سأل الأخ محب الكتاب عن حقيقة التقوى ومدى انطباقها مع التعريفات التقليدية الموجودة في كتب التراث الإسلامية, لأنه وجد أن الأمر بالتقوى يُخاطب به المسلمون وغير المسلمين, فما هو التعريف والتصور الشامل لها؟!
فنقول وعلى الله الاتكال وبه ومنه الفتح والمدد:
للتقوى في التراث الإسلامي تعريفات وتصورات عديدة, أغلبها ربط التقوى بالله سبحانه وبعبادته, أي أنها ناتج عن الدين, فنجد التعريف المشهور عن الإمام علي بن أبي طالب: (( التقوى هي الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل ، والقناعة بالقليل ، والاستعداد ليوم الرحيل)).
ومن التعريفات المطروحة لها كذلك, ما قاله ابن عباس رضي الله عنه : المتقون الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدي ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به .
وكذلك تصور أبي الدرداء رضي الله عنه لها حيث قال :
تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة وحتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما يكون حجابا بينه وبين الحرام فإن الله قد بين للعباد الذي يصيرهم إليه فقال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ)
فلا! تحقرن شيئا من الخير أن تفعله ولا شيئا من الشر أن تتقيه.
وما قاله التابعي طلق بن حبيب رحمه الله :
التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله فمن رزق بعد ذلك خيرا فهو خير إلى خير.
وقال موسى بن أعين رحمه الله : المتقون تنزهوا عن أشياء من الحلال مخافة أن يقعوا في الحرام فسماهم الله متقين .
وهذه التعريفات السابقة لا تقوم على الجانب اللغوي ولا التأصيل القرآني وإنما اجتهاد في فهم الكلمة, أرجعها إلى الدين, إلا أنه ثمة تعريفات أخرى راعت الجانب اللغوي للكلمة, مثل ما روي عن أبي هريرة عندما سُئل عن التقوى فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: إذا رأيت الشوك عزلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه، قال: ذاك التقوى .
وهذا التعريف راعى الأصل اللغوي للكلمة بدون أن يربطها ربطاً مباشراً بالدين والعبادة, وغالباً ما تُفهم هذه الرواية على أن المراد من قول أبي هريرة أنه كان يقصد بالتقوى ترك المحرمات والتي شبهها بالشوك.
فإذا نظرنا في التصورات السابقة للتقوى وجدناها تدور في فلك الترك أي اجتناب المحرمات, بل والتورع بترك بعض الحلال حتى يكون ذلك الحلال المتروك حاجبا كمنطقة فاصلة له عن الحرام, وهذا التصور راجع إلى الأصل اللغوي للكلمة, والذي يدور في فلك الحماية أو الصيانة, كما نجد مثلاً في لسان العرب لابن منظور:
“وقاهُ اللهُ وَقْياً وَوِقايةً وواقِيةً: صانَه….. فَوقَى أَحَدُكم وجْهَه النارَ؛ وَقَيْتُ الشيء أَقِيه إذا صُنْتَه وسَتَرْتَه عن الأَذى، … وقوله في حديث معاذ: وتَوَقَّ كَرائَمَ أَموالِهم أَي تَجَنَّبْها ولا تأْخُذْها في الصدَقة لأَنها تَكرْمُ على أَصْحابها وتَعِزُّ، فخذ الوسَطَ لا العالي ولا التَّازِلَ، وتَوقَّى واتَّقى بمعنى؛ ومنه الحديث: تَبَقَّهْ وتوَقَّهْ أَي اسْتَبْقِ نَفْسك ولا تُعَرِّضْها للتَّلَف وتَحَرَّزْ من الآفات واتَّقِها؛ ….. ووقاه ما يَكْرَه ووقَّاه: حَماهُ منه، والتخفيف أَعلى.
وفي التنزيل العزيز: فوقاهُمُ الله شَرَّ ذلك اليومِ. ……….. ويقال: وقاكَ اللهُ شَرَّ فلان وِقايةً. وفي التنزيل العزيز: ما لهم من الله من واقٍ؛ أَي من دافِعٍ. ووقاه اللهُ وِقاية، بالكسر، أَي حَفِظَه.
والتَّوْقِيةُ: الكلاءة والحِفْظُ؛ قال: إِنَّ المُوَقَّى مِثلُ ما وقَّيْتُ وتَوَقَّى واتَّقى بمعنى.
وقد توَقَّيْتُ واتَّقَيْتُ الشيء وتَقَيْتُه أَتَّقِيه وأَتْقِيه تُقًى وتَقِيَّةً وتِقاء: حَذِرْتُه …… وفي الحديث: كنا إِذا احْمَرَّ البَأْسُ اتَّقَينا برسولِ الله، صلى الله عليه وسلم، أَي جعلناه وِقاية لنا من العَدُوّ قُدَّامَنا واسْتَقْبَلْنا العدوَّ به وقُمْنا خَلْفَه وِقاية. …….. ” اهـ
فالتقوى هي ما يحمي به الإنسان نفسه, وتدل على وجود ثلاثة أطراف حافظ ومحفوظ ومحفوظٍ منه, وتبعاً لهذا الأصل اللغوي وجدنا ابن رجب يعرفها في: جامع العلوم والحكم: أصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه.
ومن ثم اجتهد المجتهدون ما هو أفضل شيء يحمي به الإنسان نفسه, فرأى كثيرٌ أن الخوف من الله (الخوف من الجليل) هو أفضل ما يحمي به الإنسان نفسه, وهذا التصور هو الذي ساد حتى أن ترجمة “المتقين” في بعض اللغات مثل الألمانية أصبحت هي: “الخائفين من الإله > Gottesfürchtigen
إلا أن الناظر في القرآن يجد أنه يفرق بين الخوف/ الخشية والتقوى, فنجد الرب العليم يقول:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان : 33]
فالله يأمرنا بتقواه وبخشية اليوم الآخر ومن ثم فهذه غير تلك.
ومنهم من رأى أن طاعة الله هي أفضل ما يتخذه المرء واقياً, وهناك من أوجد لهذا أصلاً لغوياً قديما, فنجد في كتاب نشوء البيان:
في النقوش القديمة لجزيرة العرب جاء الأمر الملكي كفعل بصيغة (وقه). والإئتمار بصيغة (اتقه).وكاسم بصيغ مثل: قهت(قاهة/ قيهة) ، قهي،وقهة .
في كتاب النبي لأهل نجران: لا يحرك راهب عن رهبانيته ولا واقه عن وقاهيته .قال ابن بري:القاه مقلوب من الوقه.وفي اللسان الوقه الطاعة. وهذا غريب،فالقرآن يذكر الطاعة بكلمة (تقوى) (بوزن: تفعل/تفعال). كما أنها ترد في لسان العرب القديم (النقوش) بمعنى الأمر.ففعل وقه=أمر،وفعل إتقه=إإتمر.ومنها التقوى = الإئتمار والطاعة.” اهـ
إلا أن الناظر يجد أن الله فرّق كذلك بين الطاعة والتقوى, فنجده يقول:
وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور : 52]
فالطاعة غير الخشية وكلاهما غير التقوى, كما أنه لم يضعها كمقابل للإثم ولا للمعصية وإنما كمقابل للعدوان:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المجادلة : 9]“”
وهناك من دقق في الأصل اللغوي للكلمة وقال أن الوقاية قائمة على الحذر مثل ما كتبه: سجّاد حيدر مهدي في مجلة الفرات:
“يفترض الكثيرون أن التقوى من الوقاية ، والوقاية تعني الحذر والاحتراز والبعد والاجتناب ، فهي إذن سيرة عملية سلبية ، وكلما كان الحذر أكثر كانت التقوى أكمل! وعلى هذا التفسير تكون التقوى:
أولاً: أمراً منتزعاً عن السيرة العملية .
وثانياً: هي سيرة عملية سلبية لا إيجابية .
وثالثاً: كلما كانت سلبيتها أكثر كانت التقوى أكمل .
ولهذا نرى أن المتظاهرين بالتقوى يحذرون التدخل في أي عمل ، ويجتنبون كل رطب وجامد وحار وبارد ، حرصاً على سلامة تقواهم!
ولا شك أن الحذر والاجتناب هو من أصول الحياة للإنسان العاقل ، فإن الحياة لا تخلو عن مقارنة بين السلب والإيجاب والنفي والإثبات والفعل والترك والإقدام والإحجام .
وثانياً: إن مفهوم التقوى في نهج البلاغة لا يرادف كلمة الحذر (حسب المفهوم المنطقي للفظة الترادف ) فإن التقوى في نهج البلاغة: (قوة روحية تتولد للإنسان من التمرين العملي الذي يحصل من الحذر المعقول من الذنوب ) . فالحذر المعقول والمنطقي يكون مقدمة للحصول على هذه الحالة الروحية ، وهو – من ناحية أخرى – من لوازم حالة التقوى ونتائجها ” اهـ
وهذا التعريف وإن كان أكثر مراعاة للجانب اللغوي أكثر من السابق له, إلا أنه لم يعتمد التصور القرآني لها, ولقد حاول الأستاذ مصطفى إسلام أوغلو أن يقدم تصورا للتقوى مستخرجا من القرآن, فقال “أن “الوقاية والحذر” الواردين في تعاريف التقوى هما من المعاني التالية لها؛
لأنهما (الوقاية والحذر) ليسا سبب التقوى، وإنما نتيجتها. ولا بد أن يكون المعنى الأصلي للتقوى شيئا يتمخض عنه “الوقاية والحذر”، وهو الوعي.”
ثم خلص إلى أن التقوى هي الإحساس بالمسؤولية, فقال:
“إن العلاقة الوطيدة بين التقوى والمسؤولية تضع التقوى في موضعها الحقيق من حيث المعنى اللغوي والمفهومي. وعليه فإنه سيصبح من الممكن التمييز بين المؤمن الذي يتصرف “دون الشعور بالمسؤولية” والمؤمن الذي “يتصرف بالمسؤولية”.
إن أصغر التقوى هو المسؤولية تجاه أدنى مخلوق في الكون، بينما أكبرها المسؤولية تجاه الله العلي الكبير المتعال. “اهـ
(وبشكل عام فإن المقال طيب ويستحق القراءة وإن كنا لا نتفق معه في النتيجة النهائية)
فإذا نظرنا في القرآن لننظر هل تنطبق التعريفات التراثية للقرآن تنطبق مع الاستخدام القرآني لها, نجد في مبتدأ القرآن ما ينسف هذه التعريفات ويقول أنها غير صحيحة, فالتقوى لا ترتبط بالعبادة, والمتقون موجودون قبل وجود الدين الإسلامي في النسخة الأخيرة, فنجد الرب العليم يقول في ثاني آية في ثاني سورة:
ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [البقرة : 2]
فالمتقون موجودون قبل البعثة والكتاب وهو هدى لهم, وإن لم يكن الإنسان من المتقين فلن يكون الكتاب معه نفعاً, كما نجد أن الله تعالى يقول:
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً [مريم : 97]
فالقرآن بشرى للمتقين –الذين هم متقون قبل البعثة-, والذين كانوا أولياء المسجد الحرام –قبل البعثة-:
وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [الأنفال : 34]
والتقوى لا تعود إلى ما قبل الإسلام فقط, وإنما تعود إلى ما هو أقدم من ذلك وهو مبتدأ حياة الإنسان نفسه فهي مرتبطة بالقلب, فنجد الرب العليم يقول:
“وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس : 7-8]”
فالرب العليم بعد تسوية النفس مباشرة ألهمها الفجور والتقوى, ففي كل نفس قابلية متفاوتة للفجور والتقوى تختلف من شخص لآخر, والمفلح هو من تحمله هذه التقوى الملهمة من الرب على تزكية نفسه: ” قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا [الشمس : 9]” والخائب هو من يدسها.
واستناداً إلى هذه الآية يمكننا القول أن التقوى –بوضعها كمضاد للفجور, والذي يدل على الخروج المصادم: انفجار- وكمضاد للعدوان في آية سابقة, أنها ليست دالاً على سلوك بعينه وإنما هي اسم دال على المقابل للفجور والعدوان والذي يقوم على التضام والانسجام مع الذات والآخرين وتجنب صدامهم (المسالمة), فهذا المسلك المنسجم مع الحق يقي الإنسان الشرور والأضرار.
ونتذكر في هذا السياق كلمة “تقاوي” (البذور التي تُوضع في الأرض لاستنبات النبات), ونتذكر حديث النبي الكريم: “التقوى ها هنا التقوى ها هنا” ويشير إلى صدره الكريم.
ومن ثم يمكننا القول أن التقوى قبل أن تظهر كأفعال هي أصل/ بذرة الأخلاق الموجودة داخل الإنسان والتي تدفعه إلى الحفاظ على نفسه وحياته, والتي تدفعه –بغض النظر عن وجود دين من عدمه- إلى فعل الحسن/ الخير, واجتناب القبيح/ الشر والمهلكات,
ويؤكد هذا قوله سبحانه وتعالى وجل وعظم: “وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر : 33]“
ويمكننا القول أن التعبير المعاصر “أصحاب الضمائر/ الضمير” هو أقرب ما يكون ل: “المتقين/ التقوى”, إن لم يكن متطابقاً.
وبهذا نفهم كيف خوطب الناس بالتقوى –ومنهم غير المؤمن- لأنها شيء موجود في داخل كل إنسان, فالطبيعي أن يلام المرء على مخالفة ضميره ويؤمر بإتباعه. ومن ثم فهناك متقون غير مؤمنين –إلا أنهم لم يسمعوا عن الكتاب أو سمعوا عنه سماعاً مشوها-, يسيرون تبعاً للحق الذي يمليه عليهم ضميرهم.
ومن ثم فالتقوى ليست أمراً سلبياً قائماً على التجنب وإنما هي قائمة على الفعل والترك, كلٌ في سياقه وتبعاً لمقتضاه.
إلا أنه ينبغي على الإنسان أن يمدح نفسه ويزكيها ويقول أنه من المتقين, فهذا في القلب والله وحده يعلم هذا:
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم : 32]
وحتى نوضح العلاقة بين التقوى وهذا المسلك نقول: التقوى مأخوذة من الوقاية, إلا أنها لم ترد بوزنها الأصلي مثل المذكور في الآية القادمة:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ …[التحريم : 6]”,
وإنما بصيغة التفعل وهي تدل على تغير وجهة الفعل, فبعد أن كانت تدل بشكلها الأصلي على وقاية طرف من شيء, أصبحت تدل على وقاية اتخاذ طرف ثالث للوقاية, ومن ثم يُنتظر أن يظهر هذا الطرف الثالث مجرورا بالباء, وهذا ما وجدناه فعلاً في بعض الآيات مثل قول الرب العليم:
” أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر : 24]”
ومثل ما روي عن الإمام علي رضي الله عنه عن الرسول الكريم في الحروب: “كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله فلم يكن أحد منا أقرب إلى العدو منه”.
فهناك متقي ومتقى به ومتقى منه, إلا أن الناظر يجد أن آيات التقوى والتي ذكرت “المتقين” والتقوى لم يُذكر فيها المتقى به, وذلك لأن المتقى به مفهوم معروف, وهو السلوك الواقي المحافظ النابع من بذرة التقوى المغروسة في داخل كل إنسان, وهذا السلوك يمثل أو يكون لباساً للملتزم به:
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف : 26]
وهذا اللباس يقي الإنسان, بينما الكافرون وغير المتقين ليس لهم هذا اللباس ومن ثم فلا واقٍ لهم من الله:
لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ [الرعد : 34]
أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ [غافر : 21]
لذا فلا حاجة عند الحديث عن التقوى بمعناها العام الأصلي لذكر المتقى به, فلا حاجة لأن يقال مثلاً: أفمن يتقي الله بأخلاقه أو بأفعاله المحافظة عليه أو النابعة من ضميره الأخلاقي والتي لا تخالف الحق,
وإنما يذكر الفعل والمتقى.
ولأن الضمير وحده لا يكفي للوصول إلى الحكم الصحيح في كل المسائل فإن الله تعالى أنزل الكتب التي تُعلم الناس الصواب في هذه المسائل, والتي تنسجم مع البذرة الموجودة في قلوبهم, فإذا عبد الله الإنسان وخضع الله حقق الانسجام والتوافق الأكبر مع الذات:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة : 21]
وإذا اتبع باقي التعاليم تحققت التقوى كذلك:
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة : 63]
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة : 179]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة : 183]
وفي الختام نقول:
إن الله غرس داخل كل إنسان ما يدفعه للحفاظ على ذاته بما يجنبه الهلاك والأضرار, فعلى المرء ألا تكون تقواه للأضرار المادية المباشرة المنظورة, وإنما تكون تقواه الكبرى لمن يستحق وهو الله تعالى, وتكون بعمل الخير وإتباع الأمر.
والله أعلى وأعلم
شاهد أيضاً
إستعاذة من إحباط الأعمال
سبحان الله الملكسبحان ربنا المدبرسبحان العلي الحكيمسبحان الرحمن الآمر بالقسطسبحان ذي الجلال والجبروتوالعزة والسلطان والملكوت …