سورة الحشر .. أخرج الأعز الأذل!

نواصل بفضل الله وفتحه تناولنا لسور المرحلة المدنية لنبين ترتيب نزولها ومناسبات نزولها, ونعرض اليوم لسورة الحشر فنقول:


لا خلاف أن سورة الحشر مدنية, والمشهور أنها نزلت في العام الرابع من الهجرة بعد غزوة بني النضير, حتى أنه ورد عن ابن عباس أنه سماها: بنو النضير

أما أنا فأقول أنها من المتأخر جداً بعد فتح مكة, وأنها ربما كانت في حدود السنة التاسعة من الهجرة, وأن الحشر هي السورة التالية للمنافقين, والتي حكى الله فيها قول المنافقين: “لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل”

ففي هذه الأثناء كان هناك تخطيط مبيت بين منافقين وبين بعض أهل الكتاب لإخراج المسلمين من المدينة, وشاقوا الله ورسوله, فحاصرهم الرسول فألقى الله في قلوبهم الرعب فخربوا بيوتهم وأجلاهم الرسول

وبعد نصر الله المسلمين عليهم قام الرسول بتقسيم بعض الفيء على المسلمين وزاد في نصيب الفقراء ونهاهم عن أخذ بعضه, إلا أن التقسيم لم يعجب بعض المتأخرين من المسلمين من الأغنياء, وقالوا كيف نقاتل وننصره ونخرج هؤلاء ثم يكون هذا نصيبنا

فأنزل الله العزيز الحكيم سورة الحشر يقول فيها أنه هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم وليس الجيش فبالرعب نُصروا وأن له كل الفضل (وهو المحور الذي تدور السورة في فلكه) ومن ثم فعليهم الرضا بنصيبهم والقناعة به, وألا يحرصوا على الدنيا وأن يتحلوا بخلق الإيثار ليظلوا يداً واحدة ولا يختلفوا فتختلف قلوبهم, وأن عليهم أن يتقوا الله ولا ينسوا فضله فله الأسماء الحسنى.

(وبالفعل أخرج الأعز منها الأذل وكانت العزة لله ولرسوله وللمؤمنين), ومقابل مكر المنافقين الذين قالوا: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ..

جعل الله النصيب الأكبر ل: للفقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله (فجعل الله أموال الذين أخرجوا من أهل الكتاب للذين أخرجوا من المؤمنين) وفضح الله المنافقين المذكورين في: المنافقون -وقبل ذلك في المجادلة: ألم تر إلى الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم.- فقال: ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم .. .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)

ثم يقدم الله حكمه في الفيء أنه لله والرسول ولذي الحاجة وأن عليهم الرضا بما يعطيهم الرسول والانتهاء عما ينهاهم عنه, وكيف أن أصحاب الإيمان لا يحملون في صدورهم تجاه إخوانهم ويؤثرون على أنفسهم وأن من يوق شح نفسه مفلحون ويدعون لإخوانهم:

 ثم يلفت الله إنتباه الرسول إلى فعل المنافقين مع إخوانهم من كفرة أهل الكتاب, وكيف أنهم لم ينصروهم ولم يساندوهم (ومن ثم لا ينبغي أن يكون هذا حال المؤمنين مع إخوانهم) وكيف أنهم عظمت رهبة الناس في صدورهم أكثر من الله (وهذا ما لا ينبغي أن يكون عند المسلمين من تقديم الدنيا على الرب) ويبين حالهم من الوهن وكيف أنهم يغررون ببعضهم بعضا كمثل الشيطان,


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)

ثم تختم السورة بنداء المؤمنين وأمرهم بتقوى الله وأن ينظر الإنسان ما قدم (وليس ما أخذ) وألا يكونوا كالذين نسوا الله وأنه لا يمكن أبدا أن يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة (فالجنة معيار الفوز وليس المال)
وأن هذا القرآن يؤثر في الجبال ويثير فيها خشية الله وأن الله يضرب الأمثال للناس. ثم تُذكر السورة بالله بذكر بعضا من أسماءه الحسنى حتى يستحضر المؤمنون الله وليهم ونصيرهم في قلوبهم:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)

وبعد أن بينا للقارئ الوحدة الموضوعية للسورة ندعوه أن يعيد قراءتها مجددا فسيفتح الله عليه بإذنه ما لم نذكر نحن إنه هو الفتاح العليم, والحمد لله رب العالمين.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

حول إنكار العقل الغربي ل “النظام الكبير”!!!

في إحدى اللقاءات المطولة على اليوتيوب عن اللغة وفلسفتها، ذكر المتحدث رأي دو سوسير، القائل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.