سورة المجادلة .. الله عالم وغالب!

نواصل بفضل الله وفتحه تناولنا لسور المرحلة المدنية لنبين ترتيب نزولها ومناسبات نزولها, ونعرض اليوم لسورة المجادلة فنقول:

المشهور أن سورة المجادلة مدنية, وقيل أن فيها المدني والمكي, وأنها نزلت بعد المنافقين, أما أنا فأقول أنها مدنية, وأنها نزلت بعد النور –التالية للأحزاب-.

ففي النور عامةً وتحديداً في الجزء الأخير منها –بدءً من الآية 47- شُدد على طاعة الله ورسوله, وجاء الوعد بأن الله سيمكن للمؤمنين ويستخلفهم, وبعد فاصل تنظيمي عن أحكام الأشرة خُتمت السورة بالنهي عن الاستهانة بأمر الرسول أو بدعائه, وبالقول أن الله يعلم المخالفين وأنه عليم بكل شيء, وسينبئهم بما عملوا يوم يُرجعون إليه.

إلا أنه رغماً عن ذلك ظل هناك من يواد المحادين المعادين لله ورسوله (من أهل الكتاب) –سرا-, وكانوا يدبرون المكائد –يتناجون بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول-, وحدث أن نهى الرسول عن المناجاة فاستجابوا إلا أنهم عادوا إليها

وفي هذه الأجواء نزلت سورة المجادِلة والتي هي بشكل عام في المخالفين للرسول المحادين له, الذين نُهوا عن أمر ما (النجوى) وعادوا إليه, وكذلك عن الذين تولوا قوما غضب الله عليهم وحادوا الرسول, فتؤكد المجادلة ما خُتمت به النور من أن الله عليم وأنه سينبئهم بما عملوا يوم يُرجعون إليه

فتبدأ المجادلة بمشهد يبين الله فيه أنه سميع عليم وهو موقف المرأة المجادلة للرسول (لاحظ استكمال تشريعات الأسرة البادئة في الأحزاب –الظهار- والمستمرة في النور) وكيف سمع الله قولها, وكيف أن كيد المحادين لا يخفى على الله وقد أبطله سابقا وسيبطله لاحقا, وكيف أن الله العليم سينبئهم بما عملوا, وتٌخبر كذلك بالذين عادوا للنجوى ويتلاعبون بالتحية مع النبي (وكيف أن الله علم بما قالوا وبما في أنفسهم), ثم يؤمر المؤمنون بحسن النجوى, وتواصل السورة تقديم تشريعات التأدب مع الرسول, مثل مجالسة الرسول ومناجاته (والواردة في آخر ثلاث آيات في النور).

ثم تعود السورة مرة أخرى للحديث عن المخالفين وهم الذين تولوا قوما غضب الله عليهم وكيف أنهم يحلفون على الكذب وأن هذا لن ينفعهم عند الله العليم, وأن لهم عذاب كذلك! ثم تُختم السورة بالتأكيد على أنه لا يستقيم الإيمان مع موادة من يحادون الله ورسوله! وأن حزب الله هم المفلحون!

وندعو القارئ الكريم أن يقرأ الجزء الأخير من سورة النور –ويا حبذا لو يقرأها كلها- ثم يقرأ المجادِلة- ليبصر الاتصال بينهما:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)

ثم تتحول الآيات إلى مخاطبة المؤمنين للتأكيد على طاعة الرسول والتأدب في التعامل معه, مواصلةً الحث على الإنفاق فيُنهى الذين آمنوا عن التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وأنه إن كان فليكن بالبر والتقوى, فهذه النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا
(مما قد يُلقى في قلوبهم حول محتوى هذه النجوى في هذه الأيام والظروف العصيبة),
وتأمرهم بالطاعة في مجالسهم مع الرسول, وتندب إليهم التصدق لمناجاة الرسول** (التصدق عند المناجاة أي كلام على انفراد وليس كلاما عاماً):

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)

ثم يعود الخطاب إلى تثبيت الرسول بالقول أن الله أعد للذين تولوا قوما غضب الله عليهم أعد لهم عذابا شديدا وأنه لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم ولا أيمانهم وأن حزبهم هذا حزب الشيطان (الأحزاب). ثم يصدر الله الحكم عليهم بأنهم في الأذلين ويقدم الله للرسول وعداً (نبوءة) بالنصر عليهم.

ثم تُختم السورة بالتشديد على أنه لا يمكن للمؤمنين أن يوادوا من حاد الله ورسوله فالمؤمنون الحقيقون يتولون الله ورسوله فقط, وما أفضله من ولاية ومن حزب, فهذا حزب الله وحزب الله هم المفلحون:

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

حول إنكار العقل الغربي ل “النظام الكبير”!!!

في إحدى اللقاءات المطولة على اليوتيوب عن اللغة وفلسفتها، ذكر المتحدث رأي دو سوسير، القائل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.