حديثنا اليوم بإذن الله وعونه عن آية من أشهر الآيات, التي يُضرب بها المثل على جواز استعمال ضمير العاقل مع غير العاقل, وكذلك اسم الموصول: من, مع غير العاقل!
والآية هي قوله تعالى:
“وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُممَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [النور : 45]”
ولقد فهم السادة المفسرون الآية على أن الله تعالى يتحدث عن أصناف الحيوانات, وعن طرق مشيها!
ولكن هذا الفهم أظهر إشكاليات كبرى, لأنه لا يتطابق مع منطوق كلمات الآية, مما اضطرهم إلى فهم الآية على غير ما هي عليه! حتى يصبح فهمهم فهما صحيحا!
ونعرض للقارئ ما ذكره الإمام الفخر الرازي عند تناوله هذه الآية, حيث قال:
“السؤال الثالث: قوله: “فَمِنْهُمْ” ضمير العقلاء وكذلك قوله: “مَّن” فلم استعمله في غير العقلاء؟
والجواب: أنه تعالى ذكر ما لا يعقل مع من يعقل وهم الملائكة والإنس والجن (!!!) فغلب اللفظ اللائق بمن يعقل، لأن جعل الشريف أصلاً والخسيس تبعاً أولى من العكس، ويقال في الكلام: من المقبلان؟ لرجل وبعير.
السؤال الرابع: لم سمى الزحف على البطن مشياً؟ ويبين صحة هذا السؤال أن الصبي قد يوصف بأنه يحبو ولا يقال إنه يمشي, وإن زحف على حد ما تزحف الحية؟
والجواب: هذا على سبيل الاستعارة كما قالوا في الأمر المستمر قد مشى هذا الأمر، ويقال فلان لا يتمشى له أمر أو على طريق المشاكلة ( لذلك ) الزاحف مع الماشين.
السؤال الخامس: أنه لم يستوف القسمة لأنا نجد ما يمشي على أكثر من أربع مثال العناكب والعقارب والرتيلات بل مثل الحيوان الذي له أربعة وأربعون رجلاً الذي يسمى دخال الأذن.
والجواب: القسم الذي ذكرتم كالنادر فكان ملحقاً بالعدم. اهـ
وكما رأى القارئ فلقد أتى الإمام الفخر الرازي بتبريرات, لكي يجعل فهمهم فهما صحيحا, فجعل الإنس والجن والملائكة من الدواب! والإنس وإن كان من الممكن إدخاله تحت الدواب بشكل أو بآخر! إلا أن الملائكة والجن ليسوا من الدواب بحال, والقرآن يفصل دوما بينهما,
.ومن ذلك قوله تعالى:
“وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ [النحل : 49]”
ثم من قال للإمام الفخر الرازي أن الملائكة النورانية تدب, حتى يدخلها تحت الدواب؟!!
وأما قوله: يقال في الكلام: من المقبلان؟ لرجل وبعير.
فعلى فرض وجود هذا الكلام من العرب, وأنه ليس من اختراعات النحاة, فهو مثال غير صحيح! وليس كل ما قاله العرب صحيح, فكما نخطأ فإن بعضهم يخطأ, اللهم إلا إذا أعطينا كل عربي حصانة ضد اللحن!
في مثل هذا الموقف لا أحتاج إلى أكثر من قولي: من المقبل؟ فهذا سؤال عام, يدخل تحته الفرد والجمع!
ثم جعل الإمام الفخر الرازي مسألة المشي على البطن من باب الاستعارة! ثم انتبه إلى وجود أصناف أخرى لم تستوفها القسمة, وبرر ذلك كذلك!
فإذا تركنا ما قاله المفسرون مخالفين كتاب الله وجارين له لأفهامهم, وحاولنا أن نفهم الآية كما هي, فسنخرج بتصور مخالف تماما!
ولقد فات المفسرين, بخلاف النقاط التي لاحظوها وحاولوا تجاوزها, مسألة هامة, وهذه النقطة سيكون لها دور في فهم الآية, وهي قوله تعالى: “يمشي على”, فلقد فهموها قاطبة على أنها بمعنى: “يمشي ب”, فعندما قال الله تعالى: يمشي على بطنه, فمعناها عندهم: يمشي ببطنه (يزحف) ويمشي على رجلين: يمشي بهما, ويمشي على أربع أي يمشي بأربع أرجل!
(لاحظ أن الله تعالى لم يذكر: أرجل! وإنما أضافها المفسرون استنباطا من ذكر: رجلين, قبلها! ولكن الملاحظ أن الله تعالى ذكر قبل ذلك: البطن, وفي غير هذه السورة ذكر المشي على الوجه!)
وهناك فارق كبير بين ما يمشي به الإنسان, وبين ما يمشي عليه! فالإنسان يمشي ب رجله على الشيء وفيه!
وهذا الاستعمال صريح في القرآن, فنجد الله تعالى يقول:
“أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ [الأعراف : 195]”
فالله يتكلم عن المشي ب الأرجل, بينما يتحدث عن المشي في الأسواق والمساكن:
“أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى [طه : 128]”
وهناك مشي على الشيء, مثل الأرض:
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً [الفرقان : 63]
وهناك تبيان للحالة التي يكون عليها الماشي, وفي هذه الحالة يُستعمل حرف الجر “على” كذلك, ومن ذلك قوله تعالى:
“فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص : 25]”
فهي تمشي على استحياء, أي أنها كانت في حالة حياء.
وكذلك قوله تعالى:
“أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الملك : 22]”
نجد فيه مقابلة بين من يمشي مكبا على وجهه, وبين من يمشي سويا على صراط, فهذا كل نظره وتفكيره في الأرض والشهوات, حائر لا يعرف طريقا فيتجه متخبطا إلى أي مكان, وذاك يمشي سويا على صراط مستقيم, يعرف غايته ووجهته.
فإذا عدنا إلى الآية وجدنا أن الله يتحدث عن مشي على, وليس عن: مشي ب, ولا يجوز لنا بأي حال, أن نقول أن هذا مساو لذاك! كما لا يجوز أن نقول أن ضمير العاقل يستعمل مع غير العاقل, كما لا يجوز أن نقول أن الزحف يسمى مشيا!
وهنا يتسائل القارئ: وكيف نفهم الآية إذن؟
نقول: إذا نظرنا في السياق, ظهر لنا المعنى المراد من الآية, ونعرض للقارئ الكريم الآيتين السابقتين والآية اللاحقة لهذه الآية:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [النور : 43-46]
فكما رأينا فالآيات تدور في فلك الحديث عن تنوع فعل وخلق الله, فالله تعالى يزجي السحاب وينزل البرد من السماء, إلى من يشاء, ويقلب الليل والنهار, وأن في فعله هذا عبرة, وأنه خلق كل دابة من ماء (وليس المراد أنه خلق كل الدواب من الماء, وإنما أنه خلق كل دابة من نوع من الماء خاص بها) وأنه يخلق ما يشاء, وأنه على كل شيء قدير.
وبين الحديث عن خلق الدواب من الماء وقدرة الله, جاء الحديث اعتراضا عن أحوال البشر -المذكورين سابقا- المعرضين عن الوحي, فكما اختلفت الدواب لاختلاف الماء, اختلفت أحوال البشر ومساعيهم, لحيرتهم بدون الوحي, وكيف أنهم أقرب ما يكونون إلى فعل الدواب, فذكر الله تعالى أن منهم من يمشي على بطنه, معتمدا على بطنه, وما يمده به الطعام, فكل سعيه عليها ولها.
ومنهم من يمشي (معتمدا/مستندا) على رجلين, كما نقول: على عكازين! ونلاحظ أن الله تعالى لم يقل: يمشي على رجليه!
والرجل تدل أصلا على الحركة والسعي والنشاط, لذلك سُمي الرجل رجلا! ومن ذلك قولنا: العمل يجري على قدم وساق! إشارة إلى حدوثه على أفضل شكل وبسرعة كبيرة.
فيكون قول الله تعالى: “يمشي على رجلين”, لا يعني أنه يمشي بهما, وإنما إشارة إلى إلى الإسراع أو النشاط!
(ولا يُستعمل: المشي, في القرآن إلا مع العاقل: البشر أو الملائكة, لأنه حركة موجهة بقصد)
ومنهم من يمشي على أربع! إشارة إلى الحيرة والتشتت, وتنقله من حال إلى أخرى. ثم يبين الله تعالى أنه أنزل آيات بينات, وأنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم, فيمشي عليه سويا, ويخرج مما كان فيه.
ونحن لا نجزم بالإشارات التي استخرجناها, من أن المراد من المشي على البطن هو إشارة إلى كذا والمشي على رجلين أو على أربع إشارة إلى كذا أو كذا, ولكنا قدمنا تصورا ظهر لنا, وندعو القارئ إلى التفكر في هذه الأحوال, فلربما يستخرج علاقات وتشبيهات, لم تظهر لنا.
وبهذا نكون قد فهمنا الآية كما هي, بدون لي لألفاظها, ولا استعمالها في غير ما وُضعت له, وقدمنا فهما جديدا, يحمل تصورات بديعة.
غفر الله لنا ولكم, والسلام عليكم ورحمة الله.