نأتي إلى نموذج من نماذج التأويل الفقهي لكتاب الله , وهذا النموذج هذه المرة هو من طوام التعامل مع كتاب الله , حيث وجدنا فيها تعاملا غريبا جدا ما رأينا مثله في أي لغة من لغات العالم
ولست أدري كيف قبلت العقول بهذا الفهم ؟!
هذا النموذج هو قوله تعالى “ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة : 9] ”
فهذه الآية غاية في الوضوح ولا يحتاج المرء لعبقرية ليخرج منها بأن الجمعة مكتوبة على كل المسلمين ” إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا “
, ولكن لننظر كيف تعامل الفقهاء مع هذه الآية :
وننقل هنا للقارىء من باب الجمعة في كتاب نيل الأوطار للشوكاني , حيث قال بعد سرد بعض الأحاديث في الجمعة :
” وقد استدل ـ بأحاديث الباب على أن الجمعة من فروض الأعيان
وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أنها فرض عين. وقال ابن العربي: الجمعة فرض بإجماع الأمة. وقال ابن قدامة في المغني: أجمع المسلمون على وجوب الجمعة وقد حكى الخطابي الخلاف في أنها من فروض الأعيان أو من فروض الكفايات[1]
وقال: قال أكثر الفقهاء هي من فروض الكفايات وذكر ما يدل على أن ذلك قول للشافعي وقد حكاه المرعشي عن قوله القديم.
قال الدارمي: وغلطوا حاكيه.
وقال أبو إسحاق المروزي: لا يجوز حكاية هذا عن الشافعي وكذلك حكاه الروياني عن حكاية بعضهم وغلطه.
قال العراقي: نعم هو وجه لبعض الأصحاب قال: وأما ما ادعاه الخطابي من أكثر الفقهاء قالوا أن الجمعة فرض على الكفاية ففيه نظر فإن مذاهب الأئمة الأربعة متفقة على أنها فرض عين لكن بشروط يشترطها أهل كل مذهب.
قال ابن العربي: وحكى ابن وهب عن مالك أن شهودها سنة ثم قال: قلنا له تأويلان أحدهما أن مالكًا يطلق السنة على الفرض. الثاني أنه أراد سنة على صفتها لا يشاركها فيه سائر الصلوات حسب ما شرعه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وفعله المسلمون. وقد روى ابن وهب عن مالك عزيمة الجمعة على كل من سمع النداء انتهى.
ـ ومن جملة الأدلة ـ الدالة على أن الجمعة من فرائض الأعيان قول اللَّه تعالى “إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا ” ,
ومنها حديث طارق بن شهاب الآتي في الباب الذي بعد هذا. ومنها حديث حفصة الآتي أيضًا. ومنها ما أخرجه البخاري وغيره عن أبي هريرة:
( أنه سمع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض اللَّه تعالى عليهم واختلفوا فيه فهدانا اللَّه تعالى له فالناس لنا تبع فيه) الحديث.
أما عن حديث أبي هريرة الذي ذكره المصنف فيما تقدم في الجماعة. وأما عن سائر الأحاديث المشتملة على الوعيد فبصرفها إلى من ترك الجمعة تهاونًا حملًا للمطلق على المقيد ولا نزاع في أن التارك لها تهاونًا مستحق للوعيد المذكور وإنما النزاع فيمن تركها غير متهاون.
وأما عن الآية فبما يقضي به آخرها أعني قوله ”ذلكم خير لكم “ من عدم فرضية العين. وأما عن حديث طارق فبما قيل فيه من الإرسال وسيأتي .
وأما عن حديث أبي هريرة الآخر فبمنع استلزام افتراض يوم الجمعة على من قبلنا افتراضه علينا وأيضًا ليس فيه افتراض صلاة الجمعة عليهم ولا علينا. وقد ردت هذه الأجوبة بردود. ـ
والحق ـ أن الجمعة من فرائض الأعيان على سامع النداء ولو لم يكن في الباب إلا حديث طارق وأم سلمة الآتيين لكانا مما تقوم به الحجة على الخصم. ” اهـ .
ولست أدري ماذا أقول بعد هذا الخلاف الغير مقبول في حكم صلاة الجمعة ؟
هل أبكي أم أجذب شعر رأسي أم أحلقه بأكمله ؟ فهل يقبل أحد أن يقال عن الآية ”
ومن جملة الأدلة الدالة على أن الجمعة من فرائض الأعيان “, فساوى بهذا القول بين القرآن والسنة وجعلهما على درجة واحدة ,
بل إن السنة عنده مقدمه , فالدلالة في الآية ظنية وفي الحديث قطعية , ونجد أن الإمام البخاري استنبط من الحديث فرضية صلاة الجمعة !! , ياللعجب الآية واضحة أمامهم تمام الوضوح والأمر صريح , ولكن لأنه تعالى قال ” ذلكم خير لكم “ فيصرفه هذا عندهم من الوجوب إلى الندب ,
إذا يمكن أن أفهم أن النهي عن الزنا للكراهة وليس للتحريم لأن الله تعالى قال “ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور : 30] “ ولا حول ولا قوة إلا بالله .
الأمر صريح على الوجوب وقلنا بالكتابة لورود الآية الأخرى التي تقول أن الصلاة كانت على المؤمنين
كتابا موقوتا
والجمعة من الصلوات إذا فهي من المكتوبات , أما الخلاف هل أنها فرض عين أم فرض كفاية فخلاف عجيب , فالآية قالت ” يا أيها الذين ءامنوا ” والذي يرى أن هذا النداء لا يشمله فلا يأتي الصلاة , إذا فلا مبرر للخلاف في نوع الفرضية هل هي عين أم كفاية !! ونتابع المهزلة مع الفقهاء فياليتها توقفت عند هذا فقط :
” وعن طارق بن شهاب رضي اللَّه عنه : ( عن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض ).
رواه أبو داود وقال: طارق بن شهاب قد رأى النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم ولم يسمع منه شيئًا.
. ويؤيده أيضًا ما أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث جابر بلفظ: (من كان يؤمنباللَّه واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا امرأة أو مسافرًا أو عبدًا أو مريضًا)
وفي إسناده ابن لهيعة ومعاذ بن محمد الأنصاري وهما ضعيفان(. ………………………) وعن أم عطية بلفظ: (نهينا عن إتباع الجنائز ولا جمعة علينا) أخرجه ابن خزيمة.( ……………) قوله: ( أو امرأة ) فيه عدم وجوب الجمعة على النساء أما غير العجائز فلا خلاف في ذلك وأما العجائز فقال الشافعي: يستحب لهن حضورها. ” اهـ
والسادة الفقهاء مجمعون على جواز حضور المرأة لصلاة الجمعة !!!
ولكن نحن نرى أن الجمعة مكتوبة عليهن كما هي على الرجال , ونسأل السادة الفقهاء أن يأتونا بمثال واحد في اللغة يكون فيه الأمر واحدا لطائفتين ثم يصير لأحدهما على سبيل الوجوب والآخر على سبيل الجواز . ولو قالوا أن الأمر في هذا النداء للرجال فقط , وأن المراد من ” الذين ءامنوا ” في هذا النداء هم الرجال فقط , لقلنا أن هذا يمكن التجاوز عنه على سبيل أن النداء هنا على سبيل التغليب
ونحن نرفض وجود شيء هكذا في القرآن
وأن المراد الرجال فقط وأن النساء غير مطالبات بهذا الأمر وعليهن الظهر فقط , ولكن الفقهاء مجمعون على أنها جائزة للنساء , لم ؟ لأنهم رأوا أن النساء منذ عصر النبي ص إلى عصورهم يحضرن الجمع في المساجد , والروايات التي تشير إلى وجود النساء في خطبة الجمعة كثيرة ,
فقالوا أن النساء يجوز لهن الجمعة ولا تجب عليهن , لورود الروايات الضعيفة سندا والمردودة متنا التي تقول أن الجمعة غير واجبة على النساء , فلو قام الوضاعون بوضع الروايات التي تقول أنه لا يصح منهن الجمعة , لاكتشف ذلك مباشرة من الروايات ومن الواقع الذي يكذب ذلك , فاكتفوا بإسقاط الوجوب وجعلوها من باب الجواز , ومع مر السنين ومع اعتقاد الناس المأخوذ من كتب الفقه بجواز الجمعة على النساء , بدأ تراجع النساء عن الصلاة في المساجد حتى أنه لم يعد يصلي من النساء أحد الجمعة في عصرنا أو العصور الماضية .
وإذا سألنا السادة الفقهاء : هل صلاة المرأة في المسجد أفضل أم صلاتها في بيتها ؟ سيقول الحذاق منهم : صلاتها في المسجد أفضل , لأن الأحاديث الواردة في فضل صلاة المرأة في المسجد كثيرة وصحيحة وصريحة , ومن ذلك الروايات الكثيرة جدا الواردة في صلاة النساء الفجر والعشاء في المسجد , ولو كان صلاتها في بيتها أفضل لأمرهن النبي ص بالصلاة في بيوتهن هذه الفروض على الأقل , أما أحاديث المنع فليست من الرسول والتي تتحدث عن فضل صلاة المرأة في بيتها فضعيفة و موضوعة وبها مناكير لا تصح .
فنقول لهم : على فرض القول بالجواز وأن صلاة المرأة في المسجد أفضل , لم لا نر أحدا من النساء يصلي الجمعة في المسجد , فصلاة الجمعة للنساء في المسجد هي الفعل الجائز – على قولهم – المستحب الوحيد الذي لا يقوم به أحد من المطالبين به , فكل السنن والحمد لله يقوم بها الكثيرون ومن يفرط في هذه يتمسك بتلك
أما هذه السنة – على قولهم – التي كانت تفعلها النساء في عصر النبوة فهجرت ولم نسمع من يطالب بإحيائها مرة أخرى من الأخوة السلفيين , أليست هذه سنة أيضا ؟ ولا يحتج أحد بظهور الفساد في المجتمع , فالنساء يخرجن لجميع الحوائج , فهل تمنع من صلاة الجمعة ؟
ثم إنه من الملاحظ لكل ذي عينين أن ترك الجمعة للنساء أثر عليهن كثيرا , فمن المعروف أن معظم النساء في الجانب الديني جاهلات جهلا شبه مطبق وتنتشر بينهن الخرافات , وهذا أمر بدهي منطقي , فإذا لم يتعلمن ذلك في المدرسة ولم يذهبن إلى مسجد لصلاة عادية ناهيك عن الجمعة , فمن أين يتحصلن على العلم الشرعي الواجب ؟
و هذا الجهل واقع في عصرنا على الرغم من وجود أدوات الإعلام التي تعرض الكثير من الدروس النافعة , فلنا أن نتصور حال المرأة في العصور التي كان يكاد يحرم عليها الخروج من المنزل , فكيف كان حالها ؟ ومن سيسأل عن جهلها بأمور دينها ؟
سيقول أحدهم : دروس العلم متوفرة .
نقول : إذا ستخرج في نهاية المطاف لتذهب إلى دروس العلم في المسجد لتسمع ذلك الشيخ الفلاني , فلم منعناها من الذهاب إلى الجمعة من الأساس ما دامت ستعود إليه ؟ ونقول ختاما : إذا لم تقتنع أخي بأدلتي على وجوب الجمعة على النساء فأظهر لي دليلك !! ,
و تذكر أنها على الأقل سنة مهجورة تماما فسارع باحيائها , وتقبل الله منا ومنكم .
[1]فرض الكفاية هو الذي إذا قام به البعض سقط عن الباقي , أما فرض العين فهو الذي يجب على كل مسلم أن يقوم به بنفسه .