سورة الصف والتوبيخ على يوم حنين

نواصل اليوم بفضل الله وعونه تناولنا لسور القرآن لنبين وحدتها الموضوعية والأجواء التي نزلت فيها, ونعرض اليوم بإذن الله الواحد الأحد الفرد الصمد لسورة الصف, فنقول

اختلفت كتب أسباب النزول في السورة, فقيل أنها مدنية وقيل أنها مكية وقيل بعضها وبعضها, واشتهر في سبب نزولها أن بعض أصحاب الرسول سألوا عن أحب الإعمال إلى الله (فلما كُتب عليهم القتال ثقل على بعضهم هذا) فأنزل الله يقول لهم: لم تقولون ما لا تفعلون.

ومن خلال نظري في السورة ظهر لي أنها مما نزل بعد فتح مكة, وتحديدا بعد غزوة حنين عندما انكشف المسلمون عندما أعجبتهم كثرتهم, (وهي السورة السابقة لسورة التوبة, ويظهر هذا جليا من النقاط المشتركة بين السورتين), وفي تلك الفترة كان الاستعداد لمحاربة القبائل العربية المرتدة (حروب الردة الأولى التي عرّفنا بها في تناولنا لسورة التوبة)

وكان بعض المنافقين يؤذون الرسول ويقولون هو أذن, فأنزل الله العزيز سورة الصف يلوم على المؤمنين قولهم ما لا يفعلون -من الثبات في نصرة الدين- ويأمرهم بأن يكونوا أنصار الله (وهو المحور الذي تدور السورة في فلكه) لأنه سيظهر دينه على الدين كله بهم أو بغيرهم, فليكن بهم حتى يكونوا من الفائزين.

والاتصال بين السورة والسورة الماضية جلي, ففي الممتحنة نُهي المؤمنون عن تولي الأعداء المحاربين في الدين, وهنا يلامون على تخاذلهم ويُستحثون على نصرة الدين بقتال هؤلاء الأعداء الذين حاربوهم في الدين.

كما نجد أن الممتحنة بدأت وخُتمت بنداء المؤمنين: “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ … يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ …”, وهنا كذلك بدأت السورة (بعد التسبيح) وخُتمت بنداء المؤمنين: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ …. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ …”, وعامة ففي كل واحدة من السورتين 3 نداءات للمؤمنين.

ونبدأ في تناول السورة لنبين كيف قدمت هذا التصور:
بدأت السورة بعد إعلان تسبيح كل ما في السماوات والأرض بلوم المؤمنين على قولهم ما لا يفعلون وإعلامهم بكبر مقت هذا عند الله, وأن الله يحب المقاتلين في سبيله كالبنيان, ثم يذكر المؤمنين بما تعرض له الأنبياء السابقون من التكذيب والإيذاء من أقوامهم فيذكر قول موسى لقومه ولومه إياهم على إيذاءه على الرغم من علمهم أنه رسول الله إليهم وكيف أن الله أزاغ الله قلوبهم لما زاغوا

(ومن ثم فلا ينبغي للمؤمنين الاشتراك في إيذاء الرسول بترديد أقوال المنافقين أنه أذن) وكيف بشر عيسى بالرسول وعلى الرغم من أنه جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)

ثم يبين الله عظمة جرم اليهود والنصارى الذين افتروا على الله الكذب فنسبوا إليه الولد (عزير والمسيح) وكيف أن الله متم نوره على الرغم من محاولتهم إطفاء نوره بأفواههم وأنه أرسل رسوله ليظهره على الدين كله وسيكون هذا لا محالة:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)

ثم تعود السورة لمخاطبة المؤمنين مستنفرة إياهم على القتال بألا يخشوا على أموال اقترفوها وتجارة يخشون كسادها ومساكن يرضونها, بأن الجهاد بالأموال والأنفس تجارة تنجي من عذاب اليم وتجلب مغفرة الذنوب وجنات وأنهار ومساكن وذلك هو الفوز العظيم وكذلك نصر الله وفتح قريب.

ثم تُختم السورة بنداء آخر للمؤمنين أن يكونوا أنصار الله كما قال عيسى للحواريين وكما ناصروه فأيدهم الله فأصبحوا ظاهرين*, فكما أظهرهم الله على أعداءهم سيظهركم كذلك عليهم:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)

وبعد أن بينا للقارئ الكريم الوحدة الموضوعية للسورة ندعوه لأن يعيد قراءتها مرة واحدة فسيرى تماسكها واتصالها وسيفتح الله عليه فيها ما لم نذكر نحن إنه هو الفتاح العليم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

_____________________
* تدفعني هذه الآية للتساؤل: هل قاتل المسيح عيسى عليه السلام هو والحواريون أعداءً فأظهرهم الله عليهم؟!!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

حول إنكار العقل الغربي ل “النظام الكبير”!!!

في إحدى اللقاءات المطولة على اليوتيوب عن اللغة وفلسفتها، ذكر المتحدث رأي دو سوسير، القائل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.