سورة الجاثية والأمر بالمغفرة

نواصل بفضل الله وفتحه تناولنا لسور المرحلة المدنية لنبين ترتيب نزولها ومناسبات نزولها, ونعرض اليوم لسورة الجاثية فنقول:

سورة الجاثية من السور التي قالت كتب أسباب النزول أنها مكية باستثناء الآية الرابعة عشر فمدنية, أما نحن فتبعا لتأصيلنا القائل بنزول كل سور كاملة غير مستثنى منها آيات وتبعا لنظرنا في السورة فإننا نقول أن سورة الجاثية مدنية, وهي التاسعة في ترتيب النزول في المدينة بعد لقمان!

والتي عرض الله تعالى فيها موقف من يستهزأ بآيات الله استكباراً ويشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله, ورد فيها كذلك على منكري اليوم الآخر.

وبعد سورة لقمان حدث أن اعتدى بعض المسلمين على هؤلاء معاقبة لهم على استهزائهم بآيات الله, وزُين للرسول القضاء بين أهل الكتاب المختلفين (اعتمادا على ما معه من الكتاب)

فأنزل الله سبحانه وتعالى سورة الجاثية مواصلةً الرد على منكري البعث وتوعد المستهزئين بآيات الله, وذكرت اعتراضاً إضافياً لهم وهو زعمهم أن الموت والحياة “أفعال طبيعية” للدهر, وليسوا جزاء رباني تبعاً لأفعال الناس, قائلة أنه سبحانه جزاءه عادل (وهو المحور الرئيس الذي تدور السورة في فلكه) وهو لن يجازي الناس بدون سبق إنذار

فالآيات الكونية الدالة على الجزاء والحساب والبعث كثيرة, والكتاب أنزل كذلك, إلا أنها لن تجدي مع من اتخذ إلهه هواه)
ومن ثم فلا يستوي من آمن بآيات الله وعمل صالحا بمن استهزأ بها واجترح السيئات واتخذ إلهه هواه, لا في المحيا ولا في الممات. ولذلك فليغفر المسلمون للمستهزئين الذين لا يرجون أيام الله (وهذا يعني أن المؤمنين أصبحوا أصحاب قوة يُطلب إليهم أن يعفو ويصفحوا, وهو ما لا يُتصور بحال في مكة, لذا قالوا بمدنية هذه الآية كمهرب!) ويتركوا مسألة العقاب والقضاء بين المختلفين لله فالذي سيجزي ويقضي بين الناس بالعدل هو الله في الآخرة.

ونبدأ في تقديم تناول تفصيلي للسورة, فنقول:
كما خُتمت سورة لقمان بالحديث عن آيات الله تبدأ سورة الجاثية بذكر طرفاً من آيات الله في الكون حول الناس وكيف أنها حجة بذاتها للمؤمنين ولمن يوقن ويعقل, (في الخلق المتجدد أمامهم وبث الدواب آيات على الإحياء والبعث واليوم الآخر, وكذلك اختلاف الليل والنهار (اليوم ليس ثابتاً, وجود شكل آخر)… إنزال الماء في مكان فإحياءه, تصريف الرياح وتغيير اتجاهها فتأتي بالخير أو التلطيف) والله يتلوها عليهم في كتابه فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون؟ (أم أنهم يريدون لهو الحديث ليؤمنوا؟!!)

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)

ثم يتوعد الله ذلك الذي يفتري الإفك ويصر مستكبرا رغما عن أنه يسمع آيات الله (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [لقمان : 7]) مؤكداً ما ورد في لقمان, وذاكرا نعمه عليه مثل تسخير البحر لتجري الفلك فيه (تذكر الحديث عن الفلك في آخر لقمان) وأنه سخر لهم ما في السماوات وما في الأرض (والتي لم تُذكر إلا في هاتين السورتين), ويطلب إلى المؤمنين المغفرة فالحساب عند الله في الآخرة:

-وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)- اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)

ثم يبين الله أن المسألة ليست مسألة قلة علم أو آيات فلقد أوتي بنو إسرائيل ما أوتوا وفضلوا ولم يحدث اختلافهم إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا, (فلا تتضايق ممن يستكبر على الاستجابة لآيات الله) وربك هو من سيقضي بينهم يوم القيامة في اختلافاتهم, ثم جُعلت على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (والحديث عن جعل الرسول على شريعة من الأمر, ومخاطبته باتباعها وعدم اتباع أهواء الذين لا يعلمون, ناهيك عن الحديث عمن أضله الله على علم مؤكد إضافي على مدنية السورة).

ونلاحظ استمرار استخدام المفردات: الظالمين, الهدى والرحمة, يوقنون, والتركيز على مسألة الهوى والمذكورة في السورة السابقة:

وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)

ثم يبين الله أن عدله لا يتفق مع جعل دنيا بلا آخرة فيها حساب, حيث سيتساوى المحسن مع المسيئ! ويرد الله على من ينكرون الآخرة, فهو الذي يحييهم, ومن يحيي مرة يحيى ألف مرة!! وأنهم في ذلك اليوم خاسرون:

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)

وفي ذلك اليوم ترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها فيجزون بالعدل ما كانوا يعملون, فالكتاب ينطق عليهم بالحق, فلقد كان يُستنسخ ما كانوا يعملون فلا زيادة ولا نقصان, (تذكر التركيز على علم الله في سورة لقمان: يا بني إنها إن تك مثقال حبة … إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا, وهنا الكتاب ينطق عليهم بالحق)
فالمؤمنون يدخلون رحمة الله, ويُبكت الكافرون على استكبارهم وعلى إنكارهم يقينية الساعة وكان ردهم إذا قيل إن وعد الله حق بالقول أنهم يظنون!
(وهو ما قيل وذكر في السورتين الماضيتين: الروم ولقمان) وحاق بهم ما كانوا يستهزئون, وقيل لهم أنهم ينسون كما نسوا لقاء يومهم هذا ومأواهم النار بلا نصير لاتخاذ آيات الله هزوا واغترارهم بالحياة الدنيا,
ونلاحظ أن السورة خُتمت بتوعد المستكبرين والمستهزئين بآيات الله كما بدأت بها

وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)

ثم تُختم السورة بالقول أن الحمد لله الرب وحده, وأن له الكبرياء (بينما لا يحق لأولئك أن يستكبروا) ثم تُختم آخر آية بما خُتمت به أول آية بعد حم: العزيز الحكيم.

فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
وكالعادة ندعو القارئ أن يعيد قراءة السورة تبعا لهذا المنظور الجديد فسيرى بنفسه تماسكها واتصالها! كما ندعوه أن يفتح سورة لقمان ليقرأها ثم يقرأ الجاثية بعدها وسيبصر بعينها التواصل والاتصال بينهما!

غفر الله لنا الزلل والخلل والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نقد رفض التعقل

من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.