تصديق الذي “بين يديه” و “تفصيل الكتاب”

سأل الأخ عبدو:
1- “كيف يستقيم معنى هذه الآية ( نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ) آل عمران 
مع التفسير التقليدي بأن القرآن مصدق للكتب السابقة؟ وكيف يستقيم مع بعض الآيات الكثيرة التي تفهم بأنه تصديق للكتب السابقة؟ وكيف تستقيم مع هذه الآية ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) سبأ 31
فما هو الذي بين يدي القرآن ولا يريد الكافرون الإيمان به؟

2- وكيف يكون القرآن تفصيلا للكتاب ؟” ا.هـ

فأقول: سؤالك الأول راجع إلى أنك أخذت بفهم الدكتور شحرور ل “بين يدي” والذي قال أنه هو الحاضر وليس السابق:
” إني لأعجب تمام العجب كيف ظن الفقهاء والمفسرون أن الذي بين يديه هما التوراة والإنجيل فبذلك قصموا ظهر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حين أكدوا أنها ما جاءت إلا لتخبر الناس أن التوراة والإنجيل الموجودين في بداية القرن السابع الميلادي حين نزول القرآن هما صحيحان لا أكثر من ذلك ولا أقل من ذلك!

وإذا كان هذا هو الهدف من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فقط، فأعتقد أن أشد اليهود والنصارى تزمتاً وتعصباً سيؤيدون لك لأن بكلا من التوراة والإنجيل الحاليين هما نفس التوراة والإنجيل في القرن السابع. والأجدر بنا حينئذ نحن المسلمين أن نعتنق اليهودية أو النصرانية!! لأن الهدف من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم هو تصديق العهد القديم والعهد الجديد المعروفين في القرن السابع؟
إن “بين يديه” تعني الحاضر ولا تعني الماضي، وقد قالها صراحة في سورة آل عمران (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدىً للناس وأنزل الفرقان .. الآية) (آل عمران 3-4).

فكيف يمكن أن يكون التوراة والإنجيل هما اللذان بين يديه، مع أنه قال عنهما: (من قبل)؟ وكيف يكون (من قبل) و(بين يديه) دالين لمدلولٍ واحد؟
إذا كان الأمر كذلك، فليس لهاتين الآيتين معنى! وحاشى لله.

إن حجة المفسرين على أن “بين يديه” تعني التوراة والإنجيل هي الفهم الخاطئ للآيات التالية عن عيسى بن مريم (ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآيةٍ من ربكم فاتقوا الله وأطيعون) (آل عمران 50).

ويتضح الخطأ في الفهم بما يلي:
إن نبوة عيسى عليه السلام في الإنجيل هي استمرارية لنبوة موسى في التوراة، وليست ناسخةً لها كما أن شريعة عيسى هي نفس شريعة موسى مع بعض التعديلات (ولا حل لكم بعض الذي حرم عليكم) وقد فهمهما أهل الكتاب هكذا.
ولهذا فإننا نرى اليوم أن الكتاب المقدس عند النصارى يحتوي على أربعة مواضيع وهي (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) (آل عمران 48)، (شريعة موسى معدلة + الوصايا + التوراة + الإنجيل) لذا فإن هذه المواضيع الأربعة مع بعض تسمى (الكتاب المقدس).” ا.هـ

والحق يقال أني اقتنعت بقوله هذا لأني لم أكن بحثت المصطلح, ولمّا نظرت في التعبير وجدت أنه يدل على ما نُعبر عنه في زماننا هذا ب: “التمهيد أو التقديم”(أو: الأمامية, والتي تعني في الزمان المضي والسبق) ثم تذكرت بعد أن وصلت إلى هذا المعنى أننا نستعمل هذا التعبير بهذا المعنى كثيراً في حياتنا, فنحن نقول:
“بين يدي الكتاب, بين يدي رمضان”

والفارق بيننا وبين المفسرين أنهم قبلوا أن يُسقط مدلول “بين يدي” على القديم السابق البعيد, بينما أسقطه أنا على الذي يأتي مباشرة قبل الشيء كتمهيد له, أو كبداية له. والذي يدل على خطأ فهم الدكتور شحرور للتعبير آيات كثيرة في كتاب الله, منها:
” وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ …[الأعراف : 57]”

وقوله: ” قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [سبأ : 46]”

إذا “فالذي بين يديه” هو السابق وليس اللاحق, إذ من غير المقبول أن يصدق السابق اللاحق, بينما المعقول أن يأتي المتأخر من القرآن فيصدق ما سبق منه. وبهذا الفهم نفهم الآيات مثل قوله:
” وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ … [سبأ : 31]”

فهذا القرآن هو السورة التي يخاطبون بها والذي بين يديه هو ما سبقها, والمشكلة أننا نفهم كلمة “الكتاب أو القرآن” بمعنى القرآن كله, على الرغم من أن الله سبحانه استعملهما في مواطن كثيرة بمعنى الجزء من القرآن وليس كله, ومن أبرز هذه المواطن قوله تعالى:
” وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ … [يونس : 61]”
و: “وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ [فاطر : 31]”

بخصوص تصديق القرآن للتوراة والإنجيل نجد أن الله تعالى لم يقل في آية أنه أنزل القرآن مصدقاً للتوراة والإنجيل, (بينما قال أن عيسى والإنجيل صدقا التوراة) وإنما طالب فقط أهل الكتاب في الآيات التي تدعوهم إلى الإيمان بالكتاب أن يؤمنوا لما أُنزل مصدقاً لما معهم:
“وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ … [البقرة : 41]

وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة : 89]

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [البقرة : 91]”

إذا فالقرآن يعمم عند الحديث عن تصديقه لما مع أهل الكتب السابقة ولا يُصرح أنه مصدق لكتاب بعينه, ونحن نفهم أن المراد بتصديق ما معهم ليس مجمل الكتاب, لأن الله تعالى قال أن هذه الكتب أصابها التحريف, وإنما المراد ما جاء في الكتب من التبشير بمجيء النبي والشريعة الخاتمة, كما في قوله تعالى:
” بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات : 37]”

بخصوص السؤال الثاني: ” وكيف يكون القرآن تفصيلا للكتاب ؟”
نقول: تبعاً لقولنا السابق بأن كلمة “القرآن” و“الكتاب تطلق على كل وبعض القرآن لا يبقى هناك أي إشكال ولا حاجة للسؤال, ونزيدك فنقول:
الله قال في أكثر من موطن أن “الكتاب” (وليس القرآن وليس الكتاب بالحق) تصديق للكتاب, فنجده يقول:
” وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ…. قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة : 97]”

وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ [الأنعام : 92]

واستعمل “الكتاب” بدلاً من “القرآن”:
” وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ [الأحقاف : 30]”

بخصوص التفصيل نقول:
تمسك الدكتور شحرور بقوله تعالى: “وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ [يونس : 37]”, فجعل القرآن تفصيلاً للكتاب.
وكما قلنا فليس الحديث عن كل القرآن وإنما عن سورة منه, وعن تصديق السابق

ولم تزد الآية عن أنها قالت أن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب من الله رب العالمين.
ومسألة التفصيل ليس مسألة الفصل بين آيات بأصناف آيات أخرى, وإنما جعل الآيات باللسان العربي, فقوله تعالى:
“كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت : 3]”

يعني أن آياته جُعلت قرآنا عربياً وهو مثل قوله: ” وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ [الأحقاف : 12]”,
ويدل على هذا قوله تعالى:
“وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت : 44]”
فتفصيل الآيات هو بإخراجها من العجمة وجعلها عربية وليس بفصل أنواع عن أخرى, والله أعلى وأعلم.

عن عمرو الشاعر

كاتب، محاضر لغة ألمانية مدير مركز أركادا للغات والثقافة بالمنصورة، إمام وخطيب يحاول أن يفهم النص بالواقع، وأن يصلح الواقع بالنص وبالعقل وبالقلب. نظم -وينظم- العديد من الأنشطة الثقافية وشارك في أخرى سواء أونلاين أو على أرض الواقع. مر بالعديد من التحولات الفكرية، قديما كان ينعت نفسه بالإسلامي، والآن يعتبر نفسه متفكرا غير ذي إيدولوجية.

شاهد أيضاً

نقد رفض التعقل

من الأقوال المستفزة والمنتشرة بين العدميين –وأشباههم وأنصافهم- مقولة:“لا يوجد معنى في الطبيعة … نحن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.