من هو: الشهيد ؟!

سأل أستاذنا الفاضل مهيب الأرنؤوطى عن القول المشتهر بين المسلمين في تعريف الشهيد, بأنه المقتول في سبيل الله أو دفاعاً عن ماله استناداً إلى بعض الروايات الواردة في السنة, فهل يصح هذا القول ويتفق مع ما جاء في كتاب الله العزيز.

لذا نعرض لهذه المفردة “شهيد” في كتاب الله وفي الروايات الواردة عن الرسول لنبين كيف استعملها الله العليم وكيف ظهرت في الروايات.

وقبل أن نعرض للمفردة في كتاب الله نُذكر بمعناها اللغوي, فنقول:
الشهيد على وزن فعيل من الأصل: شهد, وإذا نظرنا في معجم: مقاييس اللغة لابن فارس بحثا عن الأصل: شهد, ألفيناه يقول:
الشين والهاء والدال أصلٌ يدلُّ على حضور وعلم وإعلام، لا يخرُج شيءٌ من فروعه
عن الذي ذكرناه. من ذلك الشَّهادة، يجمع الأصولَ التي ذكرناها من الحضور، والعلم،
والإعلام. يقال شَهد يشهد شهادةً. والمَشهد محضر النّاس.” اهـ

إذا فالشهادة تدل على حضور وعلم, وهو معنى معروف مشهور لعامة المسلمين, وننظر هل استخدم القرآن الكريم هذا الأصل تبعاً لمعناه اللغوي أم أضاف له معنى جديدا:
الناظر في القرآن يجد أنه استخدم هذا الأصل بمشتقات عدة, فاستخدم الفعل منه:

“حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [فصلت : 20]
لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً [النساء : 166]
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَـذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام : 150]
قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ [الأنبياء : 61]
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً [الفرقان : 72]

واستخدمه على المصدر “شهادة”, فقال:
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة : 140]
وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة : 283]

كما استخدمه على وزن “أفعال” (والذي يأتي جمعاً لوزن: فعَل مثل: قدم وعلَم وقلم وزلم وورم ونغم وعمل …, وكذلك جمعاً لوزن: فعْل مثل: وزْن وعمّ, قزْم ووغد وحجم … الخ), واستخدمه في موضعين اثنين فقط, هما:

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أُوْلَـئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود : 18]
إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [غافر : 51]

كما استخدم الجمع على وزن “فعول” (والذي يأتي جمعاً ل: فعْل مثل: قرن, حصن, قلب, وجه, بطن … الخ) في موطن واحد وهو قوله:
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [يونس : 61]
وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ [البروج : 7]

كما استخدمه على وزن “مفعول” في ثلاثة مواطن:
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ [هود : 103]
أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً [الإسراء : 78]
وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ [البروج : 3]

كما استخدمه على وزن “فاعل”, مفرداً فقال:
أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ [هود : 17]

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الأحزاب : 45]
واستخدمها جمعاً كذلك, فقال:
قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [الأنبياء : 56]


قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ [المائدة : 113]


وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة : 83]

واستخدمه على وزن “فعيل” (الكلمة الرئيس في الموضوع) فقال:
أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة : 133]

وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً [النساء : 72]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [النحل : 84]

كما جاءت “فعيل” جمعاً “فعلاء” (شهداء) فقال:
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [آل عمران : 99]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النساء : 135]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة : 8]


وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَـذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام : 144]


ونلاحظ من هذه المواطن كلها (وفي باقي المواطن التي لم نذكرها اجتنابا للتطويل) أنها استخدمت الأصل بالمعنى اللغوي له وهو الحضور والشهادة, ولم تضف له أي مدلول جديد.

فإذا خصصنا “شهيد” بالتناول, وجدنا أنه أولاً لم يخالف هذا الاستخدام,
ثانياً: أنه جاء في كل مواطنه بمعنى: فاعل, ولن نحاول هنا أن نقدم الفارق بين دلالة “شهيد” و “شاهد”, ويكفينا أن الكلمات على وزن “فعيل” أقوى دلالة من تلك التي على وزن “فاعل”, ففيها زيادة للسمة المقصودة, ويدل على ذلك أن “فعيل” أصلاً من صيغ المبالغة.

ونترك المدلول اللغوي وننتقل إلى الصنف المقصود بالحديث لنحدد ما المراد منه, وذلك لأن الله العليم تحدث في كتابه عن أصناف عديدة من الشهداء, فتحدث عن الذين يشهدون على حكم جرم مثل الزنا:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور : 4]
وعلى معاملة مالية, كما جاء في قوله:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء… [البقرة : 282]
وسيطلب إلى المشركين أن يأتوا بشهيد في اليوم الآخر فسينكرون أن يكون منهم شهيد على شركهم:
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ [فصلت : 47]

وبداهة ليست هذه الأصناف هي المعنية ب “الشهيد” في التصور الإسلامي, وإنما أولئك الذين ذُكروا في آيات مثل قوله:
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الزمر : 69]
والتي أخذوا بها مكانة عظيمة قُرنوا بها مع النبيين, حيث أنهم سيأتون مع الأنبياء ليشهدوا على باقي خلق الله, كحجة لله من البشر على باقي إخوانهم, فالله أرسل الرسل لإقامة الحجة على خلقه فلا يبقى لهم حجة, (وإن كان هو شهيداً على ما أنزل):

” رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً [النساء : 165- 166]”

والرسل من ناحية مبشرين ومنذرين ومن ناحية أخرى هم شهود على أقوامهم: “إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً [المزّمِّل : 15]
فالرسول شاهد على قومه كما كان موسى شاهداً على فرعون. إلا أن الشهادة لن تكون فقط من الأنبياء, فهم سيكونون خصماء لأقوامهم يوم القيامة, كما أنهم سيموتون وستبقى الرسالات والأتباع فيقيم الله من أتباعهم السائرين على دربهم من البشر المتحملين للرسالات المبلغين إياها للناس والعاملين بها من يشهدون معهم, فمن هم هؤلاء؟!

إذا نظرنا في كتاب الله العليم لنعلم من هم هؤلاء الشهداء وجدنا بعض آيات تتحدث عن الشهيد والشهادة, يمكن أن تكون ذات علاقة بالصنف المعني مثل قوله:
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً … [البقرة : 143]
فالأمة جُعلت وسطا لتكون شهداء على الناس والرسول على الأمة شهيدا. وبمثل هذا المعنى جاءت الآية في سورة الحج:
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج : 78]

شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران : 18]
وكما شهد الله والملائكة أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط شهد كذلك أولوا العلم.

فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً [النساء : 41]
في اليوم الآخر يأتي الله على كل أمة بشهيد ويأتي الله بالرسول شهيداً على هؤلاء.
وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً [النساء : 69]
(لاحظ أن الطائعين مع الصديقين والشهداء وليسوا منهم!)
إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة : 44]
الربانيون والأحبار استحفظوا أجزاء من كتاب الله وكانوا عليه شهداء.
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [الحديد : 19]
وهنا تقول الآية أن الذين آمنوا بالله ورسله هم الصديقون والشهداء (بينما من لم يؤمن بأحد الرسل (محمد) لا يمكن أن يكون من الشهداء.

من خلال مجموع هذه الآيات يمكننا الجزم أن الأنبياء سيكون شهداء في اليوم الآخر, ولكن ليسوا فقط هم الشهداء فلقد عطف الله عليهم “الشهداء” في آيتي الزمر والنساء, ومن ثم فهناك شهداء غير الأنبياء, ويمكن القول من خلال هذه الآيات أن أولوا العلم الوسطيون المجاهدون في الله سيكونون من الشهداء في اليوم الآخر.

والسؤال المحوري هنا: هل يمكن أن يكون المقتول في سبيل الله أو من قُتل دون ماله من الشهداء في اليوم الآخر؟!
نقول: أولاً: لم يقل الله العليم في كتابه هذا ولم يذكرهم أبداً في موقف الشهادة وإنما قال أنهم أحياء عنده, فقال:
وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ [البقرة : 154]
وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران : 169]
فهم أحياء عند ربهم يرزقون, وإن كنا نحن لا نشعر, فالله أعطاهم حياة مستمرة تعويضا عن الحياة التي بذلوها لله في حياتهم باختيارهم, ولكنه على الرغم من ذلك لم يذكرهم أبداً في موطن الشهادة.

ثانياً: كيف يشهد هؤلاء القتلى في سبيل الله وبم يشهدون؟ إن الشهيد يشهد على ما حضر ورأى, وسيدنا عيسى قال: “مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة : 117]”,
فنفى أي علم له بحال قومه بعد وفاته. كما أن الإنسان يمكن أن يشهد بعلمه كما شهد أولوا العلم, فالله جعل الأمة وسطاً لتكون شهداء على الناس, وليس أمة قتلى!!!

باختصار إن الشهيد في الآخرة كان شهيداً في الدنيا, كان إنسانا وسطياً ذا علم ممحص ثبت على المبادئ ولم يتغير وبهذا كان شهيداً في الدنيا وسيقدم هذه الشهادة في الآخرة, أما من لم يحققها في الدنيا فكيف يقدمها في الآخرة؟!

إذا وكما رأينا فلا يمكن أن يكون “الشهيد” قرآنيا هو المقتول في سبيل الله, كما لا يمكن أن يكون الشهيد لغويا كذلك هو “المقتول”, وذلك لأن “شهيد” كما بيّنا على وزن “فعيل” وصيغة “فعيل” في اللغة إما أن تأتي بمعنى: فاعل, مع زيادة سمة التمكن في الفعل, مثل: رحيم سميع وبصير وقدير وعليم (فهي أقوى في الدلالة من: عالم وقادر … الخ), وإما أن تأتي بمعنى: مفعول, مثل: قتيل وجريح وكسير وذبيح … الخ), ولم تُستخدم كلمة على وزن “فعيل” في اللسان العربي كله بالمعنيين “فاعل ومفعول”, فهي إما دالة على “فاعل”, وإما “مفعول”, يعني لا يمكن مثلاً أن تعني كلمة “قدير” قادر ومقدور عليه, وكذلك لا يمكن أن تعني كلمة “قتيل” مقتول وقاتل في عين الوقت!

وتبعاً للاستخدام المطرد للكلمة في القرآن فإن “فعيل” بمعنى: فاعل, وهذا يحتم علينا أن نرفض أي مدلول لها على وزن مفعول!

والقائلون أن المقتول في سبيل الله “شهيد” لم يحددوا على أي وجه صار شهيداً فذكروا في ذلك احتمالات سبعة (كما ذكر الإمام النووي), فقالوا أنه سُمي شهيدا لواحدة من هذه السبعة, إماً:
1. لأن الله تعالي، ورسوله _ صلى الله عليه وسلم _ شهدا له بالجنة.
(ومن ثم فهو: مشهود له وليس شهيد)
2. لأنه حي عند ربه.
والحياة لا تعني بحال الشهادة.
3. لأن ملائكة الرحمة تشهده ، فتقبض روحه.
وليس المقتول فقط في سبيل الله من تشهد ملائكة الرحمة قبض نفسه, ناهيك عن أنه هكذا مشهود وليس شاهدا.
4. لأنه ممن يشهد يوم القيامة على الأمم .
وليس ثمة دليل على هذا, ولا مبرر مقبول له.

5. لأنه شُهد له بالإيمان ، وخاتمه الخير بظاهر حاله.
كذلك هنا هو مشهود له, وكما بيّنا لم تأت “فعيل” في اللسان أبداً بمعنى: فاعل ومفعول.
6. لأن له شاهدا بقتله ( أي علي قتله ) ، وهو دمه.
كذلك هو مشهود له وليس شاهدا.
7. لأن روحه تشهد دار السلام أي ( الجنة) وروح غيره لا تشهدها إلا يوم القيامة.
وعلى هذا القول فهم صنف آخر غير المذكورين في كتاب الله العظيم, وهي فذلكة لغوية لم تضف جديدا.

وكما رأينا فإن التوجيهات المطروحة لجعل المقتول شهيداً واهية ولا ساق لها ولا قوام, وهي لم تكن لتظهر إلا لروايات ظهرت وقالت أن المقتول شهيد, فظهرت هذه التوجيهات كلها, بل ووُجهت بعض الآيات للقول بأن المقتول هو الشهيد, مثل قوله تعالى: ” إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران : 140]”,
 لذا نعرض للروايات الواردة في السنة لنبين كيف ظهرت هذه الروايات, معتمدين منهجنا القائم على اعتماد الروايات التابعة للقرآن الموافقة لها هي الأصل وأن المخالف إما انحراف أو دسيسة, فنقول:

استُعمل “الشهيد” في السنة بالمعنى الدنيوي المعروف له, مثل ما رواه الترمذي في سننه: ( خير الشهداء من أدى شهادته قبل أن يسألها )

كما جاء في ذكر غير مشهور, مثل ما رواه أبو داود في سننه:
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ
سَمِعْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَقَالَ سُلَيْمَانُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُبُرِ صَلَاتِهِ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ أَنَا شَهِيدٌ أَنَّكَ أَنْتَ الرَّبُّ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ أَنَا شَهِيدٌ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ أَنَا شَهِيدٌ أَنَّ الْعِبَادَ كُلَّهُمْ إِخْوَةٌ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ اجْعَلْنِي مُخْلِصًا لَكَ وَأَهْلِي فِي كُلِّ سَاعَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ اسْمَعْ وَاسْتَجِبْ اللَّهُ أَكْبَرُ الْأَكْبَرُ اللَّهُمَّ نُورَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ اللَّهُ أَكْبَرُ الْأَكْبَرُ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ اللَّهُ أَكْبَرُ الْأَكْبَرُ

كما جاء بمعنى أن المؤمنين شهداء على بعضهم بعضا, مثل ما رواه أبو داود كذلك في سننه:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
مَرُّوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ وَجَبَتْ ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ وَجَبَتْ ثُمَّ قَالَ إِنَّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ شُهَدَاءُ
وما جاء في صحيح مسلم:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:
مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ قَالَ عُمَرُ فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ
وما جاء في سنن ابن ماجه:
عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ الثَّقَفِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ
خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّبَاوَةِ أَوْ الْبَنَاوَةِ قَالَ وَالنَّبَاوَةُ مِنْ الطَّائِفِ قَالَ يُوشِكُ أَنْ تَعْرِفُوا أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قَالُوا بِمَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ وَالثَّنَاءِ السَّيِّئِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ

وجاء كذلك مع صاحب العمل الحسن, مثل ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه:
عن شقيق عن زيد بن صوحان قال : قال عمر : ما يمنعكم إذا رأيتم الرجل يخرق أعراض الناس لا تغيروا عليه ؟ قالوا : نتقي لسانه ، قال : ذاك أدنى أن تكونوا شهداء.
وما جاء في صحيح مسلم:
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّعَّانِينَ لَا يَكُونُونَ شُهَدَاءَ وَلَا شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

كما استُعمل بالمعنى المشتهر بين المسلمين (والذي لم يُذكر في القرآن) في عدة روايات, فوجدناه في رواية واحدة فقط في الموطأ:
أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَتِيكٍ أَخْبَرَهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ يَعُودُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَابِتٍ فَوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ عَلَيْهِ فَصَاحَ بِهِ فَلَمْ يُجِبْهُ فَاسْتَرْجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ غُلِبْنَا عَلَيْكَ يَا أَبَا الرَّبِيعِ فَصَاحَ النِّسْوَةُ وَبَكَيْنَ فَجَعَلَ جَابِرٌ يُسَكِّتُهُنَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعْهُنَّ فَإِذَا وَجَبَ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوُجُوبُ قَالَ إِذَا مَاتَ فَقَالَتْ ابْنَتُهُ وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ شَهِيدًا فَإِنَّكَ كُنْتَ قَدْ قَضَيْتَ جِهَازَكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْقَعَ أَجْرَهُ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ وَمَا تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ قَالُوا الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّهَدَاءُ سَبْعَةٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ وَالْغَرِقُ شَهِيدٌ وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ وَالْحَرِقُ شَهِيدٌ وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدٌ” اهـ
وهكذا وجدنا أن سبعة أصناف من المفاعيل أصبحوا كذلك فاعلين!

بينما أكثرت باقي كتب الحديث من الروايات التي تتحدث عن هؤلاء الشهداء بتكرار رواية أحاديث بعينها, فوجدنا أحمد يروي في مسنده:
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ
أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَرِيضٌ فِي نَاسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ يَعُودُونِي فَقَالَ هَلْ تَدْرُونَ مَا الشَّهِيدُ فَسَكَتُوا فَقَالَ هَلْ تَدْرُونَ مَا الشَّهِيدُ فَسَكَتُوا قَالَ هَلْ تَدْرُونَ مَا الشَّهِيدُ فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي أَسْنِدِينِي فَأَسْنَدَتْنِي فَقُلْتُ مَنْ أَسْلَمَ ثُمَّ هَاجَرَ ثُمَّ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ شَهَادَةٌ وَالْبَطْنُ شَهَادَةٌ وَالْغَرَقُ شَهَادَةٌ وَالنُّفَسَاءُ شَهَادَةٌ.
(ونلاحظ في هذه الرواية أن الصحابة لا يعلمون من هو الشهيد, وأحدهم فقط هو الذي يعرف)
بينما يختلف الوضع عند مسلم فنجده يروي:
عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ قَالَ إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ قَالُوا فَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ مَاتَ فِي الْبَطْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ

فهنا الصحابة يعرفون من هو الشهيد ويجيبون! وفي كلتا الحالتين يستقل الرسول الشهداء في أمته ومن ثم يضيف أصنافاً إلى هذا الصنف. وليست الإشكالية في كون الصحابة يعرفون أو لا يعرفون, وإنما الإشكالية الرئيس في هذه الروايات أنها لا تشير من قريب ولا بعيد للأصناف الموجودة في القرآن, يعني لو قالوا: أنت شهيد (والأنبياء) وأولوا العلم العاملون شهداء والقتلى في سبيل الله شهداء, أو لو قالوا لا نعلم فذكر الرسول الأصناف السابقة (الأنبياء وأولوا العلم ..) ثم عقب الرسول هذا التعقيب, لكان من المقبول أن يكون الرسول أضاف أصنافا أخرى! إنما أن يعتبر المؤمنون والرسول الشهيد صنفاً لم يذكره القرآن فهذا هو العجب العجاب!!

ومن ثم فإن هذا كاف للحكم أن هذا صدر من أناس لا يعلمون القرآن وإنما يتحدثون انطلاقاً من واقع وأعراف منتشرة بين المسلمين ولا أصل لها في القرآن, تجعل “القتيل في سبيل الله” (بالإضافة إلى أنه في الجنة بلا حساب) كذلك شهيدا, واختلقوا لها أحاديثاً نسبوها إلى الرسول وهكذا أضاعوا معنى الشهيد الأصلي, فبدلاً من أن تكون مرتبة يصل المرء إليها باجتهاد وعمل وعلم أصبحت تُنال هكذا قدرا!!

وأراد وعاظ السوء أن يصبروا أهالي هؤلاء المبتلين بالزعم أنهم شهداء (أي يدخلون الجنة بغير حساب!!) وأن يرفعوا من قدر أتباع النبي محمد بإعطائهم مزية لم تعط لأتباع الأنبياء السابقين!!!

ويدل على ذلك أننا وجدنا العديد من الروايات التي تتحدث عن “القتلى” في سبيل الله وليس “الشهداء”, مثل ما رواه البخاري:
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ
وما رواه عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ
صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ كَالْمُوَدِّعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ ثُمَّ طَلَعَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ إِنِّي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ فَرَطٌ وَأَنَا عَلَيْكُمْ شَهِيدٌ وَإِنَّ مَوْعِدَكُمْ الْحَوْضُ
فهنا الحديث عن “قتلى”! نعم وردت هذه الروايات مستعملة “شهداء”, ولكن هذا دليل لنا على تحور الاستخدام من “قتيل” و “قتلى” إلى “شهيد وشهداء”, سنقدم عليه دليلاً تاريخيا صريحاً.

قد يقول قائل: إذا كان القتيل في سبيل الله ليس شهيداً, فمن أين وكيف ظهر هذا الاستعمال؟
نقول: هذا الاستعمال راجع إلى بعض أقوال للرسول كذلك فُهمت على غير ما قال فظهر هذا القول, مثل ما رواه الإمام البخاري:
عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ:
سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الطَّاعُونِ فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ
فنلاحظ هنا أن الرسول يقول أن الصابر له مثل أجر شهيد.

ونجد رواية في مسلم تتحدث عن مثل هذا الأمر فنجد الإمام مسلم يروي عَنْ يَعْلَى بْنِ شَدَّادٍ عَنْ أُمِّ حَرَامٍ:
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ الْمَائِدُ فِي الْبَحْرِ الَّذِي يُصِيبُهُ الْقَيْءُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ وَالْغَرِقُ لَهُ أَجْرُ شَهِيدَيْنِ
فهنا كذلك كان الحديث عن أن المبتلى بهذا له أجر شهيد أو اثنين. (أجر … أجر … أجر … أجر)

وكذلك ما رواه الحاكم في المستدرك:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم ، قال : « من سأل الله القتل في سبيل الله صادقا ، ثم مات ، أعطاه الله أجر شهيد »
فمن يسأل الله القتل في سبيله صادقا فله أجر أجر أجر شهيد.

وكذلك ما رواه أحمد في مسنده:
عَنْ عَمْرِو بْنِ جَابِرٍ الْحَضْرَمِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الطَّاعُونِ الْفَارُّ مِنْهُ كَالْفَارِّ يَوْمَ الزَّحْفِ وَمَنْ صَبَرَ فِيهِ كَانَ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ

وكما رأينا في الروايات فإن الحديث كان أن من يحدث له كذا له أجر عظيم مثل الشهيد, وبتحوير بسيط لم يعد الأمر مقتصراً على الأجر وإنما أصبحوا هم أنفسهم شهداء.

 ولله الحمد لا يقتصر الأمر على فهم لي ومحاولة توفيق مني بين الروايات والآيات وإنما وجدت بفضل الله رواية تقول صراحة بما وصلت إليه, فوجدت الحاكم يروي في المستدرك على الصحيحين:
عن أبي العجفاء السلمي ، قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يقول : “….. وأخرى فتقولونها لمن قتل في مغازيكم أو مات : قتل فلان وهو شهيد أو مات فلان شهيدا ولعله أن يكون أوقر عجز دابته أو قال راحلته ذهبا أو ورقا يلتمس التجارة فلا تقولوا ذاكم ولكن قولوا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « من قتل في سبيل الله أو مات فهو في الجنة »

فكما رأينا فإن الانحراف بدأ مبكراً منذ زمن الخليفة عمر (وربما قبل ذلك) فأصبح بعض الصحابة والتابعين يستخدمون الكلمة على غير ما استخدمها الله والرسول فنهاهم عن ذلك وأمرهم باستخدام ما قاله الرسول, إلا أنهم لم يستجيبوا وبقى الوضع على ما هو بل ووصل الحال باللاحقين أن وضعوا أحاديث للرسول جعلوه فيها يقول بذلك الانحراف.

في الختام نقول:
الجزاء من جنس العمل, فكما أن المقتول في سبيل الله ضحى بحياته لله وهبه الله حياة أبدية لا تنقطع! وكما أن أولوا العلم والإيمان والعمل في الدنيا كانوا حجة وشهداء على أقوامهم نُصبوا للشهادة عليهم في الآخرة, وهي منزلة عظيمة لا يصل إليها كل أتباع الأنبياء
ولم يعد أحد من المسلمين الآن يسأل الله أن يجعله منهم (نعم هناك من يطلب أن يُقتل في سبيل الله, ولكن لا أحد يطلب أن يكون من الشهداء الحجج على أقوامهم) فنسأل الله العلي العظيم القريب المجيب أن يعطينا المنزلتين: القتل في سبيله وأن نكون من الشهداء على الناس.

ونحن لا نقلل من قدر الذين قُتلوا في سبيل الله عندما نقول عليهم أنهم ليسوا شهداء! فيكفيهم أنهم في الجنة, وأنهم لم يموتوا, وهذه منزلة لها فضل وتلك أخرى لها فضل آخر ولا ينقص من قدر هؤلاء أنهم ليسوا مع أولئك.

ونحن نحاول أن نستخرج ما قال الله ورسوله بعيدا عن أقوال وانحرافات الناس, غفر الله لنا الزلل والخلل وتقبل منا صالح العمل
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وفضله.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

الإنسان ليس مجبرا

جاءني سؤال يقول:هل الانسان مجبر عن البحث عن حقيقة الكون والغاية من الحياة، فقد يقول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.