نواصل بفضل الله وفتحه تناولنا لسور المرحلة المدنية لنبين ترتيب نزولها ومناسبات نزولها, ونعرض اليوم لسورة التغابن فنقول:
اختلفت كتب أسباب النزول في سورة التغابن, فقيل أنها مدنية وقيل مكية وقيل مكية مدنية, أما نحن فنقول أنها مدنية وأنها مما تأخر جداً نزوله في المدينة, وأنها التالية نزولاً لسورة: الحجرات !
ففي الحجرات كان الحديث عن الأعمال والإيمان وكيف أن الله حببه في قلوب المؤمنين وكيف أنه بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان
ثم تُختم السورة بالحديث عن زعم الأعراب إيمانهم ورد الله عليهم بأن هذا إسلام ولما يدخل الإيمان في قلوبهم ويعرف من هم المؤمنون وينكر عليهم تعليمهم الله بإيمانهم ومنهم إسلامهم على الرسول وكيف أن الله هو من يمن عليهم إذ هداهم وأنه يعلم غيب السماوات والأرض.
وكما بيّنا فإن الحجرات والسور السابقة لها نزلت في المرحلة الأخيرة من البعثة حيث بدأت القبائل والجموع في التحول إلى الإسلام, وفي هذه الفترة كان يحدث أن يؤمن الرجل مثلاً ولا تؤمن زوجه أو لا يؤمن أولاده! وكانوا يعيشون في بيت واحد! وفي نفس القبيلة
وكان مما يحدث أن يؤمن البعض وكانت هناك مخاصمات ومجادلات ونقاشات بشأن التحول إلى الدين ورمي بالضلال في كلا الطرفين, وتحت ضغوط العائلة أو القبيلة كان البعض يعود مرة أخرى إلى ما كانوا عليه! وكان هناك كذلك من يدخل في الدين مجاراة لباقي القبيلة
وكان أن نزل في تلك الفترة مصيبة بالمسلمين, وظهرت تساؤلات –من أو بين المؤمنين الجدد- لماذا هذه المصيبة؟!!
وفي تلك الأجواء أنزل الله سورة التغابن يقول أنه هو الذي خلق كل الناس وهناك لا محالة كافر وهناك مؤمن وهو عليم بما نعمل وبما في الصدور وإليه المصير
ثم يؤكد على ما ذكره في الحجرات أنه من يمن على الناس إذ هداهم للإيمان, بالقول أن هناك من تولى من قبل واستغنى الله والله غني حميد, فهو ليس بحاجة إلى إيمان الناس!!
وهو سيبعث الجميع وسينبئهم بما عملوا, ثم يدعوا للإيمان وأن من يؤمن ويعمل صالحا سيكفر عنه سيئاته, وأن من يؤمن بالله يهد قلبه.
ثم تُختم السورة بما خُتمت به السور السابقة بالأمر بطاعة الرسول والإنفاق في سبيل الله, (وتزيد عليها هنا التحذير من الأزواج والأولاد وكيف أن منهم فتنة) مؤكدة على ما جاء في الحجرات من أن الله عالم غيب السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة.
العلم (آمنوا وأطيعوا وأنفقوا فالله عالم)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
ثم تأمر بالطاعة وتبين أنها في الواقع لله فالرسول مبلغ فقط, وعليه يتوكل المؤمنون, وعليهم أن يحذروا من أزواجهم الذين يحرضونهم على عدم الطاعة وعدم الإنفاق (فلا يضيعوا أنفسهم من أجل أفراد لن ينفعوهم في اليوم الآخر), وتأمرهم بالتقوى والسمع والطاعة والإنفاق وأن الله سيضاعف لهم القرض الذي سيقرضونه, عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم:
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
ونسأل القارئ أن يعيد قراءة السورة مرة أخرى فسيفتح الله عليه فيها ما لم نذكر نحن, إنه هو الفتاح العليم والحمد لله رب العالمين.