تبدأ السورة بقوله تعالى “الر” وهي من الحروف المقطعة, ولقد أفاض العلماء في الحديث حول هذه الحروف, فمن قائل أنها أسماء السور وقيل أنها أسماء الله عزوجل وقيل أنها أبعاض أسماء الله تعالى مثل “الر حم ن” وهذا قول لا دليل عليه ! وقيل أنها أسماء القرآن, وقيل أن كل واحد منها دال على اسم من أسماء الله تعالى
قال ابن عباس رضي الله عنهما في (آلم) : الألف إشارة إلى أنه تعالى أحد، أول، آخر، أزلي، أبدي، واللام إشارة إلى أنه لطيف، والميم إشارة إلى أنه ملك مجيد منان ، وقال في: { كهيعص } إنه ثناء من الله تعالى على نفسه، والكاف يدل على كونه كافياً، والهاء يدل على كونه هادياً، والعين يدل على العالم، والصاد يدل على الصادق وهكذا!
وهذا اجتهاد
وقيل أن الله تعالى إنما ذكرها احتجاجاً على الكفار ، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما تحداهم أن يأتوا بمثل القرآن، أو بعشر سور، أو بسورة واحدة فعجزوا عنه أنزلت هذه الحروف تنبيهاً على أن القرآن ليس إلا من هذه الحروف، وأنتم قادرون عليها، وعارفون بقوانين الفصاحة، فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن، فلما عجزتم عنه دل ذلك على أنه من عند الله لا من البشر،
وقيل أن الله تعالى علم أن طائفة من هذه الأمة تقول بقدم القرآن فذكر هذه الحروف تنبيهاً على أن كلامه مؤلف من هذه الحروف ، فيجب أن لا يكون قديماً!
وقيل أنها قسَم , وتوقف بعض الصحابة فيها وقالوا أنها مما اختص الله بعلمه وقيل أنها مما يدل على تميز القرآن عن غيره من الكتب السماوية فلم توجد الحروف المقطعة في التوراة والإنجيل مثلا, وقيل غير ذلك كثير من الأقوال وكلها أقوال اجتهادية لا دليل ولا حجة دامغة على ما يقولون!
ونحن ندلي بدلونا أيضا في هذا الباب فنقول : إنا نرى والله أعلم أن الحروف المقطعة هذه مرتبطة بطريقة تخزين المعلومات في الكتاب عند الله عزوجل.
فنحن لا نزال نستعمل الحروف كحروف ولا نستعملها ككلمات!
المنهج الشائع والمنتشر هو أن اللغة اعتباطية وأن وقوع الاسم على المسمى هو من باب التوافق والمصادفة وأنه لا رابط يربط بين الاسم ومسماه في الواقع ! ولكن ثمت منهج يقول بالقصدية في اللغة فيرى أن الحروف نفسها تحمل معنى في ذاتها فهي دال ومدلول في نفس الوقت أي أن حرفا مثل الحاء أو الدال أو الراء يحمل معنى في ذاته لأن هذا الصوت له باتفاق بعض الصفات من رقة وغلظة وحدة وسرعة وبطء ومناسبة وتنافر وتكرار وثبات إلخ
وكذلك ما يوجد في الطبيعة من مخلوقات أو مجردات له بعض الصفات من رقة وغلظة وحركة وسكون وكبر وصغر ولما كان الإنسان الأول على فطرته وكانت اللغة في تلك الفترة لا تزال نسيجا بسيطا يشكل ويُغير استعمل الإنسان النسيج اللغوي العربي الذي أعطاه الله إياه عبر سيدنا آدم ليصف ما يراه في الطبيعة بما يراه مناسبا من الحروف وبهذا تكونت الكلمات بما يناسبها من الأصوات التي هي أصل الحروف وليست هكذا اعتباطا بدون أي مناسبة أو اعتبار!
ومعنى الحرف هذا لا يمكن التعبير عنه بكلمة واحدة وإنما يمكن أن يختزل بصعوبة في جملة تشير إلى المدلوت الرئيسة للحرف.
أما كيفية التوصل إلى المعنى الرئيس للحرف فعملية طويلة تحتاج إلى جهد جهيد وعمل دؤوب من أجل جمع معاني الحرف الشاملة ويحتاج الأمر فيها إلى تقص الكلمات التي ورد فيها الحرف ومراعاة الحروف الواردة في بناء الحرف نفسه بعد الصوت الأساسي له , يعني مراعاة “الياء والنون” في السين مثلا بعد الصوت “س” وكذلك طريقة بناء الحرف نفسه, فهل هو من المكررات الصوتية مثل “ن و ن” أو “م ي م” أو “واو”, أو من من الممدودات المهموزة مثل “باء تاء ثاء حاء خاء راء طاء ظاء فاء هاء ياء ” حيث يوجد إحدى عشر حرفا منتهية بنهاية واحدة بعد الصوت الأساسي للحرف وهذا يدل على وجود اشتراك في المعنى بدل اشتراك المبنى, أو مما انتهى بالياء والنون مثل “س ين ” “ش ين ” ” ع ين ” ” غ ين ” , أو مما انتهى بالألف والفاء مثل ” ق اف ” ” ك اف ” , أو ما انتهى بالياء والميم مثل “ج يم” و “م يم” , أو ما انتهى بالألف واللام مثل “د ال” “ذ ال”, أو ما انتهى بالألف والدال مثل ” ص اد ” ” ض اد ” ومنها ما كان فريدا في نهايته مثل: “أ لف ” أو ” ز اي ” و ” ل ام”
وكذلك نبحث في معنى الحرف ككلمة ف “ألف” مثلا كلمة لها معنى معروف شامل, وهو كما جاء في المقاييس:
الهمزة واللام والفاء أصل واحد، يدلُّ على انضمام الشيء إلى الشيء، والأشياء الكثيرة أيضاً “
ونلاحظ أن أول حروف الهجاء هو الهمزة وليس الألف , فالهمزة هي ما تكتب هكذا ” أ ” , أما الألف فيكتب هكذا ” ا ” ! ويحتاج الأمر كذلك مراعاة صفات الحرف الصوتية ومخارج الصوت من الفم وكيفية تشكله ! وبهذا كله يمكن الوصول إلى المدلول الإجمالي للحرف!
واستعمال الله عزوجل للحروف المقطعة هو أكبر دليل على أن هذه الحروف كحروف تحمل مدلولا في ذاتها وإلا كان استعمال الله عزوجل لها – تعالى عن ذلك – عبثا وتوضح أنه يجب علينا أن نبحث عن مدلول هذه الحروف حتى نصل إلى مغزى الحروف المقطعة –.
نعود إلى حديثنا عن قوله ” الر”:
نحن لا نزال نستعمل الحروف كحروف فقط مرتبطة ببعضها لتكوّن كلمات ومن هذه الكلمات تتكون جملا .
وهذه الجمل هي التي نستعملها في لغتنا للتواصل ونستعملها في تدوين معارفنا في الكتب . ولكن ليست الكلمات والجمل هي الوسيلة الوحيدة لتدوين المعارف فنحن نرى على سبيل المثال أن الحاسوب لا يستعمل في لغته إلا الأرقام, بل رقمين اثنين فقط وهما الواحد والصفر , ويستعملهما بأشكال وتركيبات مختلفة تخرج في نهاية الأمر على شاشة الحاسوب على شكل كتابة وصور وصور ومتحركة وصوت!
لذا فنحن نرى أن هذه الحروف المقطعة هي التي تستعمل في الكتاب الذي يدون فيه أحداث الكون الجارية والتي جرت وهذا هو الكتاب المبين!
لذلك فعندما يذكر الله عزوجل الحروف المقطعة في أول السور ويقول: تلك آيات الكتاب, أو ما شابه من الآيات فإنه يشير بذلك إلى أصلها وبذلك يكون الكلام مستقيما متسقا متصلا
إذا نحن فهمنا من هذا أن المراد من الحروف المقطعة هو العلم الإلهي المخزن المضغوط المختزل في هذه الحروف فإنه يجب علينا البحث في معنى هذه الحروف حتى نستخرج المعنى المراد من استعماله تعالى الحروف المقطعة كذا أو كذا في أول أي سورة, وبداهة إلى نصل إلى المعنى الكلي المختزل في الكلمة ولكن على الأقل سنصل إلى المعنى الإجمالي الذي نسطيع به أن نصل إلى ارتباط هذه اللفظة بمعاني السورة وغرضها ولم أن الله تعالى استخدمها بخلاف غيرها من الألفاظ التي لا تتناسب مع هذه السورة
وعند النظر في أول سورة يوسف نجد أن الله تعالى يقول : ألف لام راء , فإذا نحن نظرنا في المعنى الأولي الشامل لهذه الحروف ككلمات – ونستخرج هذا المعنى الكلي من معجم مقاييس اللغة لابن فارس – وجدناه كما يلي :
ألف : الهمزة واللام والفاء أصل واحد، يدلُّ على انضمام الشيء إلى الشيء، والأشياء الكثيرة أيضاً “
لام : اللام والألف والميم أصلان: أحدهما الاتِّفاق والاجتماع، والآخر خُلُق ردِيء.( وهو اللؤم بداهة !)
فالأول قولُهم: لأَمْت الجُرْحَ، ولأَمت الصَّدْع، إذا سَدَدت. وَإذا اتَّفق الشّيئانِ فقد التأَما.
راء : الراء والهمزة أصلٌ يدلُّ على اضطراب، يقال رأْرَأَت العينُ: إذا تحرَّكتْ من ضَعْفها. ورأْرأَت المرأةُ بعينها، إِذا بَرَّقَت. ورأْرأَ السّرابُ: جاء وذَهَب ولمح. وقالوا: رأْرَأْتُ بالغَنَم، إذا دَعَوْتَها. فأمّا الرّاءة فشجرَة، والجمع راءٌ.
فإذا نحن نظرنا في السورة من أولها إلى آخرها وجدنا أنها تسير في ظلال هذه المعاني الثلاثة فهي تدور في فلك انضمام الأشياء إلى بعضها وتكثيرها فيوسف كان مضموما إلى أبيه ثم ضم إلى العزيز ثم إلى الملك ثم إلى المُلك ! وأخو يوسف يضم إلى يوسف و عائلة يوسف كلها تضم إلى يوسف وتأتي إلى مصر فتنضم إليها ومصر كلها تضم إلى دين الله عزوجل بدعوة يوسف عليه السلام ”
ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا ” وكذلك الكثرة وهذا ما نلاحظه في الترقي العام لأفراد القصة فهم ينتقلون من قلة إلى كثرة وزيادة ونماء وخير .
واللام تدل على اتفاق واجتماع وهذا واضح تمام الوضوح في القصة – وكذلك يظهر في هذه السورة المعنى والأصل الثاني ل ” لام ” وهو اللؤم – .
وهذان المعنيان معنيان عامان يظهران تقريبا في كل السور والأحداث ومن الممكن إسقاطهما على كل واقعة بشكل من الأشكال
لذا نلاحظ أن هناك سور بدأت بحرف واحد ومنها ما بدأ بحرفين أو أكثر , ولكن نلاحظ أنه لم تبدأ أي سورة في القرآن بالألف واللام فقط وإنما كان هناك دوما ما يثلثهما أو يربعهما . – ولوجود هذا المعنى العام في الألف واللام استعملا كأداة التعريف العامة في اللغة وكذلك استعمال في التعميم والتجنيس ! –
والراء أصل يدل على اضطراب ولكنه ليس اضطرابا فوضويا فهو وإن كان في اضطراب ذو تكرار معين منتظم ! – وهذا ما يقول به علم اللغة القصدي ! – وهذا ما نلاحظه في الكلمات التي أوردها ابن فارس عند ذكر نماذج للراء وما نلاحظه في نطق الحرف ذاته !
ونحن نلاحظ معنى الراء في السورة فهي تقص علينا وتخبرنا أنه على الرغم من التوافق والانضمام والكثرة التي نتجت في آخر القصة فإن الأعم والغالب في أحداث هذه القصة هو الاضطراب وكذلك التكرار , ولا يحتاج المرء إلى الحديث عن أوجه الاضطراب في القصة فهذا يراه كل إنسان ,
أما التكرار فهو تكرار بعض وقائع القصة وتصرفات بعض أبطالها بشكل معين في المناسبات المختلفة وهذا ما سنشير إليه بإذن الله عند التعرض التفصيلي للقصة , وكذلك التكرار العام للأحداث والدوافع في كل زمان ومكان , فالحقد الأسري والمكيدة من أجل الانفراد بالمنفعة المادية أو حتى الروحية ! وكذلك التردي – من ما يراه الإنسان حسنا- إلى وضع سيء ثم الانتقال والتمكين في آخر المطاف بتدبير الله عزوجل وكذلك التعلق الأسري الشديد والعفة والمراودة وغيرها من المعاني التي ذكرته السورة هي من الوقائع التي تتكرر دوما وستتكرر في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة .
فكل هذا يخبرنا الله عزوجل به في كتابه الكريم من خلال قوله تعالى ” الر “ , والذي وصفه بقوله ” تلك آيات الكتاب المبين ”
فإذا نحن انتقلنا من الحروف المقطعة ونظرنا في الآية التالية وجدنا أن الملمح الرئيس فيها هو قوله تعالى ” الكتاب المبين ” والشائع والشهير أن المراد من الكتاب المبين هو القرآن الكريم !
وهذا القول من عجيب الأقاويل المنتشرة في تفسيركتاب الله تعالى , فعلى الرغم من أنه قيل أن المراد من الكتاب المبين هو اللوح المحفوظ ولكن هذا القول غير مشتهر والشائع والمنتشر والمشتهر أن الكتاب المبين هو القرآن الكريم ! , فهل المراد من الكتاب المبين هو فعلا القرآن الكريم أم أن المراد منه غير ذلك ؟
لنحدد المعنى المراد منه نتتبع هذه التركيبة في كتاب الله عزوجل لنرى كيف استعملها الرب الخبير وما هو السياق الذي وردت فيه :
إذا نحن نظرنا في سورة يوسف وجدنا أن الله تعالى أردف بعد ذلك بقوله ” إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ” , و جاء في سورة الشعراء : طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ “ وفي سورة القصص : ” طسم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ , نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق “ وفي الزخرف : ” حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ” , وفي الدخان : ” حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ “ .
وفي كل هذه السور ورد الكتاب المبين معرفا ولكنا نجد أن الله تعالى يقول في بعض السور أنه أنزله , كما جاء في سورة الدخان , ويقول في أخرى أنه جعله قرآنا عربيا , كما في الزخرف.
والجعل يعني التغيير والتحويل وهذا يعني أنه كان قبل ذلك لم يكن قرآنا ولا عربيا فلو كان الكتاب المبين هو القرآن العربي فكيف جعل ؟
وفي سورة أخرى يقول أنه أنزله قرآنا عربيا , كما في سورة يوسف ! ولو كان المراد من ” الكتاب المبين ” هو القرآن , لكان معنى الكلام : الر تلك آيات القرآن . إنا أنزلناه قرآنا عربيا ! ويفترض في القرآن أنه ما صار قرآنا إلا عندما قرأ ونزل إلى الأرض وأصبح بين البشر كتابا , فما معنى أن يقول الله تعالى : إنا أنزلنا القرآن العربي الذي هو بين أيديكم قرآنا عربيا ! إن هذا من المفهوم بداهة ! أما إذا كان الكتاب المبين غير ذلك , بدليل ما سنذكره من الآيات القادمة وبدليل الجعل في سورة الزخرف ” إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ “ , فيجب علينا أن نبحث عن معناه , وبداهة سيكون البحث في القرآن , ومنه ستأتينا الإجابة .
إذا نحن تتبعنا تركيبة ” كتاب مبين ” في القرآن نجد التالي :
” وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ “
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ “
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ “
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ “
النمل : طس تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ “
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) “
وأعتقد أن مجرد عرض هذه الآيات كاف ليتوصل القارئ إلى أن المراد من الكتاب المبين هو الكتاب الذي ذكره سيدنا موسى ردا على فرعون في سورة طه ” قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى “
فهو الكتاب الذي يحوي علم الله عزوجل , وهذا الكتاب كما قلنا يحوي ما كان وما يكون فهو يحوي الأحداث والوقائع التي حدثت في الأزمنة الغابرة
وهذا الكتاب مدون بطريقة أخرى تعتمد الحروف العربية بشكل مخالف لاستعمالنا نحن
وهذا ما استقيناه من قوله تعالى ” الر تلك آيات الكتاب المبين ” فمن الممكن أن تكون الحروف تستعمل بشكل معين مركب لا نفهمه نحن
فإذا كان الكمبيوتر يستعمل رقمين إثنين فقد يكون يُستعمل في هذا اللوح الحروف كاملة أو ما ذكره الله فقط من الحروف في كتابه بشكل مجرد !
ومن هذا الكتاب المبين الذي يحوي ما كان وما يكون والمدون بشكل مختلف أنزلت السور القصصية !
وهي السور التي تخلو من أحكام فقهية مباشرة هي التي تبدأ بقوله تعالى ” تلك آيات الكتاب المبين “
وهذه السور هي يوسف والشعراء والقصص
وهي كلها قصص مأخوذ من التاريخ وليست مؤلفة فأخذت من الكتاب المبين وأنزلت وجعلت – أي حولت وغيرت – قرآنا عربيا حتى يفهمه الناس ويعقلون ويتدبرون ويستخرجون العبر
أما ما كان فيه غير القصص التاريخي فجاء فيها قوله تعالى ” تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ “ ففيها من الكتاب المبين – الحوادث والتاريخ – وفيها غير ذلك , لذلك استعمل الله كلمة ” القرآن ” .
نخرج من هذا كله بأن المراد من الكتاب المبين هو كتاب الحاوي لعلم الله تعالى والذي جعل وأنزل على شكل قرآن عربي , وعلى هذا الفهم يستقيم معنى الآيات وينساب , ويكون كالتالي :
الر ( حروف مقطعة وهي الشكل الموجود في الكتاب المبين )
تلك أي الحروف المقطعة آيات الكتاب المبين , والآية هي العلامة !
إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون : أي أن الله أنزل الكتاب المبين بواسطة الملائكة على شكل قرآن عربي لكم أيه البشر لعلكم تعقلون .
أما مسألة أن الله عزوجل جعله عربيا ولم يجعله بأي لسان بشري آخر فهذا ما سنفرد له الحديث عند الحديث عن أولية وأمية اللغة العربية للغات العالم وكيف أن اللغات كلها تفرعت منها ونبعت وكيف أنها لسان آدم الذي علمه الله إياه .
ولكن نقول هنا فقط أن ” العربي ” في اللسان العربي هو الفصيح المبين , ويقابله ” الأعجمي ” أي غير الفصيح غير المستقيم الذي لا يستطيع الإبانة , وكل لغات العالم أعجمية لأنها انحرفت عن النهج العربي في استعمالها للحروف ومدلولاتها والعلاقة بين الدال والمدلول .
إذا فالله أنزل الكتاب المبين على شكل قرآن فصيح بليغ مبين لعلنا نعقل ونستخرج الحكمة من فعل الله عزوجل في قديم الدهر وكذلك فعل البشر! , والتاريخ مكرر ويعيد نفسه ” كما ذكرنا في معنى حرف الراء ” , فما حدث قديما سيحدث حديثا وعلى الإنسان الاتعاظ من أفعال السابقين ” .
وبعد ذلك يقول الله تعالى ” نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن “ أي أن الله العظيم الكبير يقصص على محمد بواسطة الملائكة أحسن القصص بالذي أوحى به إليه هذا القرآن والذي أوحى الله به القرآن هو اللغة العربية بدليل قوله تعالى ” إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون “
فكذلك جعلت القصص عربية بنفس اللسان العربي المبين حتى نعقل ونتدبر ونستخرج العبرة والعظة ! وكذلك أوحى الله هذا القرآن إلى محمد بالحق ” إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق … ”
و كذلك أنزل الله تعالى الكتاب بالحق مهيمنا على الكتب السابقة ومصححا لها .
يقول الواحد الأحد في الكتاب الفريد “ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ “ويقول ” إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون “ فباللسان العربي المبين وبالحق والعبرة وبالتصديق لما بين يديه وتصديق ما ورد في التوراة وتصحيح بعض ما فيها وبالهداية يقص الله على محمد أحسن القصص , وكل هذه المعاني مستخرجة من آخر السورة لقوله تعالى ” لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون “ ولعموم المعاني استعمل الله عزوجل ” ما ” ولم يستعمل ” الذي ” ولوجود الوسيلة الواسطة استعمل أسلوب اسم الموصول العام الداخل على الفعل ولم يستعمل الصيغة المصدرية مثل ” نحن نقص عليك أحسن القصص بوحينا هذا القرآن ” كما يفسر الآية بعض المفسرين !
ونستخرج من قوله تعالى ” هذا القرآن “ أن المراد منه هنا هو سورة يوسف نفسها وكذلك جواز إطلاق لفظ ” القرآن ” على كل القرآن وعلى بعضه فمن الممكن القول أن المراد من هذا القرآن القرآن عامة أي جنس القرآن ومنه بداهة سورة يوسف فيصح وصفها ب ” هذا القرآن ”
كما استعملها الله عزوجل هنا في هذه السورة , وجواز استعماله معرفة أو نكرة كما جاء في سورة يونس عليه السلام ” وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ “
” وإن كنت من قبله لمن الغافلين “ أي من قبل هذا القرآن من الغافلين عن أحداث قصة يوسف فلم يكن لك بها علم أو خبرة أو دراية .والله أعلى وأعلم .