدري أنصدق الآية, التي تقول أنها أنزلت سورة, أم الرواية التي تقول أنها فرقت[1]؟!فإذا أتينا إلى آخر موضع متعلق بالإنزال نجد قوله تعالى:
“وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ [محمد : 20]”

فالمؤمنون يطلبون ويتمنون نزول سورة, فلم لا يتمنون هم أيضا إنزال آيات؟! إن هذا أسهل وأسرع؟! ولكن لأنهم يرون القرآن ينزل على شكل سور تمنوا نزول سورة, فإذا أنزلت سورة محكمة حدث كذا وكذا ……
فكما رأينا فإن الآيات كلها تتحدث عن إنزال سور ورد فعل أو طلب أو حذر من إنزال سور, ولم نجد طلبا أو خوفا من آيات, فكل هذا يؤكد أن القرآن كان ينزل على شكل سور.

وحتى لا يبقى عند القارئ أي شك بهذه المسألة نناقش الآيات التي تتعلق بإنزال آيات, حتى نبين له أنها لا علاقة لها بهذه المسألة.

إذا نظرنا في الآيات التي تتحدث عن طلب إنزال آيات, مثل قوله تعالى:
“وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [الأنعام : 37]”
ومثل قوله سبحانه: “وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ [يونس : 20]”
وقوله: “وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ [العنكبوت : 50]”

نجد أن الحديث لا يدور عن آية من آيات القرآن, وإنما حول آية حسية –ما يعرف باطلا ب المعجزة-, فيرد الله تعالى على طلب المشركين في كل آية برد مختلف! وهذه الآيات مثل قوله: “وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ [الأنعام : 8]”


فهم يطلبون نزول الملك, وكذلك يريدون آية حسية, وبداهة هم لا يريدون آية من القرآن, فلقد قدم لهم الرسول الكريم سورا كاملة!
إذا فطلب الآيات هو طلب لآيات حسية وليس لآيات قرآنية.

فإذا انتقلنا إلى الآيات التي تتحدث عن نزول آيات, نجد أنها تتحدث عنها بمعنى أنها دلائل بينات, علامات على الصدق, لا بمعنى أنها آيات في مقابل السور, فالله تعالى يقول:
“وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ [البقرة : 99]”
“وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ [الحج : 16]”
فالآيات البينات التي أنزلت إلى الرسول الكريم هي مجموع القرآن أو السور التي أنزلت عليه –والتي أخبر أنه لن يؤتى بمثلها, ولم يقل المولى هذا مع الآيات-, وليس الآيات المنفصلة عن بعضها.


إذا وكما رأينا, فالقرآن الكريم يتحدث عن إنزال سور ولم يتحدث أبدأ عن إنزال آيات, فعلى كل مؤمن متبع للكتاب أن يصدق بما قاله, لا أن يتبع الربمات التي لا تغني عن الحق شيئا, فإذا رفض هذا القول فليسأل نفسه: هل معه دليل غير “ربما”؟!

وبهذا القول نكون قد قدمنا قول القرآن في المسألة, قولا منطقيا متفقا مع العقل والآيات, وأجبنا على السؤال المستعصي: كم مرة نزل جبريل على الرسول الكريم بالقرآن؟ وهو أنه نزل بعدد سور القرآن. وكذلك نقضي على الإشكاليات الكبرى, التي نشأت بسبب القول بتجزئة سور القرآن نزولا, والتي سنقدم للقارئ الكريم طرفا منها, حتى يعرف كم تخبط السابقون بسبب القول برأيهم, الذي لا أصل له في القرآن.

وأنا أعلم أنه غالبا ما سيرفض القارئ الكريم هذا الرأي, لأنه نشأ على القول الأخر, ولورود الكثير من الروايات التي تقول بنزول آيات متفرقات تبعا للمناسبات, والقول بهذا القول موجب لردها, ولكن عندما يقرأ الإشكاليات التي سببها قولهم هذا, والتي سنذكرها بعد سطور قلائل, والتي غفل عنها ولم ينبهه إليها أحد, سيعيد التفكر مرة أخرى في هذه المسألة, وبإذن الله سيميل إلى رأينا في المسألة بعد فترة من الزمن, طالت أو قصرت.

إشكاليات القول بالنزول على شكل آيات

درسنا نحن طالبي العلم الشرعي, القول بنزول القرآن مفرقا على شكل سور وآيات, ولم نر في ذلك حرجا, فلما توقفت لأتفكر في هذه المسألة وجدت أنها جد خطيرة وسببت الكثير من الإشكاليات والمطاعن, التي غفلنا أو تغافلنا عنها, ونبدأ في عرضها على القارئ الكريم, حتى لا يتقول على الله ولا ينقصه قدره, وسيعرف بعد هذا العرض كم هو تجن عظيم القول بغير ما نقول به:

أول وأكبر إشكالية تنبع من قبول نزول القرآن على شكل آيات منفصلة, بخلاف إعطاء المعاندين أكبر فرصة لرفض الإيمان بالقرآن, هي وقوع التشكيك في مصدر الوحي! والإدعاء أن القرآن الكريم من عند محمد بن عبدالله!
فإذا كان القرآن الكريم منزل من لدن حكيم عليم, وهو الواقع فعلا, أفلم يكن علام الغيوب عارفا بالوقائع التي يمكن حدوثها في المستقبل فيدرجها في كتابه؟ أم أنه ينتظر حتى تقع, فيُعدل من أجلها كلمته الخاتمة؟! إننا نشكو من القصور التشريعي الذي تعاني وتأنُّ منه الأحكام الوضعية, لأنها من وضع وتأليف بشر, ليست لديهم الرؤية الكاملة ولا التوقعات المستقبلية للحوادث الممكنة, لذا فإن هذه القوانين محكوم عليها بالنقص والعجز وبالتعديل المستقبلي! فهل يكون الأمر كذلك مع الله سبحانه وتعالى؟! إننا نباهي دوما بأن القرآن كتاب شامل متجاوز لحدود الزمان والمكان, صالح لكل إنسان مهما ومتى كان, فكيف يكون ذلك إذا كان الله –تعالى سبحانه عن ذلك- لم ينتبه أو يراعي بعض المسائل البسيطة في زمن الرسول, فما بال ما بعد ذلك بآلاف السنين والأميال؟!!

فإذا أخذنا رواية واردة في مسلم -على سبيل المثال- تقول:
عن أبي إسحاق أنه سمع البراء يقول في هذه الآية: “لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله” فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا فجاء بكتف يكتبها, فشكا إليه بن أم مكتوم ضرارته فنزلت: “لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أوليالضرر”
وهنا نتساءل: لماذا لم ينزلها الله عزوجل في المرة الأولى, أكان هذا عن نقص علم أم عن سهو عن أصحاب الضرر, أم غفلة منه؟ تعالى سبحانه عن ذلك! إن علمه وكرمه يجعلان هذا الأمر محالا!

وإذا بررها القابلون بأي تبرير مثل القول أن هذا كان من أجل إظهار منة الله على عباده! فإن هذا لا يرفع شبهة السهو والغفلة –تعالى سبحانه عن ذلك- كما أنه يؤدي إلى التشكيك, ونسب القرآن إلى محمد نفسه! فيقول الطاعن أو غير المؤمن: إن الرب كامل وعلمه كذلك, أما هذا القرآن فكان من عند محمد, يؤلفه كما يحلو له, فإذا اُعترض عليه أصحابه أضاف أو حذف, وقال: أوحي إلي كذا وكذا, ولو كان من عند الله لما حدث هذا؟!

فإذا تركنا الطاعنين جانبا, وانتقلنا إلى الصحابة, ألا يثير هذا عندهم الشك؟ أليسوا بشر يفكرون, ويدفعهم إيمانهم بكمال الله إلى التساؤل حول نقصان الإنزال وإكماله فيما بعد! فإذا غفل الصحابة عن هذا الأمر فلم لم ينتبه إليه المنافقون والمرجفون واليهود في المدينة, فيقولون أن محمدا يؤلف من عنده فيضيف ويحذف!

فتصور مقدار الحيرة والتخبط الذي سيكون فيه الصحابة, المكلفون بوعي القرآن في صدورهم!! فإذا أنزلت آية ناقصة!!! ووعاها (حفظها) الصحابة على هذا الشكل, ثم أُضيف جزء إلى الآية!!! فمن المفترض أن يجمع الرسول الصحابة ويخبرهم أن يعدلوا حفظهم على الشكل الجديد, ولا يعترضوا أو يشكوا!!!

وإذا أُنزلت بعض آيات في آخر سورة وبعدها بفترة آيات أخر في وسط سورة أخرى, وبعدها بفترة آيات في أول السورة الأولى, وبعدها بفترة آيات في وسط سورة جديدة! فيفترض في كل مرة أن يجمع الرسول الصحابة ويخبرهم بهذه الآيات ويأمرهم بأن يحفظوها في جانب حتى تنزل باقي السورة, وهكذا كل مرة حتى تنزل السورة كاملة فيتلوها عليهم بالترتيب الجديد, ويأمرهم أن يحفظوها على هذا الشكل في أدمغتهم!!!

لا يجد الأخوة حرجا من هذا ويقبلون أمثال الرواية, التي رواها أحمد وأبوداود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال‏:‏ قلت لعثمان‏:‏ ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم, ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال عثمان‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تنزل عليه السورة ذات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول‏:‏ ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا. وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولاً وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها (!!!)
فقُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لها أنها منها, فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال[2]” اهـ

فيقبلون أن ينزل الشيء من القرآن على الرسول, فيؤمر بأن يوضع في المكان الفلاني من السورة الفلانية!

وتصور أنك مكلف بحفظ قصائد شعرية أو خطب نثرية وتُبلغ إليك بدون أي نظام, فتارة من الآخر وتارة من الأول وتارة من الوسط وتارة مرتبة, وكله بجوار بعضه, وبعد سنين طوال تكمل القصائد والخطب وتؤمر بحفظها على الترتيب الجديد!!

فإذا أضفنا إليه القول بالنسخ –كما يفهمون- فكم ستكون الأسباب الداعية للتخبط والشك والحيرة! والغير منطقي ألا ينتبه المعاندون إلى كل هذا ويطعنوا به أو يعلقوا عليه!

وكنا قد كتبا قصة افتراضية عند حديثنا عن النسخ في كتابنا “لماذا فسروا القرآن” بيّنا فيها عظيم التخبط والحيرة التي كان سيقع فيها الصحابة لو كان هناك نسخا في القرآن, ونثبتها هنا من باب التذكير:
“عمر بن الخطاب يقول لصاحبه: أنزل اليوم آيات جدد وهي كذا وكذا. وبعد أسبوع أو شهر أو عام يقول له صاحبه: الآيات التي نزلت في يوم كذا وكذا رُفعت, فلم تعد قرآنا ولسنا مطالبين بها. وبعد فترة صاحب عمر يقول له: أنزل اليوم آيات جدد وهي كذا وكذا.

وبعد فترة عمر يقول له: الآيات الفلانية رفع حكمها الآية الفلانية أو الحديث الفلاني, فلم نعد مطالبين بالعمل بها ولكن لفظها موجود .

وبعد فترة عمر يقول لصاحبه: أنزل اليوم آيات جدد.
وبعد فترة يقول له صاحبه: رفعت الآيات لفظا فلم تعد قرآنا وبقي حكمها فنحن مطالبون بالعمل بها وأن ننساها.
وبعد فترة نرى عمرا يعمل بحكم معين, فيقول له صاحبه: لقد نُسخت هذه الآية.
فيقول له عمر: لا يا أخي لقد أخطأت, فهذه الآية نسخت الآية الفلانية.
فيقول له صاحبه: لا يا أخي أنت لم تعرف, فقد أنزلت آية نسخت الآية الناسخة, فدع العمل بها .!!!” انتهى!
فإذا أخذنا بقولهم ببدائية ومحدودية الأدوات التي كانت يُكتب بها وعليها القرآن, فإن هذا مؤد إلى إشكالية كبيرة, وهي التصحيح والمحو! فإذا كان الصحابة مثلا قد كتبوا عشرين آية في صحيفة ما, وأنزل بعد ذلك خمس آيات, يُفترض فيها أن توضع في داخل هذه الآيات العشرين, فهذا يعني أن عليهم أن يعيدوا كتابتها من جديد! وإذا أضيفت بعد الكلمات فلن يتعب هذا كثيرا, وإنما سيؤدي فقط إلى بعض الكحت وعلامة × ووضع الكلمات الجديدة بأعلى السطر بين قوسين!

وهكذا سنجد صحفا مختلفة للقرآن, صحف قبل التعديل وأخرى بعدها! وسيؤدي هذا لا محالة إلى وقوع الاختلاف بين المسلمين, حول أي النصين أصح!!

فإذا تركنا الطعن والتشكيك يحق لنا أن نتساءل: إذا كانت هناك آيات أنزلت بدون بعض أجزاءها مثل الآية المذكورة في الحديث, أو مثل قولهم أن آية الصيام نزلت بدون قوله تعالى: “من الفجر” واقتصرت فقط على الخيط الأبيض والأسود, فهل هذه الآيات قبل هذا الجزء المدرج فيها كانت كاملة وصالحة أم أنها كانت ناقصة؟ فإذا كانت كاملة وصالحة فالمدرج فيها حشو, وإذا كانت ناقصة ف … تعالى الله عن ذلك!

وتصور إنسانا يؤلف بيت شعر أو قطعة نثرية يقول أنها ليس لها مثيل, فيعترض عليه معترض فيضيف إليها مباشرة بعض الكلمات تعديلا فيها, فماذا تقول فيه وفي صياغته وفي تحديه؟!

كما أدى قولهم هذا إلى تقبلهم وقوع النسخ في آيات ترد متتالية بدلا من أن يتدبروها ليستخرجوا المراد منها, فكان التوفيق الأيسر بالنسبة لهم أن يقولوا أن هذه الآيات أنزلت في كذا والأخرى أنزلت بعدها أو قبلها في أمر آخر! وإحداهما ناسخة للأخرى! و من أبرز الأمثلة على التخبط هو محاولة توفيقهم بين الآيات الواردة في شأن الصيام في سورة البقرة, فعلى الرغم من أن الآيات ولله الحمد متتاليات إلا أنهم جعلوا بعضها ناسخ للآخر, وجعلوها نزلت مجزئة على مرات كثيرة, وكل مرة يُضاف حكم جديد!

وكل هذا بسبب قبولهم روايات من أمثال ما رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال:

“أُحيلت الصلاة ثلاثة أحوال وأحيل الصيام ثلاثة أحوال، فأما أحوال الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهو يصلي سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس، ثم إن الله عز وجل أنزل عليه: “قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها” فوجهه الله إلى مكة هذا حول، قال: وكانوا يجتمعون للصلاة ويؤذن بها بعضهم بعضاً حتى نقسوا أو كادوا ينقسون ، ثم إن رجلاً من الأنصار يقال له عبد الله بن زيد بن عبد ربه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني رأيت فيما يرى النائم ولو قلت: إني لم أكن نائماً لصدقت، إني أنا بين النائم واليقظان إذ رأيت شخصاً عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة فقال: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله ـ مثنى ـ حتى فرغ من الأذان ثم أمهل ساعة ثم قال مثل الذي قال غير أنه يزيد في ذلك: قد قامت الصلاة ـ مرتين ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم علِّمها بلالاً فليؤذن بها، فكان بلال أول من أذن بها، قال: وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله قد طاف بي مثل الذي طاف به غير أنه سبقني، فهذان حالان، قال: وكانوا يأتون الصلاة وقد سبقهم النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها فكان الرجل يشير إلى الرجل أن كم صلى؟ فيقول: واحدة أو اثنتين. فيصليهما ثم يدخل مع القوم في صلاتهم. قال: فجاء معاذ فقال: لا أجده على حال أبداً إلا كنت عليها ثم قضيت ما سبقني. قال: فجاء وقد سبقه النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها قال: فثبت معه فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقضى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سن لكم معاذ فهكذا فاصنعوا. فهذه ثلاثة أحوال، وأما أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وصام عاشوراء ثم إن الله فرض عليه الصيام

وأنزل الله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون” إلى قوله: “وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين” فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكيناً فأجزأ ذلك عنه، ثم إن الله عز وجل أنزل الآية الأخرى: “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن” إلى قوله: “فمن شهد منكم الشهر فليصمه” فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام
فهذان حالان، وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا ثم إن رجلاً من الأنصار يقال له: صرمة كان يعمل صائماً حتى أمسى فجاء إلى أهله فصلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح، فأصبح صائماً فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهداً شديداً فقال: ما لي أراك قد جهدت جهداً شديداً؟ قال: يا رسول الله إني عملت أمس فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت فأصبحت حين أصبحت صائماً. قال: وكان عمر بن الخطاب قد أصاب من النساء بعدما نام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك, فأنزل الله عز وجل: “أحل لكم ليلة النساء الرفث إلى نسائكم” إلى قوله: “ثم أتموا الصيام إلى الليل” اهـ

فهذه الرواية تجعل التشريع تارة بيد الرسول: “إنه سن لكم معاذ فهكذا فاصنعوا”, فهل كانت الصلاة بالشكل الأول من عند الله أم من عند محمد؟ فإذا كانت من عند الله فكيف يعدل فيها معاذ ويتقبل الرسول؟ أما إذا كان محمد هو مؤلف شكل الصلاة فيمكن قبول أن فعل معاذ أعجبه لذلك ألزم المسلمين به! ولا تبرير غير ذلك! وهذه الجملة وحدها أكبر من كافية لرد الحديث, وعلى الرغم من ذلك قبلوه!!

وتارة تجعل علم الله قاصرا, فينزل الأحكام آية آية, ويعدل في الآية حسبما يظهر ويحدث بعد ذلك! وعلى الصحابة أن ينصاعوا في كل مرة ولا يعترض معترض على التعديلات الجديدة! ونتساءل: إذا كنا غير محظوظين ولم تحدث هذه الوقائع في زمن الرسول, وبقيت الآيات على ما هي عليه, كم سيكون الصيام عسيرا؟!!

وبسبب قولهم هذا وقعوا في إشكاليات كبيرة مثل القول بنسخ الحكم قبل العمل به!! تصور حكم يُفرض ثم يُنسخ قبل أن يُعمل به!!! ولذا نجد الإمام الألوسي يقول في تفسيره روح المعاني عند تناوله لآيات الصيام في سورة البقرة:

“واتفق أهل هذا القول على أن هذا الواجب قد نُسخ بصوم رمضان، واستشكل بأن فرضيته إنما ثبتت بما في هذه الآية, فإن كان قد عُمل بذلك الحكم مدة مديدة كما قيل به فكيف يكون الناسخ متصلاً وإن لم يكن عُمل به, لا يصح النسخ إذ لا نسخ قبل العمل؟ وأجيب: أما على اختيار الأول فبأن الاتصال في التلاوة لا يدل على الاتصال في النزول، وأما على اختيار الثاني فبأن الأصح جواز النسخ قبل العمل فتدبر.” اهـ

فإذا تركنا هذه الإشكاليات قابلتنا إشكاليات أخرى وهي تسمية السور, فكيف كانت السور تسمى, إذا كانت تنزل مجزأة؟ ويعلق الإستاذ إسماعيل الكبسي على هذه المسألة فيقول:
“فلنعلم أن السور كلها مسميات، فكل سورة لها اسم به تعرف عند نزولها بلا تريث، فالسورة الثانية من القرآن اسمها البقرة. أليست كذلك؟
بلى، لكن أين ورد اسم البقرة أو ذكرها؟ لم يرد إلا في الآيات 67 وما يليها من السورة إلى 71.
فهل يمكن أن نبني على أساسكم القائل أن السورة نزلت مقطعة؟ هل يمكن مع هذا أن تسمى السورة بهذا الاسم قبل نزول الآيات التي تذكر فيها البقرة؟ كلا. إذن فكيف سميت السورة بهذا الاسم من البداية؟!! لم تسم بهذا الإسم إلا لأنها نزلت كاملة متواصلة حتى النهاية، ولها صح أن يطلق عليها هذا الاسم وبه تسمى وإلا كان الاسم عبثاً وإبهاماً، وهذا لا يجوز على الله العليم. وكذلك تقول في سورة آل عمران، بل إن سورة المائدة لم تذكر فيها المائدة إلا في أواخرها، فكيف سميت بهذا الاسم من بدايتها؟[3]” اهـ

وغير هذا من الإشكاليات كثير أثارها قولهم بنزول القرآن على شكل آيات وليس سور. ومع القول بنزوله على شكل سور ترتفع كل هذه الإشكاليات, فالله العليم القدير الحكيم المشرع كان ينزل سورا على محمد ليقرأها على الناس, ويتحداهم

 أن يأتوا بمثلها, وكان المؤمنون يستقبلون هذا السور من الرسول فتزيدهم إيمانا فيعونها في صدورهم, وعندما كان يجد جديد أو طارئ كانوا يتمنون نزول سور ويحذر المنافقون نزول سور.

وهكذا توالى نزول السور على الرسول الأعظم إلى أن رتبها في المصحف بالشكل الحالي, أي أن كل ما هنالك أن السور كانت تنزل على الرسول فيكتبها فيجعلها بجوار أخواتها, ثم بعد ذلك أُجريت عملية الترتيب على منوال معين, وعلى هذا الشكل كان المصحف. وبهذا ننزه الله تعالى عن نقص العلم, وعن إنزال آيات ناقصات –بداهة: غير بينات!!- ونبرأ رسولنا الكريم من تهمة تأليف القرآن والتعديل فيه حسب الظروف!

تعليل الروايات

أنا على ثقة أن كثير من القراء سيرفض هذا القول لا لشيء إلا لأنه مخالف لما تقول به كثير من الروايات, كما أنه مما لم تأت به الأوائل, على الرغم من الأدلة القرآنية والعقلية التي قدمناها عليه, والإشكاليات التي لا راد لها النابعة عن قولهم! ولن نتوقف لنناقش هذه الروايات لأنها من الكثرة بمكان, حتى أنه من المستحيل مناقشتها في مثل هذا الكتاب, ولكنا نوضح له لماذا رفضنا هذا الروايات على الرغم من كثرتها, والتي تشير إلى أن لها أصلا ما! فنقول:

كثيرٌ من الروايات التي تحدثت عن إنزال آيات من القرآن كانت تدور في فلك سبب النزول, ومن المسلم به أن القول بأسباب النزول هو اجتهاد من الصحابي! وبغض النظر عن كونه اجتهادا أو غير ذلك, فلا يعني قول الصحابي أن الآيات من كذا إلى كذا أُنزلت في كذا وكذا, أنها أنزلت بمفردها مستقلة عن باقي السورة, وإنما يعني أنه يرى أن سبب إنزالها كانت الحادثة الفلانية, وسواء نزلت مستقلة –على قولهم- أو نزلت داخل السورة فلن يتغير منطوق الصحابي بشأن المسألة.

فإذا استبعدنا روايات أسباب النزول, التي لا تصرح بنزول آيات منفصلة عن باقي السورة, وإنما تتحدث عن نزول آيات, وجدنا أننا نحينا الجزء الأكبر من الروايات, وما بقي ليس بمثل هذه الكثرة!


فإذا تناولنا باقي الروايات وجدنا أن أكثرها ضعيف سندا ولا يخلو من مطعن, فإذا ناقشنا المتون وجدنا فيها منكرات, مثل الرواية التي ذكرناها عن معاذ بأعلى ومثل الروايات التي تتكلم عن نزول أجزاء من آيات. وبغض النظر عن المنكرات فإنها مردودة متنا لمخالفتها القرآن, والذي لم يتحدث إلا عن إنزال سور!

ونحن نرى أن سبب كثرة هذه الروايات هو –إذا أحسنا الظن برواتها واستبعدنا الميل إلى التعالم الكاذب- راجع إلى التداخل بين وحي السنة والوحي القرآني! ولا يعني ذلك أننا نقول أن الصحابة لم يكونوا يميزون بين السنة والقرآن, وإنما نقصد القول بأن الله تعالى كان كثيرا ما يوحي إلى الرسول الكريم بالأمر فيبلغه الصحابة فيعملون به, وبعد ذلك إما أن يأتي تصديقه في القرآن فيشير إليه, أو يأتي الأمر به في القرآن. ومن ذلك الوضوء, فمن المعلوم أن المسلمين كانوا يصلون الصلوات الخمس وكانوا يتوضؤن لها, ولم يأت أي ذكر للوضوء في القرآن إلا في آية واحدة في سورة المائدة, وهي آخر ما نزل من القرآن, فأتت آية المائدة تأكيدا لحكم الوضوء وذِكرا له في الكتاب.

فبسبب هذا التداخل التشريعي وُجدت هذه الروايات, والتي خلطت الحابل بالنابل, فجعلت بعض الأحكام التي كانت قد فُرضت أول الأمر في السنة ثم أُكدت وصُدقت بالقرآن مما فُرض وأُنزل في القرآن, ولكي يمرروها اضطروا إلى القول بنزول آيات منفصلات تحمل هذه الأحكام بشكل معين!

إذا لصراحة آيات الكتاب ولهذا كله لم نتحرج من رد الروايات الكثيرة, لأنها لا تحمل أي يقين تاريخي.

[1] لن يعدم المعارضون حجة لتصحيح الرواية, فسيقولون: ربما أنزلت الآيات العشر مجتمعة, ثم أنزلت باقي السورة بعد ذلك ثم أنزل أول السورة, وبذلك تكون السورة قد أنزلت! وربما أنزلت السورة مرة أخرى كاملة! والآية تبطل احتمالاتهم وربماتهم, فهي تنص على أنها لم تنزل إلا كسورة!

[2] هذه الروايات كلها مدارها على عوف بن أبي جميلة ويزيد الفارسي! وهناك من ضعفها من العلماء لجهالة يزيد الفارسي! كما أن كليهما فارسي, وهذا يطرح علامات استفهام كبيرة حول هذا العلم الفارسي الذي خفي عن العرب! وتبعا للمنهج الذي نقول به في تصحيح الأحاديث فالرواية ضعيفة لا محالة, لحدوث التفرد وفي طبقات عدة, كما أنها مخالفة للقرآن. ولمزيد من التفاصيل حول المنهج في التصحيح والتضعيف يرجى مراجعة الباب الأخير من كتابنا: القرآنيون: مصلحون أم هادمون. من إصدارات مكتبة النافذة. والذي عرضنا فيه تأصيل أصيل في تلقي السنة وتصحيحها.

[3] منقول من مقال له بعنوان: هل القرآن تنزل سورا أم آيات متفرقات –الجزء الثاني- وهو موجود على موقعه الشخصي: www.alkebsi.com

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

الشك

بعض “القارئين” -تقليدا لبعض الفلاسفة- يمدحون ويزينون لك:“الشك”وأنه ضروري لتحقيق المعرفة .. وبناء الذات والحضارة!!!!!!! …

23٬307 تعليقات

  1. Благоустройство могил на Захарьинском кладбище: плитка, щебень, цветники. Оформление мест захоронений в Москве https://uborka-mogil-moskva.ru/uborka-restavracziya-ozelenenie-mogil-na-zaharinskom-kladbishhe/

  2. 1win [url=https://www.1win1017.top]https://www.1win1017.top[/url] .

  3. “מספיק! עצור! היא ירדה ממני, הסתכלה על התחת שלי והתחילה לבחור את קצה האצבעות סחטו אותן. היא חשה כאב עמום ומרוחק מאוד. נשימה לסירוגין, read more

  4. таможеный брокер [url=https://www.tamozhennyj-broker12.ru]https://www.tamozhennyj-broker12.ru[/url] .

  5. Приобретение документа о высшем образовании через качественную и надежную фирму дарит ряд преимуществ для покупателя. Данное решение позволяет сэкономить как личное время, так и серьезные финансовые средства. Впрочем, только на этом выгода не ограничивается, достоинств значительно больше.Мы можем предложить дипломы психологов, юристов, экономистов и любых других профессий. Дипломы производят на оригинальных бланках государственного образца. Доступная цена по сравнению с крупными тратами на обучение и проживание. Покупка диплома университета станет целесообразным шагом.
    Заказать диплом: [url=http://diplomers.com/vnesite-diplom-v-reestr-bez-lishnix-xlopot-i-zaderzhek/]diplomers.com/vnesite-diplom-v-reestr-bez-lishnix-xlopot-i-zaderzhek/[/url]

  6. O site oficial 1win bet https://1winbr.com.br e apostar em desporto, casinos, jogos e torneios. Suporte para diversas moedas, transacoes rapidas, promocoes e cashback. Jogue confortavelmente no seu PC ou atraves da aplicacao.

  7. Советы тех, кто знает, о чем говорит. Все о моде, кулинарии, женском здоворье. Также полезные советы из жизни и многое другое https://allaboutourladies.ru/

  8. Reasons Real Estate Companies Would Hire a Certified Roofing Expert in Wilmington, North Carolina

    Homes by the ocean, like Wilmington, face unique challenges when it comes to roof care. Hiring a qualified roofing company is crucial for addressing these challenges and guaranteeing the longevity of roofing systems.

    Highlighted are various motivations why homeowners should think about employing qualified roofing assistance in Wilmington, North Carolina:

    Causes Property Owners Would Hire a Professionally Licensed Roofer in Coastal NC

    Homes in coastal areas, such as Wilmington, North Carolina, deal with distinct problems regarding roof maintenance. Engaging a qualified roofing company is essential for addressing these challenges and guaranteeing the longevity of coverings.

    Here are some reasons why property owners must seriously consider engaging professional roofing services in coastal NC:

    Storm Destruction Restoration

    Oceanfront properties often experience extreme conditions such as hurricanes, resulting in extensive harm to coverings. A licensed roofer can correctly determine and restore storm-related issues to prevent further issues.

    Salt Breeze Corrosion Protection

    Ocean breeze can cause rust of roof components, notably aluminum roofs. Regular inspections by a qualified individual can detect initial indicators of rust and employ preventative measures to enhance the durability of the roof.

    Moisture Management along with Leak Restoration

    Coastal regions experience high humidity, which might result in water accumulation under roofing materials, causing leaks and structural harm. A qualified company can address water-related concerns successfully and conduct required fixes to avert additional harm.

    Proper Ventilation Implementation

    Sufficient covering ventilation is essential for avoiding dampness accumulation and maintaining the integrity of the roofing materials. A licensed roofer can set up venting mechanisms that suit the distinct conditions of oceanfront properties.

    Material Understanding along with Advice

    Certified experts possess thorough understanding of the best materials for oceanfront climates. They can advise materials that can endure rust, dampness, and gust impacts, ensuring a longer lifespan for coverings.

    Being aware of these details is important since it can reduce costs eventually. Proactive maintenance and prompt fixes can avoid expensive harm and enhance the durability of the covering, maintaining the safety of the residence in a coastal area.

    Coastal areas are prone to severe weather including storms, which can cause extensive damage to roofing systems. A certified expert can correctly determine and fix violent tornado-related issues to avoid added problems.

    Salt Atmosphere Corrosion Avoidance

    Ocean breeze can cause corrosion of roofing materials, notably metal roofs. Regular inspections by a qualified individual can identify initial indicators of rust and apply precautionary measures to prolong the durability of the roof.

    Moisture Control plus Drip Fix

    Oceanfront properties have elevated dampness levels, which might cause water accumulation under roofing materials, leading to seepages to water damage. A competent company can handle liquid related concerns successfully to essential restorations to avert further damage.

    Proper Venting Setup

    Sufficient covering air flow is crucial for avoiding water absorption and ensuring the condition of the roofing materials. A professional roofer can set up air flow that match the distinct conditions of seaside residences.

    Substance Understanding along with Recommendations

    Professional roofers hold detailed awareness of the best materials for seaside types of conditions. They could suggest options which can withstand corrosion, dampness, and gust impacts, ensuring a lengthier lifespan for roofing systems.

    Learning about these factors is required since it will lessen costs in the long haul. Regular upkeep and prompt fixes can eliminate expensive harm and extend the sustainability of the covering, maintaining the security of the property in beachfront locations.

    [url=https://portcityexteriors.com/roofing-fayetteville-nc/]Community reliable roofing specialists in Burgaw NC[/url]

    [url=https://mileskubheka.com/why-i-am-moving-to-cape-town/#comment-12338]Importance of Certified Roofing Contractors in Coastal Zones[/url] 3812307

  9. таможенное оформление мск [url=https://tamozhennyj-broker13.ru/]tamozhennyj-broker13.ru[/url] .

  10. Вы можете купить медицинскую справку о болезни с бесплатной доставкой по Москве до любой станции метро на сайте https://biomed-slv.ru/

  11. nfvj [url=https://tamozhennyj-broker12.ru/]tamozhennyj-broker12.ru[/url] .

  12. Всегда есть что-то интересное из актуального порно онлайн:
    смотреть детское порно

  13. рулонные шторы электрические [url=www.rulonnye-shtory-s-elektroprivodom50.ru]www.rulonnye-shtory-s-elektroprivodom50.ru[/url] .

  14. таможенный брокер шереметьево [url=www.tamozhennyj-broker11.ru/]таможенный брокер шереметьево[/url] .

  15. ידה. היא עשתה לו ביד. כשהיא התחילה להכניס את ראש הזין לפה, חשבתי לרווחה. הגברים התחילו ללטף את ירכיה בסנכרון. ידו של חבר נשכבה במהירות נערות ליווי תמונות אמיתיות

  16. Мы изготавливаем дипломы любых профессий по приятным ценам. Мы можем предложить документы ВУЗов, расположенных на территории всей РФ. Документы выпускаются на бумаге самого высшего качества. Это позволяет делать настоящие дипломы, которые не отличить от оригиналов. [url=http://career.finixia.in/employer/archive-diploma/]career.finixia.in/employer/archive-diploma[/url]

  17. таможенный брокер в москве [url=https://tamozhennyj-broker13.ru/]таможенный брокер в москве[/url] .

  18. רגליה, ובמבט חמדן של זאב לא מרוצה, היא החלה לבחון את החברים הנפולים המעוגלות, כיסוי במוך בהיר ותקע בין שדיה. לאחר שעה של שיעורים, אנדריי autor

  19. рулонные шторы с электроприводом купить [url=https://www.rulonnye-shtory-s-elektroprivodom50.ru]https://www.rulonnye-shtory-s-elektroprivodom50.ru[/url] .

  20. הדקיקים שלי זחלה בין הרגליים שלי. הרגשתי שהיא מלטפת בעדינות את הכוס “ככה, כלבה, אתה צריך למצוץ, ככה,” הוא אומר בשקט, מזיז את ראשי קדימה שירות דירות סקס בבאר שבע

  21. рулонные жалюзи на пластиковые окна купить [url=rulonnye-shtory-s-elektroprivodom10.ru]рулонные жалюзи на пластиковые окна купить[/url] .

  22. Уроки компьютерной грамотности для новичков, начинающих, пенсионеров, бесплатные курсы. Помощь в практическом применении знаний. Материалы по компьютеру, Windows, Android, интернету, сервисам https://pensermen.ru/

  23. קרוע והכאב הזה בכוס. שני החורים שלה רצו רק דבר אחד עכשיו-זיון קשה. כשישבתי במושב המטוס, דמיינתי אותו לוקח אותי מיד כשהוא מגיע לדירות why not try here

  24. Всегда есть что-то интересное из актуального порно онлайн:
    15 летние девушки порно

  25. Новости Таджикистана, центральной Азии и мира https://novosti.tj/

  26. рулонные шторы на кухню с балконом [url=https://rulonnye-shtory-s-elektroprivodom10.ru/]rulonnye-shtory-s-elektroprivodom10.ru[/url] .

  27. как потратить бонусы в 1 win [url=http://1win10010.ru]http://1win10010.ru[/url] .

  28. Мы можем предложить дипломы любой профессии по приятным тарифам. Мы предлагаем документы техникумов, расположенных на территории всей РФ. Дипломы и аттестаты выпускаются на “правильной” бумаге самого высшего качества. Это дает возможность делать настоящие дипломы, не отличимые от оригиналов. [url=http://kharkov-balka.com/member.phpu=5538/]kharkov-balka.com/member.phpu=5538[/url]

  29. 1xBet promo code https://kragdag.co.za/kd/pgss/?pochemu_parni_takie_obidchivye.html is an opportunity to get a bonus of up to 100% on your first deposit. Register, enter the code and start betting with additional funds. Fast, simple and profitable.

  30. 1xBet promo code http://oldweirdherald.com/article/2drapirovka_na_platye_i_ne_tolyko_trend_osenne_zimnego_sezona.html is your chance to start with a bonus! Enter the code when registering and get additional funds for bets and games. Suitable for sports events, live bets and casino. The bonus is activated automatically after replenishing the account.

  31. 1xBet promo code https://amycaformacion.com/wp-content/art/?kak_pravilyno_vybraty_basseyn_dlya_rebenka_luchshie_basseyny_dlya_detey_i_rekomendacii_po.html is an opportunity to get a bonus of up to 100% on your first deposit. Register, enter the code and start betting with additional funds. Fast, simple and profitable.

  32. 1xBet promo code https://highstreetartscenter.com/wp-content/pgs/neobychnyy_klimat_derevyannyh_domov_iz_breven.html is your chance to start with a bonus! Enter the code when registering and get additional funds for bets and games. Suitable for sports events, live bets and casino. The bonus is activated automatically after replenishing the account.

  33. 1xBet promo code https://www.atrium-patrimoine.com/wp-content/artcls/?kak_sdelaty_interesnuyu_prezentaciyu.html is an opportunity to get a bonus of up to 100% on your first deposit. Register, enter the code and start betting with additional funds. Fast, simple and profitable.

  34. Заказать диплом об образовании!
    Мы изготавливаем дипломы любых профессий по приятным тарифам— [url=http://11ege.ru/]11ege.ru[/url]

  35. 1xBet promo code https://merieux-partners.com/wp-content/pgs/prohoghdenie_mass_effect_andromeda_dghaal_ama_darav_ploty_i_krovy_i_pobeg_ot_semyi.html is your chance to start with a bonus! Enter the code when registering and get additional funds for bets and games. Suitable for sports events, live bets and casino. The bonus is activated automatically after replenishing the account.

  36. Casino 7k — это онлайн-платформа, где игроки могут наслаждаться азартом в любых условиях, не покидая дома https://xn—-8sbalwlcefxak4bw.xn--p1ai/

  37. [url=https://wmax.com.ua/]wmax.com.ua[/url] – Сучасний онлайн-журнал.

  38. Wanted to share a cool site I found

    Recently I checked out a site https://ukraine.tripland.info.

    It’s all about Ukraine — from food to literature, folk traditions to nature trips. They cover architecture, athletes, rituals, festivals, and even legends.

    Topics that stood out:
    – The Klitschko brothers, Bublka, and world champions

    Also found [url=https://ukraine.tripland.info]an inspiring Ukrainian travel and culture guide[/url] — definitely worth exploring!

    Love national culture content?

اترك رداً على Thomasdum إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.