لماذا نحيى؟!

نتناول اليوم بإذن الله وعونه السؤال التالي للسؤال الذي طرحناه سابقا, وهو: لماذا (يجب أن) نحيى؟
وهذا السؤال قريب من السؤال السابق: لماذا وجدنا, ومتداخل معه في بعض الجزئيات, إلا أن نطاقه هو النطاق التالي له, وليس نفس النطاق. ونبدأ باسم الله وعونه وعليه الاتكال:

هل يحيى الإنسان ليأكل ويشرب ويمارس الجنس؟
إذا كانت الإجابة بنعم, فهذا يعني أنه حيوان, لا أكثر ولا أقل! وإذا كانت بلا, بل لأهداف أخرى أرقى من ذلك, يبقى السؤال كما هو.
وترتبط إجابة هذا السؤال بنفس المنظور المطروح مسبقا: هل الإنسان مخلوق أم موجود صدفة؟

فإذا كان الإنسان من المؤمنين بالصدفوية, فستكون إجابته بالنفي, فلا يجب على الإنسان أن يحيى, ويمكنه أن ينهي حياته في اللحظة التي يشاء! فعبثا وُجد, فما من مبرر للكدح وذوق الصعاب, وإذا عاشها فليحاول أن يتمتع قدر الإمكان بملذات الحياة, فما أجمل هذه الصدفة التي وفرت له هذه اللذائذ!

أما إذا كان الإنسان من المؤمنين بالخلق, فهو يؤمن بأن الجنس البشري والكون كله في رحلة إلى الله عزوجل, ولا بد أن يأخذ دوره في هذه الرحلة مستلما عجلة القيادة من الأجيال السابقة, موجها نفسه أولا والقطيع البشري ثانيا إلى حيث ما أراد الله عزوجل.

يؤمن المؤمن أن حياته هذه هي مرحلة اختبار وليست هي حياته كلها, وأن هناك حياة أخرى بعدها سيُقيم الإنسان تبعا لما قام به, فإما أن يُجازى أو يُعاقب, لذا فليس لديه الخيار في إنهاء حياته في أي لحظة كانت, لأن هذه الفعلة تعد جرما كبيرا يؤدي به إلا الخسران في الحياة الأخرى الطويلة.

نعم, هناك بعض الملاحدة وغير المسلمين, يؤمنون بأهمية تواصل الأجيال وبضرورة فعل الخير, وأن هذا هو الهدف والغاية لحياة الإنسان, ولكن هذا الإلزام ما هو إلا إلزام ذاتي, قد ينخلع منه الإنسان في أي لحظة, لأسباب عديدة منطقية, وليس لمجرد خاطرة تمر بذهنه, فقد يفني الإنسان عمره في مساعدة بعض الأصدقاء, ثم يكتشف خيانتهم له! أو يؤمن بقضيةٍ ما أشد الإيمان, ثم لا يفلح في فعل أي شيء من أجلها, أو يؤمن بمذهب من المذاهب ثم يجده ينهار أمامه, أو يُعجب أشد الإعجاب بفنان ما!!!!!!!!!!!!!!! ثم يموت هذا الفنان في حادث ما,
مناظر الحروب والتقتيل المروع التي يجريها الإنسان ضد أخيه الإنسان! المجاعات التي تنزل بمئات الملايين من البشر, بينما آخرون يسبحون في أنهار من الخمور! ….. إلخ الاحتمالات التي تصيب بالهم والحزن, فيحزن ويجزع لذلك جزعا شديدا قد يدفعه إلى الانتحار!

وستعطيه نفسه من الأسباب والدوافع التي تجعله يقبل على هذا الفعل! فالحياة لم تعد لها أي معنى! ما فائدتك في الحياة, ألم تخفق في رسالتك, ألم يخنك أعز أصدقائك, ألا يسيطر الظلم والفوضى على العالم؟ ألا يسقط القتلى بالملايين, لماذا نستمر في هذا العالم الظالم؟!

فلتنتهي تلك الحياة القبيحة المظلمة, بالنسبة لي على الأقل, وأرتاح من هذه المصاعب والمشاق.
وهكذا يقدم الأحمق على قتل نفسه ليرتاح, ثم تكون المفاجأة الكبرى, ولمثل هذا الأحمق نذكر قول الإمام علي رضي الله عنه:
ولو أنا إذا متنا تركنا *** لكان الموت غاية كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا *** ونسأل بعد ذا عن كل شي

وفعل هذا المنتحر هو عين المنطق, فهو يصفو للحياة ويقبل عليها ويلتذ بها, ما دامت مقبلة عليه, فالحياة جميلة مليئة باللذائذ, فإذا أعطته ظهرها وبدأت المكادر والصعاب وتوالت وكثرت, فلم يستمر فيها, فليكتفي بهذا القدر من الحياة! وليكن شجاعا وينهي حياته في الوقت المناسب –كما دعا نيتشه إلى ذلك ولم يجرؤ على الفعل-.

أما الإنسان المؤمن فهو يقبل على الحياة ويتمتع بها بالتوازي مع عمله من أجل تحسين المجتمع ومساعدة الآخرين, وإيجاد درجة راقية من التحضر يتسلمها الجيل التالي فيبني عليها. فإذا قابلته مصاعب –كثرت أو قلت- فهو يعلم أن هذا من الابتلاء الذي لا بد أن يُبتلى به الإنسان في حياته, وبتجاوزه هذا الابتلاء يحصل على درجات عُلى في الآخرة عند الله عزوجل, ويزداد قوة في دنياه.

ويتميز المؤمن عن غيره بامتلاكه سلاح لا يملكه الآخر وهو الدعاء والتوكل, فهو يدعو إله الكون ومالكه ومصرفه ويتوكل عليه, لكي يصرف له أموره بالوجه الذي يريد, أما غير المؤمن فلا يعتمد إلا على ساعده, فإذا خذله أيقن أن لا نصير له في الدنيا.

وفي نهاية هذا المقال نقول: يحيى المؤمن لأن الله كتب عليه ذلك, وكتب عليه في الحياة أمورا عليه أن يقوم بها, ولا أعرف حقا لماذا يستمر الملحد في الحياة الكريهة الأليمة!

ولا يقتصر الأمر على الحياة والموت, حتى لا يقول بعضهم: أنت جد متشائم, فالمسألة ليست دوما حياة أو موت, هناك مراحل كثيرة قبل هذه المرحلة!

نقول: نعم, لا يصل الأمر دوما إلى هذه المرحلة, وهناك الكثير من الجبناء الذين لا يقدرون على أن يخطوا هذه الخطوة, ولكن بدون إيمان تبقى الحياة عبثية قد يضيعها الإنسان الذي يستمر فيها, يتنقل من عبث إلى عبث!

فعلى سبيل المثال نجد من يقوم باللعب بالكرة في الهواء لمدة تزيد عن اليوم الكامل بدون أن تسقط على الأرض!
ومن يحبس نفسه في مكان ما لمدة تزيد عن الأربعين يوما, بدون طعام ولا شراب ولا حراك!
ومن يقوم بكثير من المخاطرات, والتي قد تؤدي إلى إيقاع عظيم الأذى بجسده, قد يسبب له إعاقات مستمرة!
وقد …. وقد ….

وهذا ما لا نجده مع الإنسان المؤمن, الذي يعرف أنه سيحاسب عن عمره فيما أفناه, وعن جسده لم أضره, فلا يقدم على مثل هذه الحماقات!

يضاف إلى ذلك أن الإنسان المؤمن مقيد, فلا يجد الفرصة للقيام بمثل هذه الحماقات إلا في حدود ساعات, فهو ملزم
بالصلاة في أوقات محددة في كل يوم, ومن ثم فلا يمكنه أن يظل يعبث يوما أو يزيد لمجرد القيام بفعل غريب, لا ينفع الناس شيئا, ولا يستفيدون منه إلا سماع أو قراءة خبر عجيب أن فلانا فعل كذا وكذا! ولا يستطيع أن يحبس نفسه ويعطل قدراته لمدة طويلة لنفس السبب!

أما هؤلاء فيستطيعون, لأنهم حياتهم عبثية لا هدف ولا غاية فيها, وهم أحرار, يفعلون ما يحلو لهم, يضيعونها أو يستغلونها أو يشوهونها, فما من مسؤولية تقع على أكتافهم!

وعلى ذلك فقس عزيزي القارئ في باقي مواقف الحياة, لتفهم مسلك وتصرف الملاحدة والغربيين, لتعلم لم يتصرفوا بهذا الشكل ولتعرف الفارق بين الحياتين!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

الإنسان ليس مجبرا

جاءني سؤال يقول:هل الانسان مجبر عن البحث عن حقيقة الكون والغاية من الحياة، فقد يقول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.