رجوع عن فهمي لآية ضرب النساء

كنا قد عرضنا سابقاً للآية الشهيرة التي تتحدث عن “ضرب النساء” 

وأيدنا فيه الفهم المألوف القائل بأن المقصود بالضرب هو العقاب البدني, وقلنا أنه يجوز للرجل ذلك كعقابٍ للزوجة كحل أخير يُتجنب به الطلاق, وناقشني فيه بعض الإخوة وثبت فيه على موقفي.

ومرت الأيام والسنون وفي ذات مرة كنت أتأمل سورة النساء إذا بي أنتبه إلى أمر حاسم في فهم الآية لم أنتبه إليه مسبقاً, أمر ملزم بمراجعة الفهم التقليدي لها ومعلن أنه غير صحيح, وهذه النقطة هي:

المخاطبين بالأمر.
فالملاحظ أن كل من تناولوا الآية (بمن فيهم من حاوروني في الآية سابقاً!!) اعتبروا أن المخاطب في قوله تعالى:
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)

اعتبروا أن المخاطب هم: الأزواج! ومن ثم فهم السابقون الضرب بمعنى العقوبة البدنية التي يوقعها الرجال على أزواجهم, ومن رفض هذا الفهم حاول أن يقدم فهماً مخالفاً للضرب!

ولكني –بفضل الله وفتحه- نُبهت إلى أن المخاطبين في الآية ليسوا هم الرجال, وإنما الجماعة “جماعة المؤمنين” المخاطبين بتطبيق الأحكام في القرآن, ولو كان المخاطبون بالأمر هم الرجال لقيل: واللاتي يخافون نشوزهن فليعظوهن وليهجروهن في المضاجع وليضربوهن فإن أطعنهم فلا يبغوا عليهن سبيلا.

قد يقول قائل: ربما غاير القرآن في الضمائر وهذا موجود في القرآن! والمخاطبون هم الرجال كذلك.
نقول: ربما, ولكن لا دليل على هذا والأصل في اختلاف الضمير أن يختلف معه المخاطب, ناهيك عن الله تعالى عندما تحدث في نفس السورة بعد آيات عن موقف مشابه, وكان الفعل من الزوجين –وليس من جماعة المؤمنين “المجتمع” أسند الفعل إليهما, فقال:
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ
ولم يقل: أن تصلحوا بينهما صلحاً, لأن الزوجين هما من سيفعلان هذا وليس المجتمع.

ويؤكد هذا كذلك الآية التالية لآية الضرب, فنجد الرب العليم الحكيم يقول: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا
فالمخاطب في هذه الآية هو جماعة المؤمنين يقال لهم: إن خفتم شقاق بينهما (بين الزوج والزوجة, مثنى!!) فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها! فالمخاطب في هذه الآية هو نفس المخاطب في الآية الماضية “تخافون, فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن”,

ولا دافع لجعل المخاطب في الآية الماضية والمتفق مع المخاطب في هذه الآية مختلفين! ثم نجعله متفقاً مع آخر مختلف الضمير (فالضمير المفترض عوده على الرجال ضمير غائب وليس مخاطب “يخافون, ويهجروهن, أطعنهم”)

ولا يقتصر الأمر على هذه الآيات وإنما لو تتبعنا الضمائر من أول السورة لوجدناها تفرق بين الاثنين, فنجد أن السورة تبدأ بأمر الناس بأن يتقوا ربهم (الناس رجال ونساء), ثم بعد ذلك نجد الله يفرق بين الرجال والنساء متحدثا عنهم بضمير الغائب: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7)

ثم بعد ذلك يخاطب جماعة بضمير المخاطب “فارزقوهم”, وحتما الخطاب هنا ليس للرجال وإنما للناس أو للرجال والنساء عامة:
وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)

وعلى الرغم من أنه لن يوجد قارئ يقول أن المخاطب هنا الرجال, إلا أن هناك من سيصر على أن المخاطب في آية الضرب هم الرجال وليس: الجماعة!
ونترك هذه الآية وننتقل إلى دليل آخر, فنجد الله تعالى يقول:

وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
فهل المخاطب في قوله: “فاستشهدوا وآذوهما” هم الرجال تحديداً أم جماعة المؤمنين؟!!

إن الآيات في السورة صريحة فعندما كان الخطاب للرجال تنظيما لعلاقات بينهم وبين أزواجهم كانت الضمائر تسير بشكلها المألوف “ضمائر مخاطب” ولم يُتحدث عنهم بضمائر غيبة!

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22) ……
ومن ثم فإننا نفهم آية الضرب التي غاير الله فيها الضمائر بأنه خطاب لصنف آخر غير الصنفين المذكورين, كما فهمنا آية تقسيم التركة والفاحشة.

ويمكن القول أن السبب الأكبر الذي دفع المفسرين لجعل ضمائر الخطاب المختلفة في الآية لصنف واحد, هو قوله تعالى: واهجروهن في المضاجع, فرأوا أن الخطاب حتما للأزواج.

إلا أن الملاحظ أن كل المفسرين القائلين بالفهم التقليدي فهموا الآية على غير ما قالت من وجوه عدة, فلم يقتصروا على تحويل الضمائر وإنما غير في الحروف أو أضافوا كلمات إضافية تكميلية!! فكانوا يفهمون الآية هكذا:
“فعظوهن أو اهجروا مضاجعتهن أو اضربوهن” وإذا تحرينا الدقة كانوا يفهمونها: “فعظوهن (فإن لم تُجدِ الموعظة) فاهجروا مضاجعتهن, (فإن لم يجد الهجر) فاضربوهن!

والآية لم تقل بهذا وإنما قالت بالموعظة والهجر في المضاجع -وليس هجر المضاجعة! – والضرب (والمضاجع ليست بالدرجة أولى مرتبطة بالجنس وإنما بالتمدد/ النوم : تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [السجدة : 16]),
وفارق بين هجر في المضاجع وبين هجر المضاجعة, فالأولى نوع من الحبس والعزل (عقاب ينفذه أي أحد) والأخرى لا حبس ولا عزل وإنما امتناع عن الجماع! (ولا يخاطب به إلا الأزواج!)

بينما نحن نفهم الآية كما هي ونقول أن هذه العقوبات لمجموع أصناف النساء, وتبعا لحالة المرأة, فيوعظ بعضهن ويهجر بعضهن ويضرب بعضهن, أو تطبق الثلاثة أصناف على المرأة الواحدة أو صنفين في عين الوقت وليس بطريق التدرج, إن لم تفلح هذه طُبقت الأخرى.

قد يقول قائل: إذا سلمنا أن المخاطب هو جماعة المؤمنين وليس الرجال, فما المقصود بالضرب إذا؟!
فنقول: الأصل ” ض ر ب” واسع الدلالة في لسان العرب ويرد عامة بمعنى:
صدم تشكيلي توجيهي, أو صدام يؤدي إلى غاية, فليس مجرد صدم عبثي تحطيمي, وإنما تشكيلي صوغي (صائغ), ومن هذا ضرب العملة ومن هذا ضرب الأمثال, ومن هذا: الضرب والأضراب فكأنهم شُكلوا على هيئة واحدة.


وأنا أفهم من الآية أن المقصود من الضرب هو “كسر أنف المرأة” الناشز, أو بتعبير آخر: “هدها” (كما يقال في العامية المصرية), بإبطال الأسباب والدواعي التي قد تؤدي إلى مثل هذا النشوز.

ربما بإجبارها على القيام ببعض “الأعمال الحقيرة” في منظورها, أو بالقيام بخدمة عامة للناس ومنع المال ووسائل الترفيه والتزين عنها وغير ذلك.
ومن ثم فضرب المجتمع للنساء النواشز يمكن أن يكون بأشكال عديدة (بواسطة عقوبات يفتي علماء النفس أيها أنجع) تؤدي في نهاية المطاف في إذهاب حدة المرأة وعلوها وتكبرها.

ونلاحظ أن الله تعالى لم يتحدث عن “عذاب” أو “إيذاء” كما هو الحال مع كل العقوبات البدنية في القرآن, وإنما ذكر الضرب … فقط.

إذا فالله تعالى لم يخاطب الرجال بمعاقبة ولا تعذيب النساء بالضرب, وإنما خاطب جماعة المؤمنين بأن يعظوا ويهجروا ويضربوا, وترك كيفية تطبيق الضرب مفتوحة, يفتي العالمون بالطبائع أيها أنسب لكل امرأة (وما أكثر الإخصائيون الاجتماعيون والأطباء النفسيون)

غفر الله لنا الزلل والخلل وتقبل منا صالح العمل إنه ولي ذلك والقادر عليه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

تقديم المبصر

“-من فضلك ارتد هذه “العوينات/ النضارة” لترى جيدا!يا أستاذ .. اسمعني .. أجبني! لماذا؟ من …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.