نتوقف اليوم بفضل الله وفتحه مع الآية الشهيرة في سورة النور, وهي آية: الله نور السماوات والأرض, محاولين عرض بعض ما فُتح علي فيها فنقول وعلى الله الاتكال:
“اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ … فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [النور : 35- 36]”
بعض الناس يفهم النور بأنه الضوء, ومن ثم سببت له الآية إشكالاً, إذ أن فيها “شبهة” مادية, وهو ما يستحيل في حق الله, فنقول:
مبدئيا النور ليس الضوء, النور لا يُرى وإنما هو ما يُرى به, فهو سبيل الرؤية والإبصار, وأشهر مصدر يصدر النور هو الأجسام النيرانية, مثل الشمس والنار, والمصابيح البشرية, وكذلك الأجسام المضيئة مثل القمر!
فعند وجود الضوء ترتفع الظلمة, ويستطيع الإنسان أن يبصر! ثم أصبح النور يستخدم كإشارة لكل ما يكشف جديداً للإنسان سواء في مجال الرؤية العينية أو مجال الرؤية العقلية, فعندما تعرفني جديدا مجهولاً لدي فقد “نورتني” .. بددت ظلمات جهل كانت موجودة لدي!
والأصل هو الظلام والنور طارئ عارض, سواء على المستوى المادي أو المعنوي, فالله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا, وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة, وكذلك: “وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ [يس : 37]“,
فالنهار في الكون هو بمثابة قشرة رقيقة عارضة, بمجرد أن تسلخ حتى يسود الظلام مرة أخرى!
والظلمات في الكون عديدة, بينما هناك نور واحد فقط, فلا توجد “أنوار”: “الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ [الأنعام : 1]”, “اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة : 257]”
وبعد هذا التمهيد اليسير ننطلق في تناولنا لآية النور –في سورة النور-, فالله عندما نعت نفسه بأنه “نور السماوات والأرض”, لم يكن يقصد أنه “ضوء” السماوات والأرض, وإنما كان يريد –وهو أعلم بمراده- أنه هادي السماوات والأرض, فأي هداية في الكون هي من الله, سواء كانت لبشر أو حجر:
“الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى : 3]”, “قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه : 50]”, “فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت : 12]”, “وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل : 68]”, “… قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ [المائدة : 15]”, “يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف : 8]”
ويختلف تنوير الله للإنسان عن باقي المخلوقات, أن منه الفطري –مثله مثل باقي المخلوقات- وأن منه الخارجي “الوحي الرسولي”, وكذلك كل الكون حوله هو نور للإنسان, فلقد خلق الله الكون وأجرامه وصممه ليكون بهيئته وحركته هداية للناس ودلالة عليه!
وهو ما يسميه الله في كتابه في مواطن عديدة ب “آيات الله” –وتتبع هذا التعبير في كتاب الله تجده يشير دوما إلى خلق الله, أكثر من أن يشير إلى الكلام المنطوق-, إذن فالله أنار الكون كله وجعل الكون كله مشيرا وهاديا إليه ومعرفا به وبأسمائه الحسنى … فمنه النور وإليه النور!
ولأن مسألة كيفية كون الله نور السماوات والأرض, ليست بالأمر اليسير المتبادر إلى أي ذهن, ثنّى الله بذكر تمثيل لنوره, فقال:
مثل نوره –في السماوات والأرض- كمشكاة -والمشكاة هي الكوة في –جدار البيت-, والصورة بأسفل, تبين لنا ما هي المشكاة/ الكوة:
وهذه المشكاة في الأساس مظلمة, ولكنها فيها مصباح (ولو نُزع المصباح منها أو أطفئ لساد الظلام مجددا) فيها مصباح, المصباح –وهو شعلة النار- في زجاجة, والزجاجة من شدة توهج هذا المصباح أصبحت في الضياء كأنها كوكب دري شديد الإضاءة.
(المصباح وليس الكوكب الدري) يوقد من شجرة مباركة, كثيرة العطاء فياضة غير بخيلة, زيتونة, كثيرة الزيت (يقال أن المقصود أنها شجرة الزيتون, وأرى أن المقصود التركيز على كثرة عطاءها الزيت من كونها نوع) ومن ثم فإنارته مستمرة غير منقطعة.
وهذه الشجرة ليست شرقية ولا غربية, فهي ليست في جهة منهما –وإنما هي في الغالب في الوسط- (لاحظ أن القرآن يتحدث في الجهات الأصلية فقط عن الشرق والغرب والمشارق والمغارب, إنما الشمال والجنوب فليسا من الجهات الأصلية في لغة القرآن), والشجرة التي تمد هذا المصباح بالزيت, بالإضافة لبركتها فهي نقية صافية, فزيتها نفسه يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار!
وهنا تجتمع إنارات عديدة, فالمصباح/ الشعلة ينير, وهو أنار الزجاجة فجعلها كالكوكب الدري, والزيت نفسه الذي يبقي المصباح متقدا يكاد يكون ذاتي الإضاءة بدون الحاجة إلى النار!
واجتماع هذه العناصر مع بعضها أقوى في زيادة الإنارة, فالشعلة بدون زجاجة أقل في الإضاءة منها مع وجود الزجاجة, ووجود شعلة وزجاجة مع زيت رديء لن يصدرا إنارة جيدة, بينما مع اجتماع العناصر كلها تكون النتيجة: نور على نور .. أنوار متراكبة متوجهة!
ورغما عن هذا فإن استقبال هذا النور ليس بالأمر “الطبيعي”, وإنما يهدي الله لنوره من يشاء .. من يستحق أن يستقبل هذا النور .. (ويضرب الله الأمثال للناس ليقرب لهم الصورة, وهو بكل شيء عليم)
وهذه المشكاة التي فيها المصباح هي في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمها, فنور الله يشع أول ما يشع, ويظهر أول ما يظهر من بيوته .. ثم ينتشر ليعم العالم كله, والله متم نوره ولو كره الكافرون.
أرجو من الله أن أكون قد وفقت في هذا التناول السريع في تقديم تبسيط غير مخل لآية النور .. والله هو الفتاح العليم!
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته