إشكالية التفسير

وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الفرقان : 30]

لم يقتصر هجر القرآن على قوم الرسول, وإنما تعداه وبكل أسف إلى أمته, فأصبح القرآن مهجوراً طيلة العام, يعلوه التراب في الخزائن, حتى إذا ما جاء شهر رمضان, بدأت الأسر في إخراج مخزونها من المصاحف, ليأخذ كل فرد مصحف يقرأ منه في شهر رمضان ثم يعود إلى سابق وضعه وعهده!
فلماذا هذا الهجران؟!
لماذا ليس للقرآن تواجدٌ وتأثير في حياة المسلمين كما لكتب الأحاديث ولكتب الفقه؟!

تأتي الإجابة المؤلمة بأن ذلك راجع إلى القناعة التي ترسخت عند كثير من المسلمين بأنهم لن يستطيعوا فهم القرآن, فالقرآن ليس مما يمكن فهمه هكذا!

وإنما لا بد من دراسة العديد من العلوم وإتقانها, حتى يمكن للمسلم التعامل مع النص القرآني! وكم من مسلم حاول التدبر ثم طرح فهمه للنصوص –والذي ربما يكون صحيحاً- على بعض المشائخ أو أصدقاء لديهم “علم شرعي”, فيجد الإجابة بأنه ليس كذلك أيها المسكين! فهذه الآية معطلة لا يُعمل بها!

أو هي وإن كانت عامة اللفظ فإن المقصود بها مخصوص وهو كذا وكذا أو أو! ومن ثم يجد الإنسان “العامي” أنه لا يمكن التعامل مع القرآن كما هو, وإنما لازم أن يكون هناك الكثير من الخلفيات المعرفية التي لا تتوفر لديه!

وساعتها قد يُنصح باللجوء إلى كتاب تفسير معين, يعينه على فهم القرآن! فإذا بدء في قراءته شعر بالحيرة مقابل ذلك المحتوى المقدم, فيتركه ويتجه إلى كتب الأحاديث أو الفقه المكتوبة بلغة مفهومة, والتي ستعرفه كيف يُطبق دينه! وهكذا غالباً ما يكون مصير كتب التفسير “زينة” في المكتبات الشخصية!
ويقتصر تعامل المسلم مع القرآن على التلاوة والتبرك .. ليس أكثر! فيكتفي بهذا, ظناً منه أن العيب فيه, لأنه لم يتعلم “دينه” بما يكفي لفهم القرآن!!

ونتوقف هنا لنتساءل: هل في هكذا موقف العيب في المسلم فعلاً أم “المفترض” أن يكون العيب في الكتاب؟! نظراً لوجود كتب تفسير, لكل الكتب المقدسة في كل الأديان, لم ير المسلمون فيها عجباً أن يكون للقرآن كذلك كتب تفسير! إلا أن القرآن ليس كغيره من الكتب, فهو يقول عن نفسه أنه كتاب مبين!

والمسلمون يؤمنون بأن “معجزته” هي البلاغة والفصاحة! فكيف يكون المبين البليغ الذي لا يمكن للبشرية أن تأتي بمثله بحاجة إلى تفسير؟!! المفترض أنه كما قال منزله: “وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [الفرقان : 33]”, فالقرآن هو الذي يٌفسر! ومن ثم فكيف يُفسَر؟!

أعلم أن السؤال سيمثل صدمة للقارئ, إذ أنه ينسف بديهية لديه, ومن ثم سيبدأ في البحث في ذهنه عن أسباب “منطقية” تجعل القرآن بحاجة إلى تفسير, ومن ثم سيقول مثلاً: نعم, المفترض أنه مبين وفصيح, ولكن الواقع يقول بأننا لا نفهم مفردات في القرآن ولا نعرف معناها! ومن ثم فهو بحاجة إلى تفسير!

فنقول: هناك فارق كبير بين “الترجمة” وبين التفسير! فالمسلم الألماني أو الصيني لن يفهم أي كلمة من القرآن, لأنه بلسان آخر, ومن ثم فهناك “ترجمات” للقرآن بلغات مختلفة, تقدمه لأبناء هذه اللغات حتى يمكنهم التعرف على محتواه! والذي يجب علينا الإقرار به هو أننا لا نتكلم اللسان العربي, نعم نحن نُصنف كعرب, ولكن لكل منا “لغة” عامية يتكلم, وحتى لو كنا نتكلم اللغة الفصيحة,

فمن الطبيعي أن تختفي بعض الكلمات من الاستعمال مع مرور مئات السنين وتصبح غير محددة المعنى! ومن ثم فلا حرج ولا إشكال في أن يقدم بعض “المتخصصين” لأبناء هذه اللغات معنى هذه المفردة! ولكن هذا لا يٌسمى تفسيراً وإنما هو أقرب إلى الترجمة!!

وحتى لا يظن القارئ أن الخلاف “لفظي”, فهم يسمونه “تفسير” وأنت تسميه “ترجمة”, نقول: لم يقتصر دور المفسرين على تقديم معاني المفردات الغامضة, وإنما “زعموا” أنهم يقدمون تفسيراً للقرآن كله, هذا من ناحية, من ناحية أخرى لم ينطلق أي مفسر في التعامل مع القرآن من القرآن نفسه, وإنما كانوا ينطلقون تبعاً للخلفية العلمية التي تلقوها! فالمفسر الأشعري العقيدة, “يفسر” آيات العقيدة تبعاً للمذهب الأشعري, والمفسر “الشيعي” يفسره تبعاً للعقائد المترسخة فعلاً في المذهب!

والمفسر المالكي يفسر آيات الأحكام منتصراً –على الغالب- لترجيحات المذهب المالكي وإذا كان المفسر “لغويا” فإن الترجيحات اللغوية تكون ظاهرة في تفسيره .. الخ, وهكذا أصبحت كتب التفسير –في الغالب- موسوعات إسلامية, تجمع شتى العلوم “الإسلامية”, بنكهة تخصص “المفسر”.

ولا تقتصر المشكلة على جعل القرآن دليلاً لآراء المذاهب التي استقرت عبر “أدلة” سابقة, ثم جٌعل القرآن مصدقاً لها (كما يفعل كثيرون من أرباب الإعجاز العلمي في عصرنا الحديث)

وإنما هي بالدرجة الأولى في قول المفسرين أنه لا يمكن فهم النص القرآني كما هو! فهناك عام معناه خاص وخاص ينبغي تعميمه لأن العبرة بعموم اللفظ, وهناك نصوص منسوخة “معطلة” لا ينبغي العمل بها! لأن هناك آية أخرى عطلتها أو لأن قول أو فعل الرسول ألغاها! ومن ثم فإن العمل بها ضلال!

وهذا ليس على ظاهره وهذا مجاز, وهذا من المقلوب, وهو وإن كان مقدما فإنه مؤخر! وغير ذلك من التبريرات التي أدت إلى تقديم المفسرين في آلاف المواضع في القرآن –بلا مبالغة- فهماً ل “نص مواز” للقرآن وليس لما قاله الله العليم في كتابه! ومن ثم ظل القرآن حكراً على “المتخصصين”, و”حراماً” على غير أهل التخصص وهم تقريباً 99,9% من المسلمين! ومن ثم تم هجره!

ولا يعني قولنا أن القرآن ليس بحاجة إلى تفسير أننا نقول أو ندعو إلى أن لا يُكتب حول القرآن, أو أن يظل القرآن كتاباً يفهمه كل إنسان هكذا اعتباطاً!
فستكون هناك كتابات ولكن سيكون دورها هو الخروج من الدائرة المفرغة التي يدور المسلمون فيها في تعاملهم مع كتاب الله, الخروج من دائرة الاختلاف حول معاني المفردات وترجيح أيها أدق وأصح, وتأليف كتب لهذا تسمى كتب تفسير, والانتقال إلى المرحلة التالية وهي إدخال القرآن في قلوب المسلمين!

ستكون هناك كتابات, تنطلق من القرآن نفسه! لتؤصل لما قال الله فيه! ستكون هناك كتابات ترسخ لدى المسلمين أن القرآن كتاب!
وهو ما لا يؤمن به أكثر المسلمين, فهم لا يفهمون القرآن ككتاب, وإنما يفهمونه كمجموعة من الجمل المتراصات, التي جُمعت لسبب ما داخل وحدة كبيرة تُعرف بالسورة وهي بدوره وضعت داخل المصحف بترتيب ما! (وسنفرد بإذن الله موضوعاً كاملاً عن مسألة الوحدة الموضوعية لسور القرآن), بينما مع فهمه ككتاب سيُقضى بدرجة شبه تامة على الخلاف بشأن تحديد معاني المفردات ومدلولها!

سيكون التعامل معه باعتباره “قولا ثقيلا”! وأن دور المتعامل هو التدبر: “كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ [ص : 29]”,
ومن ثم فإن هذا النص يحتوي الكثير والكثير من الإشارات و”الصور”, التي على المتعامل استخراجها وتقديمها للمسلمين, باعتبارها من إشارات القرآن! ولا يعني هذا أنه سيكون للنص “ظاهر” و “باطن”, كما هو مشهور في الكتابات التقليدية! وإنما “استنباط” ما قد لا يدركه القارئ السريع!

فمثلا سورة البلد تبدأ بالقول بأن الله لا يقسم بالبلد (لأن) الرسول مستحل فيها! يهان من المشركين! ثم يحكي عن إنسان مغتر بماله ثم تحث على الإنفاق! فهذا المعنى يدركه أي قارئ!
ولكن يمكن للمتدبرين أن يخرجوا بإشارات عديدة من السورة, مثل أن الكرامة الإنسانية مقدمة عند الله, فالبلد التي فيها بيت الله الحرام لا يقسم الله بها لأن الإنسان مهان فيها! وكذلك يمكن أن يُستخرج منها إشارة إلى “القوة الحقيقة” وهي بمساعدة الضعفاء فيتقوى المجتمع ككل, وليس بمجرد جمع كثير من المال والسلطان .. وغير ذلك من الإشارات المستخرجة من “مجموع الظواهر”.

ستكون هناك كتابات أخرى “تؤول/ تطبق القرآن”, فتقدم إمكانيات عديدة لتطبيق القرآن (والتي ستتغير مع اختلاف الأحوال عبر العصور) وبهذا لا يكون القرآن كتاباً “نظرياً”.

ستكون هناك أنواع عديدة من الكتابات “العملية التفعيلية” الخاضعة للقرآن, التي تبين كيف أن القرآن “مفسِّر” للواقع, وأنه حقاً هدى وبينات للناس, يجنبهم كأفراد وكمجتمعات الضلال والهلاك ويرشدهم إلى سبل النجاة والرشاد!

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

“العدل” ليس من أسماء الله الحسنى

لماذا نقول إن “العدل” ليس من أسماء الله الحسنى؟لأسباب عديدة, منها:أنه لم يرد في القرآن …

تعليق واحد

  1. ياسلام جزاك الله خير ابدعت

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.