من أشهر المقولات التي قالها السيد المسيح في الإنجيل قوله: “جيلٌ شريرٌ وفاسقٌ يطلب آية”, والتي رد بها على قوم من الكتبة والفريسين الذين طالبوه لكي يؤمنوا ب: “يَا مُعَلِّمُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً”.
ولم يكن حال هؤلاء مع المسيح استثناء, فدوما ما تطالب الأقوام بآية ليؤمنوا! –وغالباً ما يُرفض طلبهم, أو يُعطوا بخلاف ما يسألون!!
والشاهد أن هؤلاء الأقوام يطلبون الآية من النبي لسبب ما, وهذا الطلب فيه وجه من المنطق!! ولكن العجب كل العجب هو فيمن يُفترض أنهم مسلمون, ورغماً عن هذا تجدهم يطلبون من ربهم آيات كبيرات, تصل إلى حد التلاعب بالنظام الكوني!!
وذلك لظنهم أنه لا حدود للدعاء, فيجوز –أو حتى ينبغي- للمسلم أن يدعو ربه بكل ما تمنيه به نفسه! ولا يخطر ببالهم أن هذه الأدعية –قد تكون- من إساءة الأدب مع الله!
فتجد المسلمين يدعون ربهم أن يزلزل الأرض من تحت أقدام عدوهم, وأن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر وأن يهلك الظالمين بالظالمين ويخرجنا من بينهم سالمين وأن يصب عليهم العذاب صبا وأن يحصهم عددا ويقتلهم بددا ولا يغادر منهم أحدا!!
الخ تلك الأدعية التي تبين درجة العجز المتدنية التي وصل إليها المسلمون, والسلبية والاستسلام التي تمكنت منهم! لأسباب عدة مثل سيادة الفكر الصوفي القائم على فهمٍ سقيم للتوكل!!
والذي بدلاً من أن يطلب من الله أن يعينه أو يعلمه يطلب من الله أن يفعل له لأنه “عاجز” لا يحسن العمل! (ولا أنكر أني كنت -لفترة طويلة- أبدأ خطبتي ب: اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أو أقل, وأدعو ب: اللهم دبر لنا فإننا لا نحسن التدبير!!)
وأبحث في أدعية الرسول والصحابة فلا أجد أي أثر لأدعية العجزة المتطاولين هذه!! وأقارن بين ما رُوي عن سعد بن أبي وقاص -في المعجم الكبير للطبراني- عن أنه: “... يَوْمَ بَدْرٍ كُنْتُ أَرْمِي بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَضَعُ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، أَقُولُ: اللَّهُمَّ زَلْزِلْ أَقْدَامَهُمْ، وَأَرْعِبْ قُلُوبَهُمْ”, بين المسلم الفاعل الذي يطلب المدد والنصر والتثبيت, وبين العاجز الذي يطلب “معجزة” فأجد أن البون شاسع!
وهكذا خرج المسلمون –أو كادوا- من معادلة التأثير, وأصبح دورهم هو “مشاهد الأحداث” السلبي! والذي كل ردة فعله تجاه ما يمر به هو أن يدعو يجتهد ويتفنن في تفخيم وتضخيم الدعاء ورفع صوته حتى يبح في الدعاء والتأمين!! ثم يعود إلى بيته وحياته ظاناً أنه قد فعل ما عليه تجاه أمته!!
المشكلة أن المسلمين ينظرون دوماً إلى الآيات التي أجراها الله للأنبياء, مثل أن الله أهلك أبرهة وجيشه وشق البحر لموسى ومن ومعه ونجّى إبراهيم من النار .. الخ! ويتطلعون إلى أن يُقدم لهم مثلها! وبغض النظر عن أن هؤلاء أنبياء هم غاية الصلاح وهم أنفسهم لم يطلبوا يوماً “آية/ معجزة” من الله وإنما أُعطيت لهم كرماً من الله!
فإن الخلل هو أن المسلمين ينظرون إلى المشهد من آخره, وينسون كل المشاهد السابقة, ومن ثم لا يلاحظون سنن الله في “الإنجاء والإهلاك”! وأنه لا بد من حضور هذه السنن في المشهد وبدونها لن يكون هناك إنجاء أو إهلاك!
فسنة الله في الإنجاء مثلاً هو أن الله ينجي الأقوام ب “المصلحين المحيين”, فالأمة الميتة لا تستحق النجاة ولكي تنجو لا بد أن تحيى أولاً, ومن ثم يبعث الله فيها من يحييها,
وقصة سيدنا موسى في سورة القصص خير مثال على هذا, فبعد أن بيّن الله كيف أن فرعون كان يفسد ويذبح ويستحيي, قال أنه يريد أن يمن على الذين استضعفوا في الأرض ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين, فكيف يفعل الله هذا؟ تبدأ القصة بقوله: “وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7]“,
فالله يُعد فرداً سيكون هو نجاة هذه الأمة! وستظل هذه الأمة عشرات السنين على ما هي عليه, حتى يخرج فيها من يحييها … فتنجو! وحتى تصبح قوة تستحق أن تواجه الظالمين فيُهلكوا!! فالله لن يهلك الظالمين من أجل … موتى!!
ولا يقتصر الأمر على سيدنا موسى, فالله نجى باقي الأقوام بالأنبياء الذين بعثهم فيهم, (وينجي باقي الأمم بالمصلحين الذين يخرجون فيها فيحاربون الظلم والطغيان والفساد), وعندما تتأزم الأمور, وبعد أن يكون العبد قد بذل قصارى جهده ولم يعد يمكنه أن يقدم أكثر ووصل إلى طريق مسدود, فهنا -قد- يأتي العون الإضافي من الله, فينشق اليم إنجاءً للمؤمنين!
ختاماً أقول: طالما أننا أمة تطلب “المعجزات” فلن تفعلها وستظل عاجزة, بينما لو استكشفنا سنن الله حولنا –وفي كتابه- وآمنا بها وعملنا بها –وتوكلنا على الله-, فسنصبح ذلك الجيل الذي يصنع المعجزات!