عن المشهد اللغوي في مصر

“إذا أردت أن تتعلم لغة فعليك أن تذهب إلى القاهرة .. أو تسافر إلى بلدها”
هذه الجملة تلخص وبكل أسف واقع تعلم اللغات في مصر, فباستثناء اللغة الإنجليزية والفرنسية –والتي غطت مراكز اللغات والمدارسُ الخاصةُ الجمهوريةَ بجودات متفاوتة-, فإنه يجب على متعلم اللغات البالغ التردد على القاهرة ذهابا وإيابا من أجل تعلم تلك اللغة
إما في المركز الثقافي التابع للدولة التي يرغب في تعلم لغتها, أو في مركز لغات “ثقيل”, أو كطالب في كلية الألسن أو اللغات والترجمة, والتي تكتفي في نهاية المطاف بتدريس عدد محدود من اللغات, ويظل هناك العديد من اللغات التي أصبح هناك إقبال وطلب عليها لا تُدرس أصلا!!

والمكابد لعسر السفر ذهابا وإيابا مجبر على هذا, وذلك لأنه إما لا يوجد “مراكز لغات” تعلم هذه اللغة في “الأقاليم” من الأساس, -فالدلتا لا يوجد فيها مثلاً مراكز لغات تعلم لغات شرقية, باستثناء التركية ربما, وغالباً الصعيد كذلك- أو أنه “شكليا” توجد بعض المراكز التي تقدم “دروساً” في تعليم بعضٍ من هذه اللغات, إلا أنها لا تزيد في الغالب عن المستويات التمهيدية .. وبطريقة تدريس تلقينية تقليدية!! وبطبيعة الحال هناك استثناءات جيدة .. ولكنها تظل .. استثناءات!!

نعم, هناك كلية الآداب, والموجودة في معظم المحافظات المصرية, والتي يوجد بها عدد لا بأس به من أقسام اللغات, سواء اللغات الشرقية, مثل الأردية والفارسية والتركية, واللغات الغربية مثل الفرنسية والألمانية والإيطالية, وحتى اللغات القديمة مثل اليونانية القديمة وكذلك المصرية والعبرية والآرامية .. الخ

إلا أن الملاحظ في الخطط الدراسية لكليات الآداب بشكل عام أنها لا تعمد إلى جعل “إتقان اللغة” غاية لدراستها, وإنما تعتبرها وسيلة لدراسة آداب وكتابات وإنتاج أبناء اللغة المتعلمة, وللأسف الشديد غالباً ما تخفق في تحقيق الأمرين! فلا الطالب أتقن اللغة المتعلمة .. لأنها لم يدرسها بالقدر الكافي ولا بالشكل الصحيح (فهو لم يمارسها قط, وإنما تعلمها نظرياً!!

ونغض الطرف عن “أساتذة” اللغة الذين لا يستطيعون الحديث بها بطلاقة أصلاً!!), ناهيك عن أن الطالب ينظر إليها باعتبارها “مادة دراسية” وليس لغة!!, ولا هو استطاع تذوق آداب تلك اللغة, فكيف نطلب إلى من يقرأ ويكتب بصعوبة بالغة, أن يتذوق أدبا أو أن يستطيب شعرا … ناهيك عن أن ينقد ذلك المنتوج اللغوي!!

ولهذا يتخرج سنوياً الآلاف من “دارسي اللغات” في الجامعات المصرية بدون أن يتقنوا اللغة التي تعلموها, بل إن النسبة الأكبر منهم لا يخطر ببالهم أصلاً أن هذه اللغة قد تكون “حقل عملهم” بعد تخرجهم!!

ولأن النسبة الأكبر لا تفكر في إتقان اللغة, والذي يعني الحصول على بعض “الكورسات” بالتوازي مع الجامعة أو حتى بعدها, فإن الخريجين الجيدين من هذه الكليات غالباً ما يجدون أنفسهم مضطرين لإعطاء “دروس مناهج” لطلاب الكليات, حتى يستطيعوا النجاح فيها ..

وأحيانا يتجه بعضهم إلى إعطاء دروس خصوصية لطلاب المدارس الثانوية, وذلك لأن “الكورسات” لا تصلح أن تكون مصدراً لدخل جيد غير متقطع!! وقد يقرر بعض الخريجين أصحاب المستويات المرتفعة أن يتجه إلى إعطاء “كورسات لغات” إلا أنه وبكل أسف لا يعرف كيف يقوم بتقديم “كورس”

ولذلك يجد نفسه في نهاية المطاف لا يزيد عن إعطاء “درس لغة” تحت اسم: كورس!! وذلك لأن دورات تدريب المدربين على تدريس اللغات, مع شحها وندرتها, فهي جد غالية الثمن!!

وإني إذ أنظر وأتأمل المشهد اللغوي في دلتا مصر وصعيدها –مستثنياً القاهرة- أجد واقعاً مريراً, فإذا كنا نشكو من تردي الحال في كثير من القطاعات الخدمية المجتمعية في مصر, مثل المشافي, ولكن ذلك راجع بالمقام الأول إلى نقص الإمكانيات, فالمشافي مثلا بحاجة إلى أجهزة بمبالغ مرتفعة

والدولة لا تدعمها بالقدر الكافي, ولا توفر الأجهزة إلا في مشفى واحد في المحافظة, فإن كان هذا مبرراً وعذرا, فما الحجة في “الخواء اللغوي” في مصر؟!

إن الدولة لا تحتاج في إنتاجها لمعلم –أو مترجم- جيد (ونغض الطرف عن الترجمة) إلى إنفاق قرش واحد إضافي, فهي تنفق بالفعل, وإنما جل ما تحتاج هو تغيير الخطط الدراسية لكليات الآداب –وكذلك اللغات والترجمة والألسن بدرجة من الدرجات- بحيث توضع خطة تلغي التشتيت في التعلم, فيتعلم الطالب اللغة أولاً ثم تدرس له الآداب!

ولا نريد أن نلقي باللائمة على الدولة فقط, فهذه المسئولية يحملها كذلك الأفراد, مدربو اللغات, وكذلك المراكز, والتي تكتفي ب “توظيف” مدرب لغة, ثم لا تراقب أداءه, ولا هي تعمل على تطويره, ناهيك عن أنها تحصر نفسها في عدد قليل من اللغات, وهو الذي تزيد نسبة الطلب والإقبال عليه في “السوق”!!

وإذا كان هذا هو حال معظم مراكز اللغات مع كثير من اللغات الأجنبية, فإن حديثاً عن إهمال تعليم اللغة العربية بشكل معاصر مشوق جذاب, هو ضرب من ضروب الشطح!!

في الختام أقول: نعم, هناك الكثير من مراكز اللغات التي يمكن الحصول فيها على “دورة لغة” … لتتكلمها, ولكن حتى الآن لا يوجد ما يمكن أن نسميه ب “مركز لغوي”, حيث يمكن للمرء دراسة اللغة كلغة, حيث يمكنه التعرف على أحدث النظريات اللغوية وآليات فهم النصوص وتحليلها .. بل ويحاول تقديم مناهج ونظريات لغوية خاصة به! فهل يمكن أن تظهر مثل هذه المراكز قريباً؟!

أتذكر أني عرضت مرة على صفحتي الشخصية على الفيس بوك, التطوع لتقديم دورة لسانيات, ولم أجد إلا قلائل من المهتمين!! فهل سيأتي قريبا ذلك الوقت الذي يدرك فيه دارسو اللغات أن هناك مستويات أعلى بكثير لدراسة اللغة من مجرد الحديث بها!

أعلم أن الوضع صعب وعسير, ولكننا أخذنا على عاتقنا في “أركادا” بيت اللغة والثقافة بالمنصورة, عبء حمل تغيير هذا الوضع قدر المستطاع, فلدينا سياسة مختلفة في تدريب اللغات, فحرصنا على تجميع أكبر قدر ممكن من اللغات –الأكبر في الدلتا-, نقدم دورات مجانية كاملة من البداية إلى النهاية مجانية, نقدم دورات مجانية لتدريب المدربين, أنشأنا –ولا نزال- عدداً من “نوادي اللغات” لممارسة اللغة, مثل: نادي الإنجليزية والألمانية .. والعربية!!

وبإذن الله سنبدأ في تعليم اللغة العربية بشكل جديد مغاير! ولا يزال لدينا الكثير من أجل تعليم ممتع ومختلف للغات .. من أجل إنشاء جيل من “حاملي اللغة” والذين هم “القناطر وحلقات الوصل” بين الحضارات” .. نرجو من الله العون!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نهاية التاريخ … الإسلامي!

قبل ما يزيد عن عقدين من الزمان وتأثراً بانتهاء الحرب الباردة بين روسيا وأمريكا وبعد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.