الهوية!

شهد تاريخنا الإسلامي العديد من التحولات الفكرية لعدد من العلماء, مثل الإمام ابن حزم والذي تحول من المذهب الشافعي إلى المذهب الظاهري, وكذلك الإمام أبو الحسن الأشعري والذي تحول من المذهب المعتزلي إلى السني, والإمام الغزالي والذي تحول إلى الصوفية, وغيرهم قليل! فأكثر العلماء يستمرون على المذهب الذي لُقنوه في بداياتهم! وقد يضيفون إليه بعض الزيادات التحسينية التعديلية!

وقلة التحولات الفكرية في التاريخ الإسلامي –والإنساني عامة- راجعة إلى أن الإنسان يطلق لعقله العنان في نقد أفكار ومبادئ الآخرين, بينما إذا تعلق الأمر بقناعاته الشخصية, والتي تشكل هويته, فإنه لا شعوريا يُسخر عقله بل ويضحي به من أجل هويته! فالجزء دوما يُضحى به من أجل الكل والفرع من أجل الأصل!!

وذلك لأن الإنسان لا يعرف نفسه إلا مجموع تلك الأفكار والمبادئ والقناعات ومنظور خاص للعالم وطريقة معينة للحكم على الأمور, والتي غُرست في فكره في مرحلة طفولته, وأخرى تشكلت عبر سنين عمره بتركيبة معينة ليس لها مثيل عند غيره من البشر, بنفس فرادة تركيب جسده غير المكررة عند غيره!

ولهذا فإن صعوبة التخلي عن مبدأ من المبادئ الفكرية (وليس مجرد فكرة أو رأي) هو مثل التخلي عن عضو من أعضاء جسم الإنسان! وربما أصعب, لأنه يعلم كيف سيكون شكله بعد فقدان هذا العضو والصعوبات التي سيواجه, بينما لا يعرف كيف سيكون إن هو تخلى عن تلك المبادئ!

لهذا نجد دفاعاً مستميتاً من عامة الناس عن أديانهم المليئة بالخرافات وتبريرات لا منطقية لمسلكهم هذا! بل ونجد دفاعات عقلانية قمة في المنطقية للمذاهب النصوصية التي تدعو إلى إلغاء العقل مقابل النص! وهكذا يُدعم إلغاء العقل بسندات عقلانية!! (وهذا ما وجدناه مثلاً من ابن حزم في دفاعه العقلاني القوي!! عن الظاهرية!

وفي هجومه الشديد على المذهب القديم) ولا تحدث تحولات فكرية أو عقدية إلا من أفراد قلائل نظروا في ما يؤمنون به فوجدوا فيه إشكاليات عديدة لا يمكن تجاوزها, ورأوا أنه غير صالح وبعد سنوات من البحث والنظر والتردد تحولوا, وإحقاقا للحق فإن البشرية احتفت بأولئك “المتحولون” وبكتاباتهم ووضعتهم في المكانة التي يستحقون!

وكذلك يحدث التحول من شباب لم ترسخ لديه قناعات معينة يشعر أنها تمثل هويته, ومن ثم يسهل عليه التنازل عن تلك الأفكار, لأنها لا تزال في طور الأفكار ولم تنتقل إلى مرحلة المبادئ المشكلة للهوية (ومن ثم فهو ليس تحولاً حقيقا)!

والملاحظ في التحولات الفكرية للعلماء أنها غالباً ما لا تكون تامة, بحيث ينسلخ العالم من مذهبه القديم –أو إن شئنا الدقة: هويته- كليةً, وإنما ينتقل إلى المذهب الجديد مصحوباً بأفكار من المذهب القديم/ بأجزاء من هويته لم ير بطلانها, ويرى أنها مما تستحق أن يُلقح المذهب الجديد بها!

وهذا ما رأيناه مثلاً مع الإمام أبي الحسن الأشعري الذي ترك المذهب المعتزلي وانتقل إلى مذهب أهل السنة, ولكنه لم يأخذ بالأفكار السائدة لدى أهل الحديث مثلاً, وإنما أنشأ مذهباً عقدياً هو الوسط بين المعتزلة وأهل الحديث لا يزال يُعرف باسمه حتى الآن: المذهب الأشعري.

وكذلك الحال مع الإمام الغزالي, الذي شعر بعد فترة من دراسته وتدريسه العلوم أنه من الذين يحسنون التصنيف والتأليف ولكنه ليس “مخلصا”, ومن ثم أخذ يبحث حتى وصل إلى الصوفية, واتخذها له مسلكاً, وأخذ يدافع عنها, إلا أنه رغماً عن ذلك لم يترك العلوم والمبادئ التي كان قد “آمن” بها مسبقا!

فالملاحظ في كتابات الغزالي حتى بعد التصوف أنها تبنت المنطق الأرسطي, والذي كان يعتبر في تلك الفترة علماً دخيلاً على المجتمع الإسلامي, ودافعت عنه دفاعاً شديداً وعملت على دمجه في الدين, وجعله ميزانا للتفكير والحكم!

والمشكلة الكبرى هي فيمن يأتون بعد هؤلاء “المتحولون” أو غيرهم فيدرسوا آرائهم فيرونها حقاً مطلقاً ويقتنعون بها, ثم تصبح هوية لها يدافعون عنها باستماتة, رغماً عن أنها تشكلت في ظروف تاريخية ولأسباب شخصية معينة, ولو لم يمر ذلك الباحث بنقطة معينة فلربما ما رأينا هذه الآراء ولربما ظهرت غيرها!

في النهاية أدعو إلى أن يعتبر الإنسان أن هويته هي الأحكاّم التي كونها عبر خبرته وتجاربه واختبر صحتها وتلك النابعة من فطرته والتي لاقت قبولاً وتنمية في كل المجتمعات والتي ينبغي أن تكون بمثابة أركان وأعمدة كيانه, وليست تلك التي لُقنها في صغره بدون أن يعلم صوابها من ضلالها!

وأنها تلك المبادئ العامة, وليس الرأي الشخصي في كل مسألة فرعية, وسواء كانت هذه أم تلك فإن عليه أن ينظر إلى هويته باعتباره كائناً “ليناً” قابلاً للتشكل بأشكال عديدة وليس قالب حجريا صلباً –أو صنماً إن شئنا الدقة- يخشى أن يتحطم وينهار

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

“العدل” ليس من أسماء الله الحسنى

لماذا نقول إن “العدل” ليس من أسماء الله الحسنى؟لأسباب عديدة, منها:أنه لم يرد في القرآن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.