سورة الجن … نصرة النبي!

بعد أن عرضنا لمسألة الوحدة الموضوعية لسور القرآن, وقلنا أن القرآن سورة واحدة كبيرة, وقدمنا نموذجا كبيرا على ذلك وهو جزء عم, كان لزاما أن نواصل المسيرة, لذا فقد عزمنا على أن نقدم نموذجا آخر لذلك وهو جزء تبارك!

وكنا قد تناولنا سابقا سورتي المرسلات والقيامة, وأظهرنا الوحدة الموضوعية لهما! إلا أن الذي كان يمنعنا البدء في تناول باقي سور الجزء التسعة هو سورة الجن!
فلم تكن الوحدة الموضوعية لهذه السورة قد ظهرت لي بعد ولا حتى الخطوط العريضة لها! فكنت أرى السورة كما يراها الآخرون تحكي موقفين منفصلين تمام الانفصال, فما الرابط بينهما!

كما كنت أتساءل: ما الآية البينة في هذه السورة التي تجعل المستمع يقول أنها ليست مثل كلام البشر!
وفي أثناء قراءتي لها ذات مرة وتفكري فيها, ظهر لي الرابط الذي يربط الموضوعين, والذي يبين اختلافها عن كل كلام البشر!
ونبدأ في تناول السورة, لنبين كيف أن القراءة التقليدية لها قراءة غير دقيقة, أدت إلى فصل محوري السورة عن بعضهما وإلى صبغها بصبغة خيالية, وإلى تغييب الرسالة التي خاطب الله بها البشر في هذه السورة!
أول ما نبدأ به هو تقديم القراءة التقليدية للسورة, والتي قسمتها إلى قسمين:

قسم يحكي عن كائنات غير بشرية استمعت إلى القرآن فآمنت وكفرت بما كانت عليه وأخذت تُعرف البشر بنفسها!
وفي القسم الآخر يُنهى النبي الكريم عن الشرك وعن التواني في تبليغ الرسالة! ويؤمر بالتعريف بأنه لا يعلم الغيب وأن الغيب لله يظهره كيف يشاء.

وعامة المسلمين –وعلمائهم!- يتقبلون هذه القراءة وهذا التفسير!! ولا يرون فيه أي إشكال, على الرغم من أنه لا يقدم أي إجابات للتساؤلات الكثيرة التي تحيط بالسورة, لذا فإننا سندعو القارئ إلى أن يتفكر ويتدبر معنا هذه السورة, ليبصر بعينه أنها لا تقول بما يقولون!

أول ما يلحظه الناظر في هذه السورة أنها تنقسم فعلا إلى جزئين اثنين, ينتهي الأول عند الآية الخامسة عشر والثاني عند آخر السورة, إلا أن هذا لا يعني أنهما منفصلان, فهما متصلان تمام التواصل كما سنبين للقارئ الكريم!

ثاني ما يلحظه المتدبر هو أن السورة كثر فيها “ثنائيات” ولكن هذه الثنائيات لم تقم على الشيء ونقيضه أو ضده وإنما على الشيء وما يحتويه!

وفي هذا يقول الدكتور فاضل السامرائي:
“الناظر في السورة كلها يجد أن الله تعالى لم يذكر فيها الشيء ونقيضه أبداً وإنما جاء بالشيء وما يتضمّنه, كما في قوله تعالى: “وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)”
والرشد ليس مقابل الشر وإنما الخير مقابله والرُشد جزء من الخير ،

وكذلك قوله تعالى: “وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)”
قال: “دون ذلك” مقابل “الصالحين” ولم يقل الطالحون, ف (دون ذلك) يمتد في ما هو أقل صلاحاً إلى الفاسد.

وكذلك في الآية موضع السؤال “القاسطون” ليست مقابل “المسلمون” وإنما مقابلها “الكافرون”, وكل قاسط كافر وليس كل كافر قاسط, فذكر ما يتضمن لأن “القاسطون” جزء من الكافرين
.
وكذلك في قوله تعالى: “وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) ولم يقل: “وأما القاسطون فلم يتحروا رشدا” وإنما قال تعالى: (فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) وكذلك في استعمال القاسطون مقابل: من أسلم, في الآية السابقة.

فهذا إذن سمْت السورة كما في قوله تعالى: “قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)” والنفع مقابل الضُرّ وليس الرشد, وكذلك قوله تعالى: “قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25)” لم يقل “بعيد” وإنما قال: أمدا, والأمد هو الأجل. فكل السورة ليس فيها شيء ومقابله وإنما يأتي بالشيء وما يتضمنه” اهـ

وبعد أن قدمنا هاتين الملحوظتين للقارئ نقدم له تصورنا للسورة الذي يظهر وحدتها الموضوعية, قبل أن نبدأ في التناول التفصيلي!

الوحدة الموضوعية للسورة
تدور السورة في فلك أن الغيب بيد الله, وأن هو الذي سيحقق وعده للنبي بالنصرة وبنزول العذاب بالمشركين, فإن لم يؤمن به مشركو مكة, فإن الله ناصره بغيرهم, فقد آمن به كبارٌ من غيرهم عندما اكتشفوا ضلالهم بعد سماعهم القرآن, لذلك فعلى النبي ألا يضعف ويخضع لطلبات المشركين بالكف عن الدعوة أو الإشراكُ بالله, وعليه الاستمرار في البلاغ! وأن لا يتضايق من سؤالهم عن ميعاد نزول العذاب بهم, فالله وحده هو علام الغيوب, وهو من يقدم له الإشارات التي تعلمه بقرب تحقق الوعد, ليعلم النبي أنه وإخوانه قد أبلغوا رسالات ربهم وأنه أحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا!

والبديع في هذه السورة أنها في أثناء حديثها عن تفرد الله بالغيب, كشفت وسائل الكهان ورجال الدين, وبينت أنهم لا يعلمون الغيب, وإنما لهم وسائلهم من التسمع والنظر في الكون حولهم, والتي تساعدهم على اكتشاف ما قد يخفى عن الناس, وليس هذا علما بالغيب وإنما رجما بالغيب!

الصورة العامة للسورة
جاء نفر من الكهنة أو رجال الدين المسيحي متخفيين إلى النبي الكريم ليستمعوا القرآن فلما سمعوا قالوا – مخاطبين غيرهم- أنهم سمعوا قرآنا عجبا, وأنهم لما سمعوا القرآن اكتشفوا ما هم عليه من الشرك, فآمنوا بالله وأعلنوا أنهم لن يشركوا بالله, وآمنوا أن الله منزه عن الصاحبة والولد,
وأن سفيههم –كبيرهم- كان يقول على الله شططا, وأنهم ظنوا أن الأتباع والقادة (الدينيون والساسة) لن يتقولوا على الله, وأن الأتباع الذين كانوا يعوذون بالقادة لم ينفعوهم وإنما زادوهم رهقا, وأنهم ظنوا كما ظننتم أنه لا بعث بعد الموت ولا رسول بعد عيسى!

وأنا استقصينا وفحصنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا (وفي هذا دليل على حدوث شيء عظيم) وأنا كنا نقعد مقاعد لنستمع أخبارها فمن يستمع الآن يجد له شهابا دالا ومشيرا! وأنا لا ندري أأراد الله شرا بمن في الأرض بهذه الشهب (إن لم يؤمنوا بنبيه) أم أراد أنها مجرد علامة إرشاد (إلى وجود نبي وكتاب جديد!)

وآمنا أننا لسنا فريقا واحدا, فمنا الصالحون ومنا دون ذلك, فنحن مختلفون تمام الاختلاف فلا نلتقي أبدا, وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض, ولن نعجزه بهروبنا إلى أي مكان آخر! وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به ومن يؤمن بربه لا يخاف بخسا ولا رهقا, وأن من أسلم منّا فأولئك هم الذين تحروا وبحثوا وطلبوا الرشد! وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا!

وهنا ينتهي حديث هؤلاء النفر ويُخاطَب النبي بأن هؤلاء لو استقاموا لسقوا ماء غدقا, ليفتنوا فيه, ومن يعرض عن ذكر ربه ينزل به عذابا صعدا! ثم يُنهى النبي عن دعاء أحد مع الله في المساجد مهما تكالب عليه الكافرون وطلبوا إليه ذلك, وأنه لمّا قام عيسى يدعوه اجتمعوا ضده أشد التجمع!

ويؤمر النبي بأن يعلن أنه لن يترك الدعوة إلى الله ولن يشرك به, وأنه لا يملك ضرا لهم وكذلك لا يملك رشدا, وأنه لن يجد أحدا أو شيئا يحميه وينصره إلا أن يأتيه بلاغ من الله يأمره بذلك, ومن يعص الله ورسوله فله نار جهنم خالدا فيها أبدا, وإذا رأى المشركون العذاب نازل بهم فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا!
ثم يؤمر مجددا بأن يعلن أنه لا يدري أقريب هذا أم يجعل الله له أمدا, فهو وحده عالم الغيب ولا يظهر على غيبه إلا من ارتضى من رسول فإنه يجعل له رصدا, ليعلم الرسول أنه قد أبلغ رسالات ربه وأنه أحاط بما لديه وأحصى كل شيء عددا!

وحتى لا يتعجل القارئ فيرفض هذا التصور الذي قدمنا له, استنادا إلى أن “الجن” كائن غير الإنسان وغير الملائكة, وإلى أن السورة تقول بهذا, فإنا ندعوه ليصحبنا في تدبرنا لهذه السورة, بدءً من الآية الثانية, لأن تناول الآية الأولى سيكون جد طويل,

لأن هذا الأمر من الأمور المترسخة عند عامة المسلمين, وتحتاج إلى تفنيد تفصيلي, لذا فإننا سنتناول السورة من الآية الثانية إلى آخرها, وبعد هذا التناول سيكون قد ظهر جلياً للقارئ الكريم كيف أن المفسرين كانوا يفسرون! نصا موازيا لآيات سورة الجن في المواطن المتعلقة بالجن, وليس السورة نفسها[1]!

وبعد أن يرى تناولنا لها والمطابق للنص القرآني سيكون أهم حصن دفاعي لتصور الجن الخرافي قد انهار, فنقوم بتناول مفردة الجن في بحث طويل, من أجل نسف الخرافة, فيظهر للقارئ الكريم أن ما نقول به هو عين الصواب.
ونبدأ بسم الله وعليه الاتكال:

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْنُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (٢) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (٣)

تبدأ السورة بأمر النبي بالقول أنه أوحي إليه أنه استمع نفر من الجن (نقول نحن أنهم كهنة نصارى, ويقول غيرنا أنهم كائنات غير بشرية!) فلما سمعوا قالوا لغيرهم –ويظهر أن هذا كان خطابا لغيرهم من باقي آيات السورة- أنهم سمعوا قرآنا عجبا.
وأن هذا القرآن يهدي إلى الرشد فآمنوا به, ولن يشركوا بربهم أحدا, وأنه تعالى قدر[2] الله, فلم يتخذ صاحبة ولا ولدا!
فإذا نظرنا فيما قاله الإمام الفخر الرازي في تناوله لهذه الآية وجدناه يقول:
“المسألة الثانية: { نَفَرٌ مّنَ الجن }
جماعة منهم ما بين الثلاثة إلى العشرة روي أن ذلك النفر كانوا يهوداً، وذكر الحسن أن فيهم يهوداً ونصارى ومجوساً ومشركين, …. وكأن هؤلاء الجن لما سمعوا القرآن تنبهوا لفساد ما عليه كفرة الجن فرجعوا أولاً عن الشرك وثانياً عن دين النصارى.” اهـ

أول ما يلحظه الناظر في هذه الآية يجد أن هؤلاء الجن يدينون بواحد من الأديان التي عليها أهل الأرض وهو النصرانية[3]!
ولقد قال الإمام الرازي أنهم كانوا خليطا من الأديان لأنهم قالوا لن نشرك بربنا أحدا وأنه ما اتخذا صاحبة ولا ولدا, ففهم أنه كان فيهم مشركون ونصارى! بينما نرى نحن أنهم كانوا مسيحيين, فالمسيحي يشرك بالله عيسى, ويؤمن أنه اتخذ صاحبة وولدا, فلما سمع هؤلاء القرآن أعلنوا أن الشرك باطل لذا فلن يشركوا بالله ونزهوه عن الصاحبة والولد!

والسؤال الذي لم يعتن به المفسرون:
ما هي السورة التي استمع إليها الجن فآمنوا وعرفوا أن هذا كتاب سماوي وليس كلاما أرضيا, وظهر لهم قدر الله ونزهوه عن الصاحبة والولد؟

العجيب أننا لم نجد من يجيب هذا السؤال! ومن أجابه قال أن السورة التي استمعوا إليها كانت سورة العلق! ولست أدري ما علاقة سورة العلق بإبطال الشرك والنصرانية؟!

إن السورة التي استمع إليها هؤلاء النفر يفترض أن يكون فيها كلمة: قرآن! وأن تكون تتحدث عن الشرك والنصرانية وتتحدث عن الله العظيم, فما هي هذه السورة؟

بعد نظري في كتاب الله رجحت أن تكون هذه السورة هي سورة الأنعام, ويحتمل أن تكون كذلك سورة الكهف! وإن كنت أميل إلى كونها الأنعام!

وقولنا باحتمالية أن تكون السورة هي سورة الكهف استنادا إلى التشابه الكبير بين كلمات السورتين, بالإضافة إلى الكلمات التي لم تُذكر إلا في السورتين! وسنعرض لهذا التشابه عند تناولنا لآية: يجد له شهابا رصدا.

وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (٥)

قال الإمام الألوسي في تناوله للآية الأولى:
“{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} هو إبليس عند الجمهور, وقيل مردة الجن والإضافة للجنس والمراد سفهاؤنا {عَلَى الله شَطَطاً} أي قولاً ذا شطط أي بعد عن القصد ومجاوزة الحد أو هو في نفسه شطط لفرط بعده عن الحسن وهو نسبة الصاحبة والولد إليه عز وجل” اهـ

وأول ما نقوله أنه لا يوجد مبرر لحمل المفرد على الجنس, فلقد قال الله تعالى: “سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ …. [البقرة : 142]”

فيكون الحديث هنا عن سفيه واحد وليس جنس السفهاء! وهنا نتساءل: هل يمكن أن يكون هذا السفيه هو إبليس؟!
إذا نحن نظرنا في التوعد الذي توعده إبليس عند طرده, وجدنا أنه قد توعد بإضلال البشر, وأنه سيقعد لهم صراط الله المستقيم, لأنه طُرد بسببهم, فهل سيقعد إبليس للجن كذلك؟

وإذا قلنا أنه سيقعد لهم صراط الله المستقيم, فمن المفترض تبعا لقولهم أنه كان واحدا منهم, فهل كان يوسوس لهم, أم أنه كان يأتيهم فيحدثهم عن تجسد الله وحلوله في بطن السيدة مريم!

وحقيقة لست أدري كيف أقنع إبليس الجن بعقيدة الفداء والصلب المزعومة, والتي لا شأن للجن بها؟! فهل قال لهم أن الله –تعالى جده وتنزه- تجسد (تجنن أو تعفرت) وافتدى بدخانه خطايا الجن التي ورثوها عن إبليس؟! إن المسيحية ديانة لا تخاطب إلا البشر! فلماذا يؤمن بها الجن؟!

أما على قولنا فإن هؤلاء الكهان لما سمعوا القرآن آمنوا بأن الذي يقوله -كبيرهم أو معلمهم أو أحدهم, فنعتوه بأنه سفيه- شطط لا يُقبل مع الله!

وفي الآية الثانية يقول الإمام الفخر الرازي في تفسيره:
” أنا إنما أخذنا قول الغير لأنا ظننا أنه لا يقال: الكذب على الله، فلما سمعنا القرآن علمنا أنهم قد يكذبون، وهذا منهم إقرار بأنهم إنما وقعوا في تلك الجهالات بسبب التقليد، وأنهم إنما تخلصوا عن تلك الظلمات ببركة الاستدلال والاحتجاج.” اهـ

فكما رأينا فإن صدور هؤلاء لم تكن على يقين تام مما هم عليه, ولكنهم ظنوا أن الناس العاديين وكذلك الكهان والقادة لن يتقولوا على الله, فخدعوا أنفسهم بحجة الأكثرية على صواب, فاتبعوهم فيما يقولون, وهذا الإتباع كان من باب التقليد!

وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (٦)

ومن الأشياء التي نبههم القرآن إليها هو استعاذة العوام بهم, وكيف أن هذا كان يزيدهم رهقا! وفي كيفية هذه الاستعاذة يقول الإمام الفخر الرازي في تفسيره:

“فيه قولان: الأول: وهو قول جمهور المفسرين أن الرجل في الجاهلية إذا سافر فأمسى في قفر من الأرض قال: أعوذ بسيد هذا الوادي أو بعزيز هذا المكان من شر سفهاء قومه، فيبيت في جوار منهم حتى يصبح.

وقال آخرون: كان أهل الجاهلية إذا قحطوا بعثوا رائدهم، فإذا وجد مكاناً فيه كلأ وماء رجع إلى أهله فيناديهم، فإذا انتهوا إلى تلك الأرض نادوا نعوذ برب هذا الوادي من أن يصيبنا آفة يعنون الجن، فإن لم يفزعهم أحد نزلوا، وربما تفزعهم الجن فيهربون.

القول الثاني: المراد أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس أيضاً، لكن من شر الجن، مثل أن يقول الرجل: أعوذ برسول الله من شر جن هذا الوادي ، وأصحاب هذا التأويل إنما ذهبوا إليه، لأن الرجل اسم الإنس لا اسم الجن، وهذا ضعيف، 
فإنه لم يقم دليل على أن الذكر من الجن لا يسمى رجلاً، أما قوله: {فَزَادوهُمْ رَهَقاً}
قال المفسرون: معناه زادوهم إثماً وجرأة وطغياناً وخطيئة وغياً وشراً، كل هذا من ألفاظهم، قال الواحدي: الرهق غشيان الشيء،
ومنه قوله تعالى: {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ } [ يونس : 26 ] وقوله: {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [ عبس : 41 ] ورجل مرهق أي يغشاه السائلون.
ويقال رهقتنا الشمس إذا قربت، والمعنى أن رجال الإنس إنما استعاذوا بالجن خوفاً من أن يغشاهم الجن، ثم إنهم زادوا في ذلك الغشيان، فإنهم لما تعوذوا بهم، ولم يتعوذوا بالله استذلوهم واجترءوا عليهم فزادوهم ظلماً، وهذا معنى قول عطاء خبطوهم وخنقوهم، وعلى هذا القول زادوا من فعل الجن.

وفي الآية قول آخر وهو أن زادوا من فعل الإنس وذلك لأن الإنس لما استعاذوا بالجن فالجن يزدادون بسبب ذلك التعوذ طغياناً فيقولون: سدنا الجن والإنس، والقول الأول هو اللائق بمساق الآية والموافق لنظمها.” اهـ

[1] وليتذكر القارئ أن السورة كلها تدور في فلك الشيء وما يحتويه وليس نقيضه, فإذا قلنا أن الجن المذكورين هم جنس أو صنف من البشر, لم نخالف النسق العام الذي عليه السورة!

[2] يقول ابن فارس في المقاييس: ” الجيم والدال أصولٌ ثلاثة : الأوَّل العظمة ، والثاني : الحَظ ، والثالث : القَطْع .
فالأوّل : العظمة :
قال الله جلّ ثناؤُه إخباراً عمّن قال: ( وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) الجن/3 . ويقال: “جَدَّ الرجُل في عَينِي” أي: عَظُم، قال أنسُ بنُ مالكٍ: (كان الرجلُ إذا قرأ سورةَ البقرة وآلِ عِمرانَ جَدَّ فينا) أي: عَظُم في صُدورِنا. والثاني: الغِنَى والحظُّ: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه: (لا يَنْفَع ذا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ) يريد: لا ينفَعُ ذا الغنى منك غِناه، إنّما ينفعه العملُ بطاعتك. والثالث : يقال : جَدَدت الشيءَ جَدّاً ، وهو مجدودٌ وجَديد ، أي : مقطوع ” انتهى .

ولقد وردت كذلك في دعاء استفتاح الصلاة عن ابن عمر: ( سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، تَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ)فيظهر أن ليس المراد من الجد أبا الأب وإنما العظمة والمكانة والقدر! فإذا كانوا هؤلاء قد نزهوه عن الصاحبة والولد فهل يجعلونه مولودا؟!

[3] لنا أن نتساءل: كيف اقتنع الجن بالنصرانية المحرفة؟ ألم يكونوا قد رأوا السيد المسيح يدعو إلى الله, ورأوا بولس يغير ويحرف؟ ورأوا الإمبراطور قسطنطين يطعم ديانته الوثنية بالنصرانية؟ فلماذا وكيف آمنوا بها؟! ثم لماذا يؤمنون بالنصرانية أصلا,

إذا كان المسيح-تبعا للمسيحية المحرفة- قد افتدى بدمائه خطايا البشر وليس الجن, وحرر البشر من خطيئة آدم الأصلية والتي يولدون محملين بها, وليس الجن؟! فما الذي يقنع الجن أن يؤمنوا بهذا الأمر الذي لا علاقة لهم به!

أول ما نبدأ به حديثنا هو التنبيه إلى أن الرهق لم يأت في القرآن عن حال في الدنيا إلا في الكهف والجن! وباقي الآيات عن الرهق في الآخرة.

ثم نثني بالسؤال: إذا كان الإمام الفخر الرازي قال: “لم يقم دليل على أن الذكر من الجن لا يُسمى رجلا”, فنحن نقول: وما الدليل على أن الجن يتكون من ذكور وإناث؟! لم يقم دليل كذلك على هذا الأمر؟ إن وطء الأنثى للذكر ليس هو الشكل الوحيد للتكاثر في الطبيعة, فهناك كائنات تنقسم! فلماذا يكون الجن كذلك!

وعلى افتراض أن الجن يتكون من ذكور وإناث, -مع أن هذا من لوازم الكائنات الأرضية اللحمية- فلماذا يُسمى ذكرهم البالغ رجلا؟
ما سُمي الرجل رجلا إلا لرجله, لأنه يسعى على رجله –والتي هي أقوى أعضائه- طلبا للرزق أو لمبتغاه, فهل الجن كذلك يمشون على أرجلهم, ويسعون طلبا للرزق عليها؟!

بغض النظر عن هذا كله فإن الآية لم تقل من ماذا كان رجال الإنس يتعوذون برجال الجن, -على خلاف كل آيات القرآن والتي ذُكر فيها المتعوذ منه- إلا أن الآية قالت أنه بسبب هذا التعوذ ازداد رجال الجن رهقا!

وهذا يعني أن رجال الجن أصلا كانوا مرهقين وزادهم هذا التعوذ رهقا! ولنا أن نتساءل: لماذا كان رجال الجن مرهقين أصلا, ثم زادهم هذا التعوذ رهقا؟

أما على قولنا أن الجن هم الأكابر (سواء كانوا كبار رجال الدين أو رجال المجتمع أو أكابر مجرميها!) فإن هؤلاء أصلا يحملون على أكتافهم أوزار ومسئولية أتباعهم الذين يضلونهم ويسوقونهم كالأنعام, فإذا نزلت بهم النازلة هُرع هؤلاء إليهم ليعوذوا بهم منها, بدلا من أن يعوذوا بالله, فيزداد هؤلاء رهقا على رهق!

وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا(٧)


وأن الإنس ظنوا كما ظننتم أيها الكبار أن الله لن يبعث أحدا! وفي هذه الآية يقول الإمام الفخر الرازي:
“اعلم أن هذه الآية والتي قبلها يحتمل أن يكونا من كلام الجن، ويحتمل أن يكونا من جملة الوحي, فإن كانا من كلام الجن وهو الذي قاله بعضهم مع بعض، كان التقدير: وأن الإنس ظنوا كما ظننتم أيها الجن.

وإن كانا من الوحي كان التقدير: وأن الجن ظنوا كما ظننتم يا كفار قريش, وعلى التقديرين فالآية دلت على أن الجن كما أنهم كان فيهم مشرك ويهودي ونصراني ففيهم من ينكر البعث، ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يبعث أحداً للرسالة على ما هو مذهب البراهمة.

واعلم أن حمله على كلام الجن أولى لأن ما قبله وما بعده كلام الجن, فإلقاء كلام أجنبي عن كلام الجن في البين غير لائق.” اهـ

والذي نراه من خلال السياق العام للسورة أنهم ظنوا أن الله لن يبعث أحدا من بعد عيسى! فلقد كان هؤلاء من النصارى وهم يقولون أنه لن يأتي بعد عيسى نبي, وإنما أنبياء كاذبة, لأن عيسى قد أنهى خط الرسالات!

وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا(٩)

والآن نصل إلى الآيتين المحوريتين في السورة, واللتان هما عمدة أدلة القائلين بأن الجن خلق غير الإنسان, فالجن يلمس السماء ويقعد منها مقاعد للسمع, والحال تغير بعد الرسول فمن يقعد يُحرق بشهاب!

والحق يقال أن النظرة السريعة تقول بنفس ما يقولون به, ولكن هل هذا هو المنهج الذي نتعامل به مع القرآن؟ أم أنه يجب علينا أن نتدبره؟!
لذا فإننا سنتوقف مع كلمات هاتين الآيتين لنبصر هل ما يقولون به هو ما تقوله الآيات؟!

وحتى يظهر للقارئ الكريم المواطن التي خالف المفسرون فيها النص القرآني, فإني سنعرض ما ذكره الإمام الفخر الرازي عند تناوله لهاتين الآيتين, ونتبعه بنقد لما يقول, حتى يظهر من يلوي النصوص ويخالفها, ثم نقدم بعد ذلك فهمنا لها:

“”اللمس: المس (ليس اللمس مسا –عمرو-) فاستعير للطلب لأن الماس طالب متعرف يقال: لمسه والتمسه، ومثله الجس يقال: جسوه بأعينهم وتجسسوه، والمعنى طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها, والحرس اسم مفرد في معنى الحراس كالخدم في معنى الخدام ولذلك وصف بشديد ولو ذهب إلى معناه لقيل شداداً.(وليس الأمر كذلك فليس حرس بمعنى الحراس!)

أي كنا نستمع فالآن متى حاولنا الاستماع رمينا بالشهب،
(لم يقل الله تعالى: حاولنا وإنما قال: يستمع, وهذا يعني أنهم لا يزالون يستمعون! فلم ينقطع الأمر!)
وفي قوله: {شِهَاباً رَّصَداً} وجوه, أحدها: قال مقاتل : يعني رمياً من الشهب ورصداً من الملائكة، وعلى هذا يجب أن يكون التقدير شهاباً ورصداً لأن الرصد غير الشهاب وهو جمع راصد.
(وقول مقاتل مخالف لكتاب الله فلا يعتد به!)
وثانيها: قال الفراء: أي شهاباً قد أرصد له ليرجم به، وعلى هذا الرصد نعت للشهاب، وهو فعل بمعنى مفعول.
وثالثها : يجوز أن يكون رصداً أي راصداً، وذلك لأن الشهاب لما كان معداً له، فكأن الشهاب راصد له ومترصد له ……

(وليس رصدا بمعنى راصد وإنما هي:رصد, ولاحظ أن الله تعالى قال في آخر السورة: يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا. ليعلم …, فالرصد سبب ووسيلة للعلم, أمّا المفسرون فيجعلونه سببا للهلاك!!)

فإن قيل : هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث ، ويدل عليه أمور:
أحدها: أن جميع الفلاسفة المتقدمين تكلموا في أسباب انقضاض هذه الشهب، وذلك يدل على أنها كانت موجودة قبل المبعث.
وثانيها: قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين} ذكر في خلق الكواكب فائدتين، التزيين ورجم الشياطين.

وثالثها: أن وصف هذا الانقضاض جاء في شعر أهل الجاهلية، قال أوس بن حجر:
فانقض كالدريّ يتبعه … نقع يثور تخاله طنبا

وقال عوف بن الخرع:
يرد علينا العير من دون إلفه … أو الثور كالدرى يتبعه الدم
وروى الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي الله عنهما:
«بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار فقال: ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية؟ فقالوا كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم» الحديث إلى آخره ذكرناه في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح} قالوا: فثبت بهذه الوجوه أن هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث، فما معنى تخصيصها بمحمد عليه الصلاة والسلام؟

والجواب : مبني على مقامين :
المقام الأول: أن هذه الشهب ما كانت موجودة قبل المبعث, وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما، وأبي بن كعب، روي عن ابن عباس قال: كان الجن يصعدون إلى السماء فيستمعون الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعاً، أما الكلمة فإنها تكون حقة، وأما الزيادات فتكون باطلة,

فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم مُنعوا مقاعدهم، ولم تكن النجوم يرى بها قبل ذلك، فقال لهم إبليس: ما هذا إلا لأمر حدث في الأرض، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يصلي، الحديث إلى آخره.

(ولست أدري من أين لابن عباس معرفة ما قاله إبليس لأتباعه! هذا إذا كانت هذه الرواية صحيحة أصلا, وهي ليست كذلك!)

وقال أبي بن كعب: لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتى بعث رسول الله فرمي بها، فرأت قريش أمراً ما رأوه قبل ذلك, فجعلوا يسيبون أنعامهم ويعتقون رقابهم، يظنون أنه الفناء، فبلغ ذلك بعض أكابرهم، فقال: لم فعلتم ما أرى؟ قالوا : رمي بالنجوم فرأيناها تتهافت من السماء، فقال : اصبروا فإن تكن نجوماً معروفة فهو وقت فناء الناس، وإن كانت نجوماً لا تعرف فهو أمر قد حدث فنظروا، فإذا هي لا تعرف،
فأخبروه فقال: في الأمر مهلة، وهذا عند ظهور نبي فما مكثوا إلا يسيراً حتى قدم أبو سفيان على أمواله وأخبر أولئك الأقوام بأنه ظهر محمد بن عبد الله ويدعي أنه نبي مرسل.

وهؤلاء زعموا أن كتب الأوائل قد توالت عليها التحريفات فلعل المتأخرين ألحقوا هذه المسألة بها طعناً منهم في هذه المعجزة، وكذا الأشعار المنسوبة إلى أهل الجاهلية لعلها مختلفة عليهم ومنحولة.

المقام الثاني: وهو الأقرب إلى الصواب أن هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث إلا أنها زيدت بعد المبعث وجعلت أكمل وأقوى، وهذا هو الذي يدل عليه لفظ القرآن لأنه قال: {فوجدناها مُلِئَتْ} [ الجن: 8 ]

وهذا يدل على أن الحادث هو الملء والكثرة وكذلك قوله: {نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد} أي كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب والآن ملئت المقاعد كلها، فعلى هذا الذي حمل الجن على الضرب في البلاد وطلب السبب، إنما هو كثرة الرجم ومنع الاستراق بالكلية.” اهـ

أول ما نبدأ به هو كلمة: “اللمس“, وكما رأينا فلقد جعل الإمام الفخر الرازي الكلمة بمعنى كلمة أخرى, وليس الأمر كذلك فليس اللمس مسا, ولقد فرق القرآن بينهما, فلقد ورد المس في إحدى وستين آية, بينما لم يرد اللمس إلا في خمس آيات! وشتان ما بين الرقمين[1]! وكذلك لم يرد اللمس إلا في قليل من الأحاديث النبوية, فهل نجعلهما في نهاية المطاف متساويين؟

إن اللمس بمعنى “المعالجة والطلب”[2] فإذا نظرنا في تاج العروس ألفينا الزبيدي يقول: “والمُلامَسَةُ: المُمَاسَّةُ باليَدِ كاللَّمْسِ وقال ابنُ الأَعْرَابِيّ: ويُفَرَّقُ بينَهُما فيُقَال: اللَّمْسُ قد يكونُ مَسَّ الشَّيْءِ بالشَّيْءِ ويكون مَعْرِفَةَ الشَّيْءِ وإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَسٌّ لجَوْهَرٍ عَلَى جَوْهَرٍ” اهـ

ومما جاء في معناه في اللسان ” ……... وفي الحديث من سَلَكَ طريقاً يَلْتَمِسُ فيه عِلماً أَي يَطلبُه فاستعار له اللَّمْس وحديث عائشة فالْتَمَسْتُ عِقْدِي والْتَمَسَ الشيءَ وتَلَمَّسَه طَلَبَه الليث اللَّمْس باليد أَن تطلب شيئاً ههنا وههنا ومنه قول لبيد يَلْمِسُ الأَحْلاسَ في مَنزِلهِ بِيَدَيْهِ كاليَهُوديِّ المُصَلْ ” اهـ

وكما جاء في القاموس المحيط:
“لَمَسْنا السماءَ” عالَجْنا غَيْبَها، فَرُمْنا اسْتِراقَهُ.” اهـ
فلو كان المعنى المراد هو المألوف عند الناس “للمس” لقال الله تعالى: “مسسنا السماء” وليس “لمسنا السماء” [3]

ولو كان المعنى كما يقولون لكان التصور ساذجا, حيث أنه يصور السماء جسما والجن يتسابق ليمس هذا الجسم, وعند مسه وجدوا الحرس والشهب! ولنا أن نتساءل: لماذا يلمسون –بالمعنى الخاطئ للكلمة- السماء؟ ألم يكن من الأفضل ألا يلمسوها ويظلوا يستمعون في أمان؟!! أم أنهم لا يستطيعون السمع إلا إذا التصقوا بالسماء؟

وإذا قال القائل: ليس المراد اللمس, وإنما الاقتراب حتى كأنهم لمسوها!
نقول: ليس هذا معنى اللمس, وإنما هو بمعنى الطلب والمعالجة, ولهذا جاء في الحديث النبوي: “التمس ولو خاتما من حديد”, “من سلك طريقا يلتمس فيه علما …”

فيظهر لنا أن اللمس ليس بمعنى المس وإنما بمعنى الطلب والبحث عن الشيء!
إذا فليس اللمس بالمعنى الدارج وإنما بمعنى آخر, فإذا تركنا “لمسنا” وانتقلنا إلى “حرسا” وجدنا أن الإمام الفخر الرازي –وعامة المفسرين- قد جعلها بمعنى الحراس, ولكنا نجد أن الله تعالى ينعتها بقوله: “شديدا” وهذا يعني أن هذا الحرس مفرد!
والكلمة لم ترد في القرآن كله إلا في هذا الموضع, ولم ترد في السنة إلا في مواطن جد قليلة!

والمعنى المشهور لها, من المعاني المتأخرة الظهور, فإذا نظرنا في لسان العرب, ألفينا ابن منظور يقول:
“والحَرَسُ حَرَسُ السلطان، وهم الحُرَّاسُ، الواحد حَرَسِيٌّ، لأَنه قد صار اسم جنس فنسب إِليه، ولا تقل حارِسٌ إِلا أَن تذهب به إِلى معنى الحِراسَة دون الجنس. (…..) وحَرَسَ الإِبل والغنم يَحْرُِسها واحْتَرَسَها: سرقها ليلاً فأَكلها، وهي الحَرائِس.

وفي الحديث: أَن غِلْمَةً لحاطب بن أَبي بَلْتَعَةَ احْتَرَسُوا ناقة لرجل فانتحروها.
وقال شمر: الاحْتِراسُ أَن يؤْخذ الشيء من المرعى، ويقال للذي يسرق الغنم: مُحْتَرِس، ويقال للشاة التي تُسْرَق: حَرِيسَة. الجوهري: الحَريسَة الشاة تسرق ليلاً. والحَريسة: السرقة. والحَريسَة أَيضاً: ما احْتُرِس منها.
وفي الحديث: حَريسَة الجبل ليس فيها قَطْع؛ أَي ليس فيما يُحْرَس بالجبل إِذا سُرِق قطع لأَنه ليس بحرز. (…….) ويقال للشاة التي يدركها الليل قبل أَن تصل إِلى مُراحِها: حَرِيسة. وفي حديث أَبي هريرة: ثمن الحَريسَة حرام لعينها أَي أَكل المسروقة وبيعها وأَخذ ثمنها حرام كله. وفلان يأْكل الحِراساتِ إِذا تَسَرَّق غَنَمَ الناس فأَكلها.” اهـ

والناظر في اللسان يجد أن معاني الحرس تدور حول الأخذ أو الخطف ليلا!
فإذا تركنا الحرس وانتقلنا إلى الآية التالية وجدنا أن السادة المفسرين قد خلطوا خلطاً شديدا بين خطف الشياطين واستراق السمع, وقعود هؤلاء مقاعد! فلأن الله كان قد قال في حق الشياطين:

” إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَفَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات : 10]”, ” إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ [الحجر : 18]”

قالوا أن المراد أن هؤلاء مثل أولئك, وأنهم كانوا يقعدون مقاعد للسمع! ولست أدري كيف! إن الله تعالى قال أن النجوم والشهب رجوم للشياطين من أول الخليقة, فكيف كان هؤلاء يقعدون … مقاعد؟!

إن القعود لم يأت في القرآن كله إلا بمعنى المكث الطويل –بغض النظر عن الهيئة التي يكون عليها الإنسان-, بينما يشير الخطف والاستراق إلى السرعة, فإذا ذكرنا أهم المواطن التي ذكر فيها القعود في القرآن وجدناها لا تقول إلا بهذا:

فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التوبة : 5]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ[4] لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [آل عمران : 121]
قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة : 24]
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران : 191]


إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ [البروج : 6]
الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران : 168]
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً [النساء : 140]


قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف : 16]


فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ….. [التوبة : 5]
وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة : 46]
فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ [التوبة : 83]
“فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ …. [التوبة : 81]
ولقد ذكر الإمام الفخر الرازي في تفسيره لآخره آية في سورة القمر كلاما طيباً يهدم ما يقولون به, ويغنينا عن الكلام, نذكره للقارئ ليتأكد من أنه لا يمكن أن يكون الجن قد قعد في السماء مقاعد للسمع في يوم من الأيام:
فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ [القمر : 55]
“قوله: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} يدل على لبث لا يدل عليه المجلس، وذلك لأن قعد وجلس ليسا على ما يظن أنهما بمعنى واحد لا فرق بينهما, بل بينهما فرق ولكن لا يظهر إلا للبارع، والفرق هو أن القعود جلوس فيه مكث حقيقة واقتضاء، ويدل عليه وجوه:

الأول: هو أن الزمن يسمى مقعداً ولا يسمى مجلساً, لطول المكث حقيقة ومنه سُمي قواعد البيت والقواعد من النساء قواعد, ولا يقال لهن: جوالس لعدم دلالة الجلوس على المكث الطويل, فذكر القواعد في الموضعين لكونه مستقراً بين الدوام والثبات على حالة واحدة.

ويقال للمركوب من الإبل: قعود, لدوام اقتعاده اقتضاء، وإن لم يكن حقيقة فهو لصونه عن الحمل واتخاذه للركوب كأنه وجد فيه نوع قعود دائم اقتضى ذلك ولم يرد للإجلاس.

الثاني: النظر إلى تقاليب الحروف, فإنك إذا نظرت إلى ق ع د وقلبتها تجد معنى المكث في الكل فإذا قدمت القاف رأيت قعد وقدع بمعنى ومنه تقادع الفراش بمعنى تهافت، وإذا قدمت العين رأيت عقد وعدق بمعنى المكث في غاية الظهور وفي عدق لخفاء يقال : أعدق بيدك الدلو في البئر إذا أمره بطلبه بعد وقوعه فيها, والعودقة خشبة عليها كلاب يخرج معه الدلو الواقع في البئر، وإذا قدمت الدال رأيت: دقع ودعق والمكث في الدقع ظاهر والدقعاء هي التراب الملتصق بالأرض.


_________________________________________
[1] يمكن للقارئ الكريم تتبع المواطن التي ورد فيها المس في القرآن وسيجد أنها تُستعمل في المواطن التي نستعمل نحن فيها اللمس!

[2] ونخرج من هذا المعنى أن المراد من اللمس في قوله تعالى ” أو لامستم النساء” ليس الوطء كما قال الفقهاء .

[3] لكي يدل اللمس على المس لا بد من التخصيص والتحديد مثل التحديد باليد, وذلك مثل قوله تعالى: ” ولو أنزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم”, ويظل على الرغم من ذلك زائدا على معنى “المس” متضمنا معنى الفحص والخبْر.

[4] عندما تناول الإمام الفخر الرازي هذه الآية في تفسيره قال: ” وقوله {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} أي مواطن ومواضع، وقد اتسعوا في استعمال المقعد والمقام بمعنى المكان،
ومنه قوله تعالى: {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ} [ القمر: 55 ] وقال: {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} [ النمل : 39 ] أي من مجلسك وموضع حكمك, وإنما عبر عن الأمكنة هاهنا بالمقاعد لوجهين الأول : وهو أنه عليه السلام أمرهم أن يثبتوا في مقاعدهم لا ينتقلوا عنها ،
والقاعد في مكان لا ينتقل عنه فسمى تلك الأمكنة بالمقاعد ، تنبيهاً على أنهم مأمورون بأن يثبتوا فيها ولا ينتقلوا عنها البتة. والثاني : أن المقاتلين قد يقعدون في الأمكنة المعينة إلى أن يلاقيهم العدو فيقوموا عند الحاجة إلى المحاربة فسميت تلك الأمكنة بالمقاعد لهذا الوجه .

والفقر المدقع هو الذي يلصق صاحبه بالتراب. وفي دعق أيضاً إذ الدعق مكان تطؤه الدواب بحوافرها فيكون صلباً أجزاؤه متداخل بعضها ببعض لا يتحرك شيء منها عن موضعه.

الوجه الثالث: الاستعمالات في القعود إذا اعتبرت ظهر ما ذكرنا قال تعالى:
{لاَّ يَسْتَوِى القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِى الضرر} [ النساء : 95 ]
والمراد الذي لا يكون بعده اتباع وقال تعالى: {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [ آل عمران : 121 ] مع أنه تعالى قال : {إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ} [ الصف : 4 ] فأشار إلى الثبات العظيم. وقال تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا} [ الأنفال : 45 ] فالمقاعد إذن هي المواضع التي يكون فيها المقاتل بثبات ومكث وإطلاق مقعدة على العضو الذي عليه القعود أيضاً يدل عليه.
إذا عرفت هذا الفرق بين الجلوس والقعود حصل لك فوائد منها هاهنا فإنه يدل على دوام المكث وطول اللبث، ومنها في قوله تعالى: {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ} [ ق : 17 ] فإن القعيد بمعنى الجليس والنديم، …” اهـ

وكما رأينا فإن القعود يكون بمعنى المكث الطويل, فكيف إذا كان الله قد أكدها ب: مقاعد, فل يقل: نقعد, وإنما قال: نقعد مقاعد! فكيف كانوا يعملون هذا بدون أن يُقذفون من كل جانب, وبدون أن تتبعهم الشهب؟!


فإذا تركنا معنى القعود تماما –حتى لا يجادل فيه مجادل- وجدنا أن الآية تقول أنهم لم يكونوا في السماء! فالله تعالى لم يقل: كنا نقعد فيها مقاعد, وإنما قال: كنا نقعد منها مقاعد, وشتان بين الاثنين!

فعندما أقول: قعدت منها مقعد الرجل من زوجه, فإنها لا تعني أني أصبحت بداخلها أو فيها, وإنما تعني أني اتخذت مقعدا قبالتها بشكلٍ ما!


فإذا تركنا “منها” وجدنا أن الله تعالى لم يقل أنهم انقطعوا عن السماع, وإنما أصبح يحصل أشياء غريبة للمستمع!
والمفسرون عند تفسيرهم قالوا أن المعنى فمن يحاول الاستماع الآن, بينما قال الله: فمن يستمع الآن, (لاحظ أنه لم يقل: فمن يقعد الآن) وهذا يعني أنهم كانوا لا يزالون يستمعون!

وعندما كان يستمع المستمع “يجد له شهابا رصدا”, والعجيب كل العجب أن المفسرين جعلوا الشهاب الرصَد بمعنى الشهاب الراصد أو المعد لحرق للمستمع!

كما أنهم لم ينتبهوا إلى “يجد له”, وجعلوها فاقدة المعنى, إن الجني هو الذي يجد الشهاب, كما أن هذا الشهاب له وليس عليه أو ورائه (لاحظ أن الشياطين الذين يسترقون السمع يتبعهم شهاب ثاقب مبين, أما هؤلاء فالواحد منهم يجد … له)
وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَبِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (١٠)

قال الإمام الفخر الرازي في تناوله لهذه الآية:
فيه قولان: أحدهما: أنا لا ندري أن المقصود من المنع من الاستراق هو أشر أريد بأهل الأرض أم صلاح وخير.
والثاني: لا ندري أن المقصود من إرسال محمد الذي عنده منع من الاستراق هو أن يكذبوه فيهلكوا كما هلك من كذب من الأمم، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا.” اهـ

أول ما ينبغي أن ينتبه إليه القارئ هو أن هذه الآية في زمن المضارع, أي أنها تتكلم عن حال الجن بعد معرفتهم بالرسول والقرآن وإيمانهم وليس قبله!

فإذا انتبه إلى ذلك عرف أن القول الأول هو العجب بعينه, فمن المفترض ألا يقول الجن هذا القول إذا كانوا قد علموا أن الرسول قد ظهر, فلقد علموا السبب من الرمي! وهو ظهور الرسول, فكيف لا يعلمون أن الله أراد الهداية بالبشر! بينما من المقبول صدوره منهم قبله –وهذا ما لا تقوله الآية ولم ينتبه إليه المفسرون-


وبعد أن بينا أوجه بعد المفسرين عن النص القرآني نقدم له تصورنا لهذه الآيات, ولكن قبلها ندعوه إلى قراءة سورة الجن ومقارنتها بسورة الكهف, فسيجد تشابها عجيبا:


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْنُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (٢) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (٣) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (٥) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا(٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا(٩) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَبِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (١٤) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (١٥)
وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (١٧) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِيَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (١٩) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (٢٠) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (٢٢) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (٢٣) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (٢٥) عَالِمُ الْغَيْبِفَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا(٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (٢٨)

وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) ….. أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (١٠) فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (١١) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (١٣) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (١٤) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُوَلِيًّا مُرْشِدًا (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (١٨) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (٢٠) وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا …….. قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (٢٢) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (٢٥) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (٢٦) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (٢٧) ( ………….) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)(……….) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) …..وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِفَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57)……. وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) ….. قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) …… وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) ……. إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85)

حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) …. حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ………. الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)”

بعد هذه القراءة لعل القارئ قد لاحظ التشابه الكبير بين مفردات السورتين, ولعل القارئ الكريم قد لاحظ أن السورة بدأت بإنذار الذين قالوا اتخذ الله ولدا (المسيحيون) وذكرت قصة لنفر فروا بدينهم إتباعا للرشد وفرارا من الضلال, وعن قوم كانوا يحصون للبث هؤلاء! وعن رجل ابتُلي بالرزق والمال, وعن نبي جُعل له علامة ليصل إلى عبد آتاه الله علما من لدنه, وعن رجل أتاه الله سببا فأتبع سببا!

وبفضل هذا التشابه استطعنا وضع النقاط على الحروف في هذه السورة, فهؤلاء النفر الذين أتوا إلى الرسول هم من النصارى, خرجوا باحثين عن الحق, كما خرج أهل الكهف فرارا بدينهم, ولما سمعوا القرآن أيقنوا ببطلان دينهم, وعادوا لينذروا قومهم كما أنذر الرجل صاحب الجنتين الذي اغتر بما عنده.

ولما أرادوا أن يؤكدوا لقومهم صدق قولهم بظهور نبي جديد صادق, قالوا أنهم فحصوا السماء فوجدوها ملئت أخذا وخطفا شديدا وشهبا, فلما رأوا ظواهر غير مألوفة تحدث في السماء أخذوا في البحث ليعرفوا هل حدث شيء عظيم وبسببه حدث هذا التغير في السماء, وأنا كنا في الماضي نقعد مقاعد لنسمع هل نزل من السماء شيء, -ولم نكن نرى ولا نسمع شيئا- فمن يستمع[1] الآن يجد له شهابا يترقب به حدوث شيء!

وأنا لا ندري أأُريد شر بمن في الأرض بهذه الشهب, إن هم لم يؤمنوا بالرسول, أم أراد الله بهم رشدا, بأن يرشدهم بهذه الشهب إلى ظهور النبي وصدقه!

وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (١٤) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (١٥)

وعندما تناول الإمام الفخر الرازي هذه الآيات قال:
“أي منا الصالحون المتقون أي ومنا قوم دون ذلك فحذف الموصوف كقوله: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164 ] ثم المراد بالذين هم دون الصالحين من؟ فيه قولان: الأول: أنهم المقتصدون الذين يكونون في الصلاح غير كاملين.

والثاني: أن المراد من لا يكون كاملاً في الصلاح، فيدخل فيه المقتصدون والكافرون، والقدة من قدد، كالقطعة من قطع. ووصفت الطرائق بالقدد لدلالتها على معنى التقطع والتفرق.

وفي تفسير الآية وجوه أحدها: المراد كنا ذوي طرائق قدداً أي ذوي مذاهب مختلفة. (……) الظن بمعنى اليقين، و {فِى الأرض} و {هَرَباً} فيه وجهان:
الأول: أنهما حالان، أي لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها، ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء.
(من أين أتى الإمام الفخر الرازي بهذه الجملة؟ ليس لها أي وجود في النص؟)

والثاني: لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمراً، ولن نعجزه هرباً إن طلبنا. (………) وقوله تعالى: {بَخْساً وَلاَ رَهَقاً} البخس النقص، والرهق الظلم، ثم فيه وجهان:

الأول: لا يخاف جزاء بخس ولا رهق، لأنه لم يبخس أحداً حقاً، ولا (رهق) ظلم أحداً، فلا يخاف جزاءهما.
الثاني: لا يخاف أن يبخس، بل يقطع بأنه يجزي الجزاء الأوفى، ولا يخاف أن ترهقه ذلة من قوله: {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [ القلم : 43 ] . (…….)

السؤال الثاني: الجن مخلوقين من النار، فكيف يكونون حطباً للنار؟
الجواب : أنهم وإن خلقوا من النار، لكنهم تغيروا عن تلك الكيفية وصاروا لحماً ودماً هكذا ، قيل : وههنا آخر كلام الحسن. ……” اهـ

وبعد أن ذكرنا ما قاله الإمام الفخر نبرز نقاط البعد عن النص والتأكيد على بشرية هؤلاء فنقول:
اضطر الإمام الفخر إلى زيادة جملة من عند نفسه عند تفسيره لقوله تعالى: “وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ” فتكلم: عن السماء! مع أن النص يتكلم عن الأرض, ومن غير المنطقي أن يتكلم الجن عن الأرض إذا كانوا يطيرون في الأرض ويمسون السماء!!

وكذلك لمّا كان قوله تعالى: كانوا لجهنم حطبا, يسبب إشكالا لهم, اضطر الإمام الفخر الرازي إلى قبول القول الذي يقول أنهم تحولوا إلى لحم ودم!

وهذا ما نقول به أصلا بدون أي حديث عن التحول! فهم بشر والقاسطون منهم كانوا لجهنم حطبا!
وبعد هذا التعليق نقدم تصورنا للآيات فنقول:

استمر هؤلاء النصارى في تذكير قومهم بحالهم, فذكروهم بأنهم –كإسرائيليين- منهم الأمم الصالحة ومنهم أمم دون ذلك, (كما قال الله في حقهم: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف : 168]),
كنا طرائق متباينة مختلفة متناحرة, لكل منها هواها! وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض[2] التي قُطعنا وتفرقنا فيها, ولن نعجزه بالهرب, ففي أي مكان سيأتي بنا الله, وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به, فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا (فهؤلاء كان عليهم إصر وأغلال طالما كانوا على شريعة موسى, وبإتباعهم شريعة محمد لا يخافون بخسا ولا رهقا)

ثم يواصلون تذكير قومهم بما هم عليه, فهم ليسوا فقط صالحين ودون ذلك, بل منهم مسلمون وقاسطون, فمن أسلم فأولئك تحروا[3] رشدا, وأما القاسطون[4] الجائرون (الذين قسموا الكتب فآمنوا ببعضها وكفروا ببعض) فأولئك كانوا لجهنم حطبا!

وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ[5] عَذَابًا صَعَدًا (١٧)

وتستمر الآيات التي تؤكد بشرية هؤلاء, فيقول الله أنهم لو استقاموا على الطريقة لسُقوا ماءً غدقا! وهذه النعمة لا تكون إلا للبشر, ولهذا وجدنا الإمام الفخر الرازي يقول عند تناوله للآية:

“الضمير في قوله: {استقاموا} إلى من يرجع؟ فيه قولان:
قال بعضهم: إلى الجن الذين تقدم ذكرهم ووصفهم، أي هؤلاء القاسطون لو آمنا لفعلنا بهم كذا وكذا.

وقال آخرون: بل المراد الإنس، واحتجوا عليه بوجهين:
الأول: أن الترغيب بالانتفاع بالماء الغدق إنما يليق بالإنس لا بالجن.
والثاني: أن هذه الآية إنما نزلت بعدما حبس الله المطر عن أهل مكة سنين، أقصى ما في الباب أنه لم يتقدم ذكر الإنس، ولكنه لما كان ذلك معلوماً جرى مجرى قوله: {إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر} [ القدر: 1 ]
وقال القاضي: الأقرب أن الكل يدخلون فيه. وأقول: يمكن أن يحتج لصحة قول القاضي بأنه تعالى لما أثبت حكماً معللاً بعلة وهو الاستقامة، وجب أن يعم الحكم بعموم العلة.” اهـ


وكما رأينا فبعد أن تحدثت الآيات عن بشر متفرقين في الأرض, يقول الله أنهم لو استقاموا على الطريقة الحقة, -فلقد تقطعوا في الأرض, واختلفت طرائقهم- التي جاء بها موسى وعيسى لأعطاهم الله وسُقوا ماءً غدقا كثيرا نديا رويا!
وسيكون هذا العطاء فتنة, ليختبرهم الله,
كما قال:
أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [العنكبوت : 2]
(فإن استمروا على ذكر الله وشكره استمرت النعمة), ومن يعرض عن ذكر ربه (عامة, سواء كان منهم أو من غيرهم) يجعله الله يدخل طريق عذاب شديد يزيد ويتصاعد, لا منفذ منه ولا مهرب!
_______________________

[1]الاستماع أتي في القرآن متعديا باللام, كما في قوله تعالى: “وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف : 204]” “يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ …. [الحج : 73]” ومتعديا ب إلى, كما في قوله: وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ [يونس : 42], وب الباء كما في قوله: “نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً [الإسراء : 47], ويتعدى بنفسه كما في قوله تعالى: “وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ [الأحقاف : 29]”, ولاحظ أن الله تعالى قال في أول السورة: “قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن”, فالجن خرجوا طلبا للسماع ما سمعوا عنه!

[2] قد يرى بعضهم أن هذه الآية دليل على أن المتحدث من الجن, فهي تدور حول إعجاز الله, إلا أن الناظر في القرآن يجد كثير من الآيات تتحدث عن نهي البشر عن التكبر والظن أنهم سيفوتون الله, مثل قوله: “ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ [الأنعام : 134], وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ [الأنفال : 59]
فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ [التوبة : 2]
أُولَـئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ [هود : 20], وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [العنكبوت : 22]
وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [الأحقاف : 32].

[3]من معاني التحري كما جاء في اللسان:
“….. طَلَبُ ما هو أَحْرَى بالاستعمال في غالب الظن، كما اشتق التَّقَمُّن من القَمِين. وفلان يتَحَرَّى الأَمرَ أَي يتَوَخّاه ويَقْصِده.
والتَّحَرِّي قصْدُ الأَوْلى والأَحَقِّ، مأْخوذ من الحَرَى وهو الخَليقُ، والتَّوَخِّي مثله.

وفي الحديث: تحَرَّوْا ليلةَ القَدْرِ في العَشْرِ الأَواخِر أَي تعَمَّدوا طلبها فيها.
والتَّحَرِّي القَصْدُ والاجتهادُ في الطلب والعزمُ على تخصيص الشيء بالفعل والقول؛ ومنه الحديث: لا تتَحَرَّوْا بالصلاة طلوعَ الشمسِ وغروبَها. وتحَرَّى فلانٌ بالمكان أَي تمكَّث. وقوله تعالى: فأُولئك تحرَّوْا رَشَداً؛ أَي توَخَّوْا وعَمَدُوا، ….” اهـ

[4] القسط كما جاء في اللسان: “القِسْطُ الحِصَّةُ والنَّصِيبُ. يقال: أَخذ كل واحد من الشركاء قِسْطَه أَي حِصَّتَه. وكلُّ مِقدار فهو قِسْطٌ في الماء وغيره. وتقَسَّطُوا الشيءَ بينهم: تقسَّمُوه على العَدْل والسَّواء. والقِسْط, بالكسر:
العَدْلُ، ……. والإِقْساطُ العَدل في القسْمة والحُكم؛ يقال: أَقْسَطْتُ بينهم وأَقسطت إِليهم. وقَسَّطَ الشيءَ: فرَّقَه …. ويقال: قَسَّطَ على عِيالِه النفَقةَ تَقْسِيطاً إِذا قَتَّرَها؛ ….” اهـ

والناظر في القرآن يجد أن الله قد أثنى على المقسطين فقال في أكثر من موطن:
” …. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات : 9]”,
بينما توعد القاسطون هنا بالوعيد الشديد, والفرق بين القاسط والمقسط أن المقسط يعطي لغيره أما القاسط فهو يقتطع ويأخذ لنفسه! وأخطر ما يكون فيه الاقتطاع هو كتاب الله:
“وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام : 91]”

[5] من المعاني المرتبطة بالسلك في اللسان الطعن, والناظر في اللسان يجد ابن منظور يقول:
والسَّلْكُ إِدخالُ شيء تَسْلُكه فيه كما تَطْعُنُ الطاعنَ فتَسْلُكُ الرمح فيه إذا طعنته تِلْقاءَ وجهه على سَجيحته وأَنشد قول امرئ القيس نَطْعُنُهُمْ سُلْكى ومَخْلُوجَةً كَرَّكَ ّلأمَيْنِ على نابِلِ وروي كرَّ كلامَيْنِ قال وصَفَه بسرعة الطعن وشبهه بمن يدفع الريشة إلى النَّبَّال في السرعة وإنما يحتاج إليه في السرعة والخفة لأن الغِراء إذا بَرَدَ لم يَلْزَقْ فيستعمل حارًّاً والسُّلْكى الطعنةُ المستقيمة تلقاءَ وجهه” اهـ

وفي هذا اللفظ إشارة إلى كيفية العذاب الذي سينزل بهم!

وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِيَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (١٩) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (٢٠)

وبعد أن بيّن الله للنبي الكريم أنهم صاروا طرائق قددا لأنهم لم يستقيموا على الطريقة, يأمر الله النبي بالتمسك والاستقامة على الطريقة فلا يدعوا –هو والمسلمون- مع الله أحدا! فهذا هو رأس الطريقة ولو اعوج فيها لضاع الدين كله –كما فعلت النصارى! وكما فعل المشركون-

فيأمر الله النبي أن يفرد المساجد لله, ولا يسمع لمطالب المشركين وإلحاحهم بالإشراك مع الله, فلا يشرك ولا يدعوا معه أحدا!

ويذكره أنه لمّا قام عبد الله –المسيح عيسى بن مريم- يدعوه, تظاهر المشركون وتجمعوا على عداوته حتى كادوا يكونون عليه لبدا!

ثم يأمر الله النبي بإعلان ما أُمر بفعله, فيأمره بأن يقول أنه يدعو ربه ولا يشرك به أحدا, كائنا من كان نبياً أو كبيرا!
والمشهور في تفسير هذه الآية أن عبد الله هو النبي! على الرغم من الله قد خاطبه في الآية السابقة بصيغة المخاطب: فلا تدعوا, ثم تحدث في الثانية عن “عبد الله” ويفترض أن يكون عبد الله هذا غير النبي!

ونضرب مثلا للقارئ: لو قلت لا فلان: لا تجادل العلمانيين, ولما قام الكبير يجادلهم كادوا يفتكون به. هل سيفهم المخاطب أن الكبير هو نفسه أم شخص غيره؟

وعلى الرغم من ذلك فقد فهم المفسرون أن عبد الله هو النبي, ونذكر ما قال الإمام الرازي نموذجا لما يقولون-:
” على قول من قال: إنه من جملة الموحى, فالضمير في قوله : {كَادُواْ} إلى من يعود؟ فيه ثلاثة أوجه:


أحدها : إلى الجن ، ومعنى { قَامَ . . . يَدْعُوهُ} أي قام يعبده يريد قيامه لصلاة الفجر حين أتاه الجن، فاستمعوا القراءة {كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً}، أي يزدحمون عليه متراكمين تعجباً مما رأوا من عبادته، واقتداء أصحابه به قائماً وراكعاً، وساجداً وإعجاباً بما تلا من القرآن، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وسمعوا ما لم يسمعوا مثله.

والثاني: لما قدم رسول الله يعبد الله وحده مخالفاً للمشركين في عبادتهم الأوثان، كاد المشركون لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه.

والثالث: وهو قول قتادة: لما قام عبد الله تلبدت الإنس والجن، وتظاهروا عليه ليبطلوا الحق الذي جاء به ويطفئوا نور الله، فأبى الله إلا أن ينصره ويظهره على من عاداه.

وأما على قول من قال: إنه من كلام الجن، فالوجهان أيضاً عائدان فيه، وقوله: {لِبَداً} فهو جمع لبدة وهو ما تلبد بعضه على بعض وارتكم بعضه على بعض، وكل شيء ألصقته بشيء إلصاقاً شديداً فقد لبدته، ومنه اشتقاق هذه اللبود التي تُفرش, ويقال : لبدة الأسد لما يتلبد من الشعر بين كتفيه،
ومنه قول زهير:
( لدى أسد شاكي السلاح مقذف) … له لبد أظفاره لم تقلم (……..)
فإن قيل: لم سمي محمداً بعبد الله، وما ذكره برسول الله أو نبي الله؟
قلنا: لأنه إن كان هذا الكلام من جملة الموحى، فاللائق بتواضع الرسول أن يذكر نفسه بالعبودية، وإن كان من كلام الجن كان المعنى أن عبد الله لما اشتغل بعبودية الله، فهؤلاء الكفار لم اجتمعوا ولم حاولوا منعه منه، مع أن ذلك هو الموافق لقانون العقل؟” اهـ

أما نحن فنقول أن عبد الله هو المسيح, لأن هو من ذُكر في القرآن بهذا النعت:
“قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً [مريم : 30]
وهو تذكير بعبوديته رداً على من أشركوه بالله وجعلوه ابنا له, فالله تعالى يقول أنه لم قام المسيح يدعو الله وحده كادت الطرائق القدد يكونون عليه لبدا! فعلى الرغم من أنهم مختلفون مفترقون لا يجتمعون, إلا أنهم تجمعوا على عداوة المسيح والتظاهر عليه!

قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (٢٢) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (٢٣)

ثم يأمر الله النبي بالقول أنه لا يملك لهم لا ضرا ولا رشدا, وأنه لن يجيره من الله أحد ولن يجد من دونه ملتحدا[1], فلا ملجأ من الله إلا إليه ولا ناصر إلا هو.

والذي يملكه الرسول للناس هو بلاغ من الله[2] ورسالات يبلغها (والقرآن وسوره بلاغ للناس: هَـذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ … [إبراهيم : 52]), فعليه البلاغ, ومن يعص الله ورسوله (جبريل) فلا يبلغ الوحي فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا!
حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (٢٥)

وبعد أن توعد الله المشركين المعرضين عن ذكره بالعذاب[3] وبعد أن رد على مطالب المشركين للرسول وثبته, يقول: حتى إذا رأى المعرضون العذاب الذي يكذبون به, (وهو تقتيلهم على أيدي المسلمين في المعركة) فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا, فسيعلون أن الله هو الناصر المجير, وأن من أجاره الله لا يُهزم, وأن من التجأ إلى الله لا يُنقص!

ثم يأمر النبي بالقول بأنه لا يدري أقريب ما يوعد المعرضون المكذبون أم يجعل له ربي أمدا, فهو سبحانه عالم الغير فلا يظهر على غيبه أحدا, فالغيب له ومفاتيح الغيب بيده!

عَالِمُ الْغَيْبِفَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِأَحَدًا(٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (٢٨)

ثم يختم الله تعالى السورة بآيات تؤكد أن الغيب لله, وأن الرسول لا يعلم الغيب, وأنه مبلغ فقط لما يوحى إليه, وأن إظهار الغيب لا يكون بالصورة المألوفة عند الناس, إلا أن المفسرين لم ينتبهوا إلى هذا, وفصلوا أجزاء الآيات عن بعضها, فنجد مثلا الإمام الفخر الرازي رحمه الله يقول:

” ثم قال تعالى: {عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} لفظة (من) في قوله: {مِن رَّسُولٍ} تبيين لمن ارتضى يعني أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضى الذي يكون رسولاً، قال صاحب «الكشاف»، وفي هذا إبطال الكرامات لأن الذين تضاف الكرامات إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل،

وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب، وفيها أيضاً إبطال الكهانة والسحر والتنجيم لأن أصحابها أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط، قال الواحدي: وفي هذا دليل على أن من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن . (…….)

ثم قال بعده: لكن من ارتضى من رسول: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} حفظة يحفظونه من شر مردة الإنس والجن، لأنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام جواباً لسؤال من سأله عن وقت وقوع القيامة على سبيل الاستهزاء به، والاستحقار لدينه ومقالته.” اهـ
__________________

[1] لم ترد كلمة “ملتحدا” إلا في سورة الجن والكهف, ووردت في نفس السياق المتعلق بتبليغ آيات الله: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً [الكهف : 27]

[2] على الرغم من وضوح الآية ومباشرتها أبى المفسرون إلا أن يعقدوها ويغيروا ما فيها, فجعلوا “من” ليست بمعناها, والبلاغ ليس اسما لشيء وإنما مؤول بمصدر بمعنى “أن يبلغ!”, فنجد الإمام الفخر الرازي يقول مثلا:
“قوله تعالى: {إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله ورسالاته} ذكروا في هذا الاستثناء وجوهاً:

أحدها: أنه استثناء من قوله: {لا أَمْلِكُ} [ الجن : 21 ] أي لا أملك لكم ضراً ولا رشداً إلا بلاغاً من الله، وقوله: {قُلْ إِنّي لَن يُجِيرَنِي} [ الجن : 22 ] جملة معترضة وقعت في البين لتأكيد نفي الاستطاعة عنه وبيان عجزه على معنى: أنه تعالى إن أراد به سوءاً لم يقدر أحد أن يجيره منه، وهذا قول الفراء.

وثانيها: وهو قول الزجاج: أنه نصب على البدل من قوله: {مُلْتَحَدًا} [ الجن: 22 ] والمعنى: ولن أجد من دونه ملجأ إلا بلاغاً، أي لا ينجيني إلا أن أبلغ عن الله ما أرسلت به، وأقول هذا الاستثناء منقطع لأنه تعالى لم يقل: ولن أجد ملتحداً, بل قال: {وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً}، والبلاغ من الله لا يكون داخلاً تحت قوله: {مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} لأن البلاغ من الله لا يكون من دون الله، بل يكون من الله وبإعانته وتوفيقه.

ثالثها: قال بعضهم: (إلا) معناه إن (لا) ومعناه: إن لا أبلغ بلاغاً كقولك: ( إلا ) قياماً فقعوداً، والمعنى: إن لا أبلغ لم أجد ملتحداً، فإن قيل : المشهور أنه يقال بلغ عنه, قال عليه السلام: “بلغوا عني” فلم قال هاهنا: { بَلاَغاً مِّنَ الله}؟
قلنا: (من) ليست (بصفة للتبليغ)
إنما هي بمنزلة (من) في قوله: {بَرَاءةٌ مّنَ الله} [ التوبة: 1 ] بمعنى بلاغاً كائناً من الله. أما قوله تعالى: {ورسالاته} فهو عطف على {بَلاَغاً} كأنه قال: لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات، والمعنى إلا أن أبلغ عن الله فأقول: قال الله كذا ناسباً القول إليه وأن أبلغ رسالاته التي أرسلني بها من غير زيادة ولا نقصان.” اهـ

[3]لم يستطع الإمام الفخر الرازي تحديد الشيء الذي جُعلت “حتى” في الآية الكريمة غاية له, فقال في تفسيره:
“فإن قيل: ما الشيء الذي جعل ما بعد حتى غاية له؟ قلنا: فيه وجهان:

الأول: أنه متعلق بقوله: {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [ الجن : 19 ] والتقدير: أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة ويستضعفون أنصاره ويستقلون (عدده) حتى إذا رأوا ما يوعدون من يوم بدر وإظهار الله له عليهم أو من يوم القيامة، فسيعلمون أيهم أضعف ناصراً وأقل عدداً.

الثاني: أنه متعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار له واستقلالهم لعدده كأنه قيل: هؤلاء لا يزالون على ما هم عليه حتى إذا كان كذا كان كذا، …” اهـ

ولأننا نرفض التقديرات في كتاب الله ونرى حتمية ارتباط آيات السور ببعضها, نظرنا في السورة فظهر لنا أنها مرتبطة بقوله تعالى:
“لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً [الجن : 17]”, حتى إذا رأى المعرضون ما يوعدون “العذاب” , ….

ويُحسب للإمام الفخر الرازي أنه انتبه إلى أن الله تعالى قال “غيبه”, ولم يقل: “الغيب”, وقال أن المراد بالغيب هو يوم القيامة, لأن الواقع المشاهد يقول أن الله يطلع بعض الناس على الغيب, كرؤى أو خواطر, أنبياءً كانوا أو غير أنبياء! أما “يوم القيامة” فلم يُعلم به أحدا!

والذي لم ينتبه إليه الإمام الفخر وغيره من المفسرين, هو أن الله تعالى لم يقل أنه يُظهر من ارتضى من رسول على الغيب, وإنما قال: فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا!

أي أن الله لا يُظهر على غيبه أحد, والاستثناء هم من ارتضى من الرسل (وليس كل الرسل) ولا يعني كونهم استثناءً أنه يظهرهم على الغيب, وإنما يسلك بين يدي من ارتضى منهم ومن خلفه رصدا!
وهو يفعل هذا ليعلم المرتضى أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا!


ونحن ننطلق من “غيبه” لتحديد معنى الآيات, فنقول أن الله تعالى يتحدث عن “غيبه”, فما هو غيبه؟
لا يمكن أن يكون “غيبه” كذلك هو اليوم الآخر لأنه لم ولن يظهر عليه أي أحد, ثم ما علاقة يوم القيامة بمعرفة الرسول كذا وكذا؟!

إن الغيب الذي نفاه الله عن البشر وعن الملائكة (ومن ثم يمكن القول أنه غيبٌ لله) هو الثلاثة أصناف التي جاءت في قوله:
” إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان : 34]”
وبما أن الساعة مستبعدة, فيكون الأقرب هو الحديث عن عدم دراية الموت!

فيكون الأنسب للسياق في الرد على المشركين الذين يسألون أين ومتى ينزل العذاب فنهلك, القول بأن الله لا يُظهر على غيبه, (وهو محل وزمان نزول الموت بالإنسان وماذا يكسب في غده) أحدا, إلا من ارتضى الله من رسول, -مكافأة له- فإنه يرسل إليه لإشارات ودلائل كثيرة, تجعله يترقب وفاته, ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم, وأدوا ما عليهم فلم يبق شيء, وليطمئن إلى أن الله أحاط بما لديهم, وأحصى كل شيء عددا.

وبهذا نكون قد أنهينا هذه السورة وأظهرنا ترابطها ووحدتها الموضوعية, وكيف أنها تتحدث عن بشر لا عن كائنات أخرى, وأنها تدور في فلك نصرة النبي الكريم ونزول العذاب بالمشركين!

ولأن القارئ الكريم قد يرى منطقية ما نقول وتطابقه مع الآيات, إلا أنه قد يرفض كل هذا لفهمه كلمة “الجن” فإن سنتناول هذا الكلمة في موضوع مستق لنثبت أن ما نقول به ليس متكلفا ولا تأويلا!
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نقد رفض التعقل

من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.