نتوقف اليوم بفضل الله العظيم وفتحه الكريم, مع مصطلح يعتبر من أهم المصطلحات في الدين, وفي حياة المسلمين, والذي اكتشفت –وبكل عجب- أننا لا نعرف تحديداً ما هي العبادة, وأن لدينا تصورات عامة إجمالية غير دقيقة عن المفردة! بينما نتجاوز المعنى المنصوص عليه معتبرين إياه من باب المجازات أو إبراز أهمية فعل معين!
لذا نتوقف مع مفردة “ع ب د” “عبادة” في التراث الإسلامي لنبصر كيف فُهمت, ثم نقدم بعد ذلك فهمنا لها من القرآن, فنقول وعلى الله الاتكال:
إذا نظرنا في أقوال اللغويين, وجدنا أنها عندهم تدور حول الطاعة والخضوع والتذلل, فنجد اللغوي الشهير الزجاج بقوله: “العبادة في لغة العرب الطاعة مع الخضوع”،
وقال الفيومي في المصباح المنير: الانقياد والخضوع، وقال الاصبهاني في مفردات القرءان: “العبادة غاية التذلل”، وقال علي بن عبد الكافي السبكي في تفسيره لقوله تعالى: {إياكَ نعبد} [سورة الفاتحة/5] “أي نخصك بالعبادة التي هي أقصى غاية الخشوع والخضوع”، وقال أبو حيان الاندلسي في تفسيره لقول الله تعالى: {إياك نعبد} [سورة الفاتحة/5] العبادة عند جمهور اللغويين التذلل.
وكعادته أطال ابن منظور في لسان العرب عند حديثه عن: ع ب د, فذكر معاني كثيرة غير مألوفة, لا تعنينا الآن, وذكر بينها المعنى المألوف وهو: الطاعة والتذلل, فقال:
“والعِبادَةُ: الطاعة. … …… و قال في قوله تعالى: إِياك نعبد؛ أَي نُطِيعُ الطاعةَ التي يُخْضَعُ معها، وقيل: إِياك نُوَحِّد، قال: ومعنى العبادةِ في اللغة الطاعةُ مع الخُضُوعِ، ومنه طريقٌ مُعَبَّدٌ إِذا كان مذللاً بكثرة الوطءِ. ……. وقول الله تعالى: وقومهما لنا عابدون؛ أَي دائنون. …….. وكلُّ من دانَ لملك فهو عابد له. وقال ابن الأَنباري: فلان عابد وهو الخاضع لربه المستسلم المُنْقاد لأَمره.
وقوله عز وجل: اعبدوا ربكم؛ أَي أَطيعوا ربكم.
والمتعبد المنفرد بالعبادة. ……….. والمُعَبَّد: المُكَرَّم في بيت حاتم حيث يقول: تقولُ: أَلا تُبْقِي عليك، فإِنَّني أَرى المالَ عند المُمْسِكينَ مُعَبَّدا؟ أَي مُعَظَّماً مخدوماً. وبعيرٌ مُعَبَّدٌ: مُكَرَّم.
والعَبَدُ الجَرَبُ، وقيل: الجربُ الذي لا ينفعه دواء؛ وقد عَبِدَ عَبَداً.
وبعير مُعَبَّد: أَصابه ذلك الجربُ؛ عن كراع. وبعيرٌ مُعَبَّدٌ: مهنوء بالقَطِران؛ …… ويقال: هو الذي عَبَّدَه الجَرَبُ أَي ذَلَّلَهُ؛ …… والمُعَبَّدُ المذلل. والتعبد التذلل، ويقال: هو الذي يُترَك ولا يركب.
والتعبيد: التذليل. وبعيرٌ مُعَبَّدٌ: مُذَلَّلٌ.
وطريق مُعَبَّد: مسلوك مذلل، وقيل: هو الذي تَكْثُرُ فيه المختلفة؛ قال الأَزهري: والمعبَّد الطريق الموطوء” اهـ
ولكن نظراً لأن فهم العبادة بمعنى الطاعة فقط, يؤدي إلى العديد من الإشكاليات, مثل أنه يجوز للمسلم أن يطيع غير الله والله سبحانه قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ … [النساء : 59], بينما ينهانا أن نعبد غيره,
فهل يمكننا أن نقول مثلاً: اعبدوا الله واعبدوا الرسول, بدلاً من: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول؟!
وما المشكلة في أن أطيع والدي أو مديري؟
لتجاوز هذه الإشكالية حاول بعضهم إضافة: الخضوع والتذلل إليها! ولكن هذا لا يحل الإشكالية, فهل إذا أطعت رئيسي في العمل أو الحاكم وتذللت إليه أصبح مشركا؟!
نعم هذا مما لا ينبغي أن يصدر من مسلم, ولكنه ليس شركاً!! (ناهيك عن أنه من غير المطلوب من المسلم أن يتذلل بحال من الأحوال!, فارق بين الدعاء رغبا ورهبا وفي خشوع وبين التذلل)
ومقابل هذا التعريف اللغوي غير المانع, وجدت تعريفات أخرى عامة حاولت أن تتجنب هذا القصور, فوجدنا ابن القيم مثلاً يقول أن العبادة هي غاية الحب وغاية الخضوع!! فوجدناه يقول في مدارج السالكين:
والعبادة تجمع أصلين : غاية الحب ، بغاية الذل والخضوع , والعرب تقول : ” طريق معبَّد ” أي : مذلَّل ، والتعبد : التذلل والخضوع ، فمن أحببتَه ولم تكن خاضعاً له : لم تكن عابداً له , ومن خضعت له بلا محبة : لم تكن عابداً له ، حتى تكون محبّاً خاضعاً .
وهو ما عبر عنه في نونيته بقوله:
وعبادة الرحمن غاية حبه ** مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر ** ما دار حتى قامت القطبان
ولست أدري حقاً ما هو مستند ابن القيم في إدخال الحب في تعريف العبادة, فلا مستند له من القرآن ولا من اللسان في ذلك!!
ناهيك عن أن هناك من العشاق المحبين من يخضع لإشارات محبوبه البشري ويتذلل له ويأتي بكل ما يرضيه, فهل هذا شرك؟ ناهيك عن أن الله لن يرسل رسله ليأمر خلقه بفعل قلبي ذو درجة عالية!! فلم يصل إلى هذه الدرجة من حب الله في تاريخ البشرية إلا قلائل, بينما الأكثرية من المؤمنين به حبهم له بسيط –هذا إذا كانوا يحبونه أصلا أو نبض قلبهم بحبه!, فالأكثرية ترهب وتهاب ربها وتشكره وتحمده ولكن تحبه هذه بعيدة!!
وبالإضافة لهذا فهناك التعريف الشهير لشيخه ابن تيمية, فقال:
العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف لعذابه وأمثال ذلك هي من العبادة.
وهو تعريف تلفيقي تجميعي! إذ أنه بدلاً من أن يقول بأنها الطاعة سرد أبرز وأشهر أوجه الطاعات/ الأعمال الصالحة قارناً إياها بحب الله! ظنا منه أنه عرفها بهذا الشكل!!
إلا أنه يعكر على هذا التعريف أن القرآن لا يقدم العبادة باعتبارها الاسم الجامع لكل أنواع الطاعات, (ولم يستخدمها جمعاً أبداً, فلم نجد في القرآن ولا في أحاديث الرسول مفردة: عبادات, وإنما هي من متأخرات الظهور) وإنما يقدمها في آيات عديدة باعتبارها “فعل” من الأفعال! وقرنها بأفعال أخرى, فنجد مثلاً أن الله تعالى يقول:
” التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة : 112] “
” وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ [الأنبياء : 73] “
” عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً [التحريم : 5] “
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج : 77] “
وهنا نجد أن الله أمر بالعبادة بين الشعائر “الصلاة”: ركوع وسجود وبين الأفعال العادية الصالحة: فعل الخير, ومن ثم فالمفترض أن هذه غير هذين الاثنين!!
بل ويعتبر العبادة وسيلة لتحقيق التقوى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة : 21] “
وفي آية مثل القادمة نجد أنه جعل العبادة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هو دين القيمة, أي أن هذه الأركان الثلاثة هي الدين: ” وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة : 5]”
فما هي العبادة إذاً؟!
أولاً يجب الانتباه إلى إننا بحاجة إلى فعل لا ينبغي حدوثه إلا مع الإله, بحيث لو صدر لغيره يكون مذموما ويكون شركاً, والمعاني المذكورة سابقاً هي كلها مما يُتقبل صدورها لبشر!
(وفي منهجي يجب أن تكون المفردة شارحة المفردة الأصلية متعدية بنفس طريقة تعدي المفردة الأصلية, ف: ع ب د, مثلاً متعدية بنفسها, فلا أقبل أن يكون معناها متعديا بحرف جر, مثل: خضع ل أو تذلل ل!)
فماذا يمكن أن يكون معنى العبادة؟!
الحق أني تفكرت طويلاً في المعاني اللسانية علّي أجد معنى مقنعاً شاملاً منسجماً مع الآيات القرآنية, ثم هُديت بعد ذلك إلى أن معنى العبادة نعرفه جميعاً وهو: الدعاء!!
ففي أي مجتمع وفي أي زمان ومكان الدعاء لا يكون إلا للإله, بينما السؤال يكون للبشر!! فعندما أدعو فهذا إقرار مني بأن المدعو هو المحرك المدبر للكون, لذا ألجأ إليه طالباً عونه وهديه ومدده!
ورغماً عن أن الله ذكر هذا صراحة في كتابه وأن النبي قال هذا تعليقاً على الآية, وذلك في الحديث الذي رواه أبو داود في سننه –وغيره-: عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ, {وقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر : 60]{
إلا أننا نصر على أن هذا معنى فرعي مجازي للكلمة, بينما عندما اختبرتها تبعاً لهذا المعنى وجدت أنه منسجم ومنطقي تماماً! فالله يرسل الرسل إلى الأقوام ليقول لهم: ادعوا الله وحده, الجأوا إلى الله وحده وليس إلى غيره من الكائنات! فهي لا تنفع ولا تضر ولا تهدي ولا تضل!
ونتوقف مع كثيرٍ من الآيات التي وردت فيها كلمة “عبد/ عبادة” ونفهمها تبعاً لهذا الفهم, لنبصر كيف أنه أولى من غيره:
فإذا توقفنا مع الآية الشهيرة التي نكررها كل يوم: “إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة : 5]”, (ونذكر بأن الفاتحة من أوائل ما نزل من القرآن! ولم تكن ثمة أوامر وتكليفات قد نزلت بعد), نجد أننا نقول لله رب العالمين, إننا ندعوك وحدك ونستعين بك وحدك, ثم نبدأ بعد ذلك في دعائه فعلاً قائلين: اهدنا الصراط المستقيم .. الخ.
ونفس ما قيل في هذه الآية يقال في آية قريش: “فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ” (ونُذكر بأن كل آيات الأمر بالطاعة: “وأطيعوا” هي آيات مدنية لم تنزل إلا بعد وجود تشريع!
قرن فيها الأمر بطاعة الرسول مع طاعة الله!), فهل من المقبول أن يقال للناس من الأيام الأولى للبعثة: اعبدوا/ أطيعوا, ثم لا تأتي الأوامر إلا بعد قرابة 15 عاماً؟
فهل الأولى أن نفهم هذه الآيات –وكذلك الأمر الرباني الموجه لسيدنا موسى نفسه في بداية تكليفه بالرسالة: “إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه : 14]”, بأنه الدعاء أم الطاعة؟!
“إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر : 2-3]”,
فهل المشركون هنا يدعون أولياء من دون الله ليقربوهم أم يطيعون؟!
“وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود : 123]”
إن الناظر في القرآن يجد أنه يربط العبادة بالدعاء في عديد من المواطن وليس في هذا فقط, مثل الآية الشهيرة في البقرة: “وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة : 186] “
ومثل آيات الشعراء, فهل الأولى في فهم قولهم:
“إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ”
هو نطيع أصناماً فنظل لها عاكفين (لاحظ أن الأصنام لم تأمرهم بشيء أصلاً), أم ندعو أصناما فنظل لها عاكفين؟ المنطقي هو الثاني, لهذا كان رد الخليل إبراهيم عليهم: هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون؟!
“قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ [الأنعام : 56]”
” وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ [الحج : 11-13]”
والملاحظ أن القرآن يقرن العبادة بالرزق والضر والنفع, فهو يلوم على المشركين أنهم يعبدون/ يدعون ما لا يضرهم ولا ينفعهم!! ومن ذلك قول الخليل إبراهيم:
“إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت : 17]”
فهل هو يقول لهم: أنتم تطيعون ما لا يملك لكم رزقا أم تدعون ما لا يملك لكم رزقا, فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه/ وادعوه واشكروا له؟!
“وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ [النحل : 73]”
“وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات : 56-58]”
فتبعاً لهذا الفهم استقامت الآيات, فالله خلق الخلق ليلجئوا إليه داعين طالبين احتياجاتهم فيعطيهم! وكنت قديما أتساءل, ما العلاقة بين الطاعة والرزق, وكنت أتساءل: هل الله خلق ليُعطي (هبات ورزق وأفضل) أم ليُعطى (طاعة واتباع)!! فالله سبحانه خلق ليتكرم وليعطي وليس للعكس!
ونجد كذلك أن القرآن يربط العبادة بالسمع والبصر, وذلك لأنها دعاء!
” إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً [مريم : 42]”
“قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [المائدة : 76]”, أتدعون ما لا يملك ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم؟!!
واقرأ الربع الأخير من سورة الأعراف تبعاً لهذا التصور تجده أكثر استقامة.
“فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم : 62]”
فهل الأولى هنا اسجدوا وادعوا أم اسجدوا وأطيعوا؟!
إن الإشكالية هي أن علماء المسلمين فهموا أن القضية في كل المجتمعات وكل الأزمنة كانت هي “الشريعة”, ومن ثم فهموا العبادة طاعة! بينما كانت القضية دوما هي “العقيدة”! أن هؤلاء الأقوام كانوا يختلقون آلهة إفكاً ويدعونها, فكانت الرسل تأتي إليهم لتقول لهم اعبدوا/ ادعوا الله وحده!
فسيدنا نوح مثلاً لم يأت إلا بتشريعات جد محدودة, وبالتأكيد لم تكن هذه هي المشكلة عند قومه أن يقروا مثلا بأن القتل حرام ولا ينبغي فعله!! وإنما كانت المشكلة أن يتركوا عبادة/ دعاء هذه الآلهة المزعومة:
“لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف : 59] “
والعجيب أننا نعرف أن الرسول ظل سنين يغرس في قلوب المسلمين “الإيمانيات/ العقيدة”, ثم نتقبل أن يأتي الرسول من أول يوم بحكم تشريعي بدلاً من أن يأتي ب “عقيدة”!!
إن الرسل كانت تحارب رأس الفساد والضلال, وبعد الانتصار عليه وترسيخ الحق في نفوس الأتباع تأتي الأوامر والتوجيهات, التي سيتقبلونها ببساطة!! ناهيك عن أن هناك أنبياء لم تأت بشرائع أصلا وإنما جاءت لمحاربة الشرك! فما هو مجال الحديث عن الطاعة!!
وليس الأمر مجرد استنتاج, فنحن نجد أن سيدنا نوح يجمع المعنيين في جملة واحدة, فهو يقول لقومه: ” أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [نوح : 3]”, فهو يأمرهم بعبادة الله وتقواه وأن يطيعوه هو! فالعبادة غير التقوى وهما غير الطاعة, فهل لا يزال هناك مجال للحديث عن أن العبادة هي الطاعة؟!!
بداهة لا يزال هناك الكثير من الآيات التي ذُكر فيها ع ب د, ولكن أعتقد أن فيما ذكرنا غناء عنها, وأرجو من الله أن أكون وُفقت في فهم الكلمة!
فإن كان من توفيق فمن الله وإن كان من خطأ فمني ومن الشيطان! ورحم الله عبداً نصح لأخيه!
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!
هناك فرق بين كلمة عبيد وعباد
فكلمة عبيد تعني الخضوع والطاعة والذل وهي لا تكون إلا يوم الحشر (وماربك بظلام للعبيد )
أما عباد فهي تعني إمكانية الطاعة أو المعصية فالدنيا
وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونآ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما )